اسم بلجرشه.. شعار يهتف به أولاد المدارس في بلغاريا، معناه "إنني بلغاري!"، باعتزاز.. يقولون إنهم أعطوا السلافيين، وروسيا منهم، أساس اللغة التي ابتكرها عالم منهم.. ويعترفون بضعفهم، فقد حررهم الروس مرتين؛ الأولى من العثمانيين الأتراك، بواسطة القيصر الروسي ألكسندر نيفيسكي الذي يقع تمثاله في الميدان الكبير، ممتطيًا جواده.. والثانية بواسطة الرهيب جوزيف ستالين الذي حررهم من النازية.. زعيمهم هو جيورجي ديميتروف الذي حنطت جثته، وتعرض في ساحتهم الحمراء المماثلة لتلك السوفياتية أمام باحة صوفيا الفسيحة التي لا تعبرها السيارات.. اعتذرت عن رؤيته لطوابير الانتظار الطويلة عنده، أطول من طوابير الآيس كريم المحبب للناس.. يقولون إن أول زعيم حكمهم -ديميتروف- سُجن في أيام هتلر، لاتهامه بإحراق مبنى الرايخشتاج الألماني في برلين!
البلغار فيهم بعض العصبية تجاه الأجانب، باستثناء السوفييت الذين يقدسونهم، لما ذكرت من أسباب.. ولخوفهم! عنا نحن يحقروننا بإطلاق صفة "التسيجاني" علينا.. ومعناها الغجري.. وفيهم كثير من الغجر يعملون في الأعمال الوضيعة، كالكناسة، والتنظيف، وما إليها، ولقينا ماسح أحذية واحدًا فقط من أصل غجري، مسحنا الأحذية عنده في شارع نيفسكي، مع أن كل الحرف والمهن والأعمال الحرة، بلا استثناء، تابعة للقطاع العام كالحلاقة، والخياطة، والطباخة، وكل المطاعم.. وكل شيء ملك للدولة هناك.. إذا رأوك تصطحب معك فتاة يشتمونك بألفاظ كثيرة لم أعرف منها غير اسم: تسيجاني، غجري يعني.
شرق مباني الجامعة في دارفانيتسا، يقع جبل فيتوشا الشهير الذي لا تذوب ثلوجه طوال السنة.. وتحته مطعم جميل وبار كنا نرتاده أنا والأستاذ الجامعي عبدالرقيب، والصديق الطبيب المصري صلاح بسيوني، والدكتور وهيب عبدالرحيم، وصاحبي في الدورة الداسية.. هناك نحتسي البيرة قبل العشاء.. البيرة البلغارية هي أسوأ أنواع البيرة في العالم، وأرخصها.. القارورة بسعر علبة الكبريت.. نعم لا تستغربوا.. تباع كأنها الماء، ولا يقبل على شربها إلا المضطر، اسم الله على بيرة صيرتنا..
ذات مساء، وفي غياب د. وهيب، اقترب وجلس معنا بلغاريان، وبدأ أحدهما بالتحرش بنا، ورمينا بالكلام.. سأل وأجبنا.. كم تحصلون شهريًا من فلوسنا؟ وقلنا 120 ليفة.. هاج وماج وشتم بأقذع الألفاظ.. وعزمنا عليه من بيرتهم تلك لإسكاته.. شرب وواصل استفزازه، وصاحبه ساكت، سأل: كيف تعيشون؟ في عشش أم تملكون سيارات؟ ماذا تأكلون؟ هل أنتم جميعًا سمر، وسود، وبينكم بيض أم لا؟ كان عبدالرقيب يترجم بمرح وسخرية.. وكنت مستفزًا، فأردت تولي الإجابة.. قلت وعبدالرقيب يترجم كلامي له: شوف يا بروليتاري.. سأقول لك.. نحن أصلًا رباح نعيش فوق الشجر.. ومنا من يوصفون بالرباح في الجبال! ولا نملك من العلم إلا ما تتكرمون به علينا.. ولا نعرف من النقود إلا الليفات التي تمنحونها لنا.. فنحن في بلادنا نتعامل بالمقايضة! وقلت له أخيرًا: فإذا كنت أنت حمارًا.. فأنا أكثر حمورية منك.. وتردد عبدالرقيب في الترجمة.. لكنه ترجم بشدة وقسوة، وأضاف من عنده ما أثار حفيظة البروليتاري البلغاري، فهاج وماج وتلاطمنا أنا وإياه.. لطمته مرة، ولطمني مرتين.. وزدته لكمة تدخل على إثرها رقيب، وباعد بيننا.. لكن فجأة، وكأن الأرض انشقت وخرج منها عسكريان يقال لهما المليتسيا، أي المليشيا التي تحافظ على الأمن العام، محل البوليس.. فحصا بطاقاتنا.. وأخذا البروليتاريين معهما، وتركونا.
انتقلنا بعدها من البيرة المش مليحة، إلى أفضل المشاريب في بلغاريا التي يسمونها: دوماشنا راكية، أي عرق البيوت، المصنوع في البيوت، ويساوي البلدي.. ثم قدم لنا المطعم كبدة مشوية كبيرة الحجم لم أرَ مثلها في حياتي، وأتحدى أي شخص يستطيع أكلها كاملة.
أو سم ديسيت، أي رقم 80، هو رقم الباص الذي نستقله من الجامعة إلى وسط المدينة، حيث يقع مقر صوفيا برس.. سألنا مدير الوكالة: ما الذي تريدون تعلمه منا في هذه الدورة؟ سؤال عجيب من المعلم لتلميذه.. قام الأخ محمد عبدالله عمر، وهو خريج إيطاليا، ويجيد لغتها مع اللغة الإنجليزية، بتقرير مقترح منا لما نريد تعلمه، ودارت دورتنا بين الصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون. طلبوا مني مساهمة في مجلة "بلغاريا الجديدة"، فكتبت لهم مقالًا شرفوني بنشره.. لكن الحق أقول لكم إن كل ما واجهناه هناك من علوم ومعارف ومهارات، كنا أولريدي نعرفها بداهة في مؤسساتنا، وربما نتفوق في بعضها على البلغار أنفسهم! لذلك اعتبرت الإقامة هناك عبارة عن تنفيس وتغيير جو وسياحة إن شئتم.. وكان لا بد أن نطرح الأمر على السيد سكرلاتوف، وهو المسؤول في الدولة والحزب هناك عن العلاقات مع الدول العربية.. كان قد تعلم اللغة العربية العامية العدنية من عدن، أيام كان عندنا قبل الاستقلال بسنين.. وكان مدير المركز التجاري البلغاري الواقع في الشارع الرئيسي بالمعلا.. وفي سنينه تلك تعلم اللهجة العدنية، واللغة العربية بعض الشيء، وكان روفل كبير زي أي واحد من عيال السوق!
يا سيد سكرلاتوف.. مللنا.. لم نعد نجد عندكم ما نتعلمه، ولا نريد إضاعة المزيد من وقتنا ووقتكم.. نطلب تحويل زيارتنا هذه إلى تجربة سياحية نطوف فيها بكل المحافظات والمدن البلغارية.. تمام؟ خراتشو؟ خراتشو وإلا مو خراتشو، وفي قلبي أقول: قل خراتشو يا روفل وابن
السوق!
قال: تمامو.. تماموف.. بس بخر أسود موش ممكن الآن..
قلنا: ليش موش ممكن يا روفل؟
قال: عدن مرة واحد تمام.. بكرة نعزم عليكم غداء في ريسترانت بلكان، ونتكلم، هناك نأكل لسان في مرق.. ونتكلم..
إذن، موعدنا على أكل اللسان بكرة.