كانت الأسطورة وعاء لاستيعاب الأفكار وأسئلة الإنسان حول الكون، ومع مرور الزمن ورثتها الرواية لتصبح هي الوعاء الفني الذي تصب فيه الرؤى والتساؤلات الشائكة، محاولة بذلك استيعاب وفهم العالم .
وكما ظهرت أنواع عديدة من الفن الروائي، كان ظهور الروايات الفانتازية أو الخيالية كوسيلة فنية للتعبير عن المواضيع الشائكة، وتشييد واقع حكائي ذي رمزية مكثفة، بل تسعى إلى وضع الواقع واللاوقع موضع الاحتمال.
رواية " يوم مات الشيطان" لأحمد قاسم العريقي
تعد الفانتازيا أحد المصطلحات النقدية المستحدثة على الساحة الأدبية، فهي تقنية سردية تقوم على تجاوز الواقع إلى اللاواقع، والمنطق إلى اللامنطق، إذ تقوم بتفكيك مكونات الواقع، وتعيد تشكيل أبعادها وإنتاجها على وفق رؤية مغايرة، وتحيلها إلى افتراضي.
والنص الفانتازي يعد نصًا منتجًا لثقافة مبعثها الواقع المعاش ووظائفه النسقية التي تشكل رؤية للعلم، وقد أصبحت السردية الفانتازية محورًا بارزًا في استراتيجية الكتابة القصصية والروائية، تهتم بتكسير القوالب الواقعية الضيقة، والبحث عن طرائق للترميز وتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية، ومن ثم فإن مهمة الكاتب الفانتازي، كما يقول أبتر تيري، هي استجلاء إمكانات خارج حدود المعقول، والرغبة في انتزاع معنى من اللامعقول.
وهذا يقودنا إلى أن الحداثة إعادة نظر في المرجعيات والقيم، وهي رؤية جديدة تعبر عن المقلق والعجائبي، وتجديد في اللغة، وتحرير للمخيلة، وتجاوز الحدود التي تفصل بين الواقع واللاوقع.
رواية "يوم مات الشيطان"، إحدى روايات الكاتب أحمد قاسم العريقي، المعروف عن مشروعه الروائي الذي يحمل الكثير من القضايا الاجتماعية والفكرية النابعة من البيئة اليمنية، والذي اهتم بمناقشتها بأسلوبه الفني الخاص، كما في روايته "زهر الغرام"، التي طرح فيها قضية المهمشين، ونظرة المجتمع الدونية تجاههم، وروايته "عرس على صفيح ساخن"، التي ناقشت قضية الصراع السياسي في اليمن، وغيرها من الروايات.
أما في روايته التي نناقشها هنا، فإنه يخوض في قضايا حساسة، أهمها قضية الأديان، والتطرف الديني بالذات، فكان ابتداعه لعالم فانتازي يكشف من خلاله خطورة استغلال الأديان، وتوظيفها سياسيًا، لتصبح سلاحًا للقمع والسيطرة.
يبدأ السرد بانفجار ينتقل من خلاله بطل الرواية من الواقع إلى عالم أشبه بالجنة، ولكنه ليس بالجنة التي وصفت في السرديات الدينية، بل هي عالم متطور أنشأه الإنسان بفضل سعيه وجهده العلمي. وشخصية البطل في الرواية أشبه بآدم الذي سيطرد من جنته، ويعود إلى الأرض، ليواجه مأساوية الحياة من جديد.
والجنة التي ابتدعها السرد عالم فانتازي يستثير مخيلة القارئ، ويضعه أمام احتمالية وجود عالم بصيغة مختلفة عن عالم المرويات الدينية، فالجنة هي المكان الذي سيصنعه الإنسان إن امتلك وسائل التقدم والتطور، والجنة أو العالم الذي انتقل إليه البطل، هي صورة اليمن المتخيلة في المستقبل، التي ستكون ضمن نظام عالمي واحد يحكمه العلم.
تنقل السرد بين العالم الواقعي لمروان، والعالم الذي انتقل إليه (العالم الفانتازي)، ليضعنا أمام مقارنة بين اليوتوبيا والديستوبيا.
والديستوبيا تتميز غالبًا بالتجرد من الإنسانية، فهي نتاج الحكومات الفاسدة والكوارث البيئية، ينتشر فيها المرض والفقر والجهل، يقابلها اليوتوبيا، وهي المدينة الفاضلة.
واختار الروائي المرأة ممثلة عن العالم المثالي "اليوتوبي" الذي مكّن المرأة لتكون هي العنصر المهم في نشوئه واستقراره. فنجد أنه يلحق الأسماء بالأمهات، كما أطلق على العديد من الشوارع والمنشآت أسماء نساء، بل أصبحت المرأة هي القائدة والعالمة، والرئيسة، والمتصرفة بشؤون الأسرة، والحاكمة للرجل.
في هذا العالم الجديد نقف مع أسئلة البطل حول ما يراه غريبًا وغير منطقي، يخوض صراعًا بين ما عاشه واقتنع وآمن به، وبين ما يراه في هذا العالم، فالصفات البشرية كالكذب والتجسس والأنانية والغيرة والغضب وغيرها، لم يعد لها وجود هنا، يعيش بين حورياته حسب تعبيره الذي ورثه من ثقافته القديمة، يستمتع في هذا العالم، ولكنه يظل ينتقد ويعترض، حتى بعد أن أخضع لأخذ جرعات من لقاح الأديان، فمازالت الأفكار والبيئة والمعتقدات تتحكم به. ولقاح الأديان هو اكتشاف العصر الجديد في القرن السادس والعشرين الميلادي، أو كما سماه الكاتب عصر بعد الإنسان الجديد، وهذا اللقاح يحد من الجين الأناني، وهي معلومة استقاها الروائي من كتاب علمي يحمل نفس التسمية .
أتاح السرد استعراض تاريخ الأديان المتنوعة، في إطار استرجاعي لعصور غابرة، ووضعها في متحف التاريخ، ليصبح المتلقي أمام مقارنة للأديان، ليكتشف أنها من منبع واحد تحمل نفس الأفكار، وأن الأديان السماوية قد اخذت من الأديان القديمة للشعوب، ربما تعددت وتنوعت الأديان والمعتقدات، واختلفت في تصورها للإله، ولكن منبعها واحد، ويؤدي للهدف المنشود منها، لولا إدخالها في الصراعات البشرية، واستغلالها سياسيًا.
مروان الذي أصيب في حادث انفجار في "عطان" صنعاء، تعرض لتجربة أشبه ما تكون بمغامرة روحية، فقد انفصلت روحه، وانتقلت لعالم موازٍ، أو صورة موارزية لعالمنا، هي صورة عالم المثل، رأى نفسه وسط كائنات لا تختلف عن البشر، في يمن مستقبلية، مختلفة عن الواقع، روح دون جسد مرئي، ولكنه بعد فترة يحتل جسدًا آخر، ليصبح مرئيًا، وتخوض روحه الهمجية صراعًا مع أفكار العالم الجديد، وبعقلية من ينظر إلى الجنة بنظرته الدنيوية إلى نسائها وملذاتها.
وظف السرد الفانتازي عالم الأفكار والنظريات العلمية، والمعتقدات والأديان، في لغة بسيطة وسهلة لنقد الواقع الاجتماعي السياسي، كنظرية العالم الموازي أو الأكوان المتوازية التي جاء بها في عام 1954، هيو إيفيرت، حيث ترتكز على فكرة جذرية: وهي أنه يوجد أكوان متوازية تشبه كوننا. كل هذه الأكوان في الواقع هي أكوان متفرعة منا، وكوننا متفرع أيضًا من أكوان أخرى.
خلال هذه الأكوان المتوازية، حروبنا لها نهايات مختلفة عما نعرف، فالأنواع المنقرضة في كوننا تطورت وتكيفت في الأكوان الأخرى، وفي تلك الأكوان ربما نحن البشر أصبحنا في عداد الفصائل المنقرضة.
إلى جانب العوالم الموازية، نجد في الرواية توظيفًا لنظرية الإسقاط النجمي، وهو تفسيرٌ افتراضيّ لحالَةِ الخروجِ من الجسد، وذلك بافتراضِ أنّ هُناكَ هيئةً نجميّة تنفصل عن الجسد الفيزيائي قادِرة على السفر خارجه. ويُشير المصطلح إلى قدرة الشخص على ترك جسمِه، والسفر عبر الجسم الأثيري لأي مكانٍ يريده. وفكرة الإسقاط النجمي موجودَة منذُ القِدم في العديد من الديانات حولَ العالم.
كما ركز السرد في أبعاد شخصية البطل الاجتماعية وخلفيته الدينية، فهو متدين تقليدي شارك في عمليات إرهابية، ومعارك باسم الدين، في حرب 94، وحرب أفغانستان، تصور أن النساء في العالم المختلف هن حوريات الجنة، فلم يستوعب أنه قد يكون هناك عالم أشبه بالجنة تصبح فيه النساء على نمط غير ما صورته الأفكار الدينية، من أنهن خلقن فقط للمتعة ولإشباع غرائز الرجل، وهي نفس الصورة المنتقلة من الحياة الدنيا إلى الآخرة.
وهنا يصدم البطل في صورة المرأة الجديدة كنتاج مستقبل توصل إلى بنائه تطور العلم، وبعد اختراع اللقاح الذي أنهى أنانية الذكر وسيطرته، وجعل من الأنثى أساسًا في حكم ذلك العالم، طرحت الرواية أيضًا موضوع اللغة المتداولة، وهي اللغات المختلفة ولغة عالمية مشتركة، فليس هناك استحواذ عنصري على اللغة، وليست اللغة العربية فقط هي ما ستكون على ألسنة أهل الجنة.
دلالة العنوان
تنطلق الشفرة اللغوية للسرد من العنوان نفسه، وتتضح أهميته في الكشف عن أهم ملابسات النص، فهي الرسالة الأولى التي يسعى الكاتب إلى تبليغها للقارئ؛ بهدف إثارة فضوله، وتحريضه على قراءة النص. إذ يعد جزءًا أساسيًا من الشبكة الدلالية العامة للنص، وله قدرة جسيمة على أن يلفت انتباه القارئ.
ويرى أمبرتويكو أن "مفتاح التأويل يلتصق بالعنوان".
وهنا اختصر العنوان الذي اختاره المؤلف أسباب نشوء ذلك العالم المثالي أو يوتوبيا الإنسان، فحين يموت الشيطان من نفوس البشر سيصير العالم أجمل، الشيطان كقيمة للشر ممثلة في صفات الإنسان ونوازعه السيئة.
وكما نقول في علم السرديات إن العنوان هو عتبة النص، فهو يضع القارئ منذ البداية على عتبة التساؤلات: هل سيموت الشيطان؟ وكيف؟
وتركيب العنوان الدلالي يقودنا لمنطقة تأويل "معنى الشيطان"، وكيف يمكن أن يموت، وهل سيكون الشيطان حاضرًا في النص ككيان؟ ومن خلال تقدم السرد يجد القارئ أن الشيطان ليس إلا مجموع صفات الإنسان السيئة، التي سيخوض معها طوال السرد صراعًا عنيفًا، ويوم يموت الشيطان المتمثل في هذه الصفات، يكون العالم مثاليًا.
دلالة أخرى يحيلنا إليها العنوان، وهي دلالة عدم اليقين إلى أنه وإن استطاع الإنسان أن يقتل الشيطان يومًا، لن يلبث إلا أن يبعثه مرة أخرى للحياة، ليخوض معه معاركه التي لن تنتهي.
وهو خاتمة السرد حين عاد مروان إلى عالمه الواقعي، وطُرد من جنته، بعد أن عاش في عالم فردوسي ونعيم مقيم، إلا أن صفاته الشيطانية ظلت في نفسه، ولم يستطع التخلص منها .
الرواية هي رحلة الإنسان داخل نفسه، وصراعه بين الخير والشر، يظل باحثًا عن المعنى وعن وجوده، وقلقًا من العدم. وقد قدمت الرواية استشرافًا لمستقبل عالمي جديد، ونحن اليوم نرى ما تصل إليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فالبشر اليوم متصلون بشبكة معلوماتية واحدة، مرتبطون عبر وسائل الاتصال التكنولوجية. ما نفكر به وما نبحث عنه نجده أمامنا في محركات البحث، وقد يصل الإنسان إلى أن تعرض ذاكرته أمامه كما حدث لمروان في ذلك العالم