صنعاء 19C امطار خفيفة

في طريق الذكرى السابعة لرحيل المؤرخ الكبير الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه

في طريق الذكرى السابعة لرحيل المؤرخ الكبير الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه

لا أتذكر العبارات التي ودعته بها غداة رحيله، بيد أنني ما زلت أذكر الإشارة إلى آخر أحلامه في هذه الدنيا بأن يمد الله في أجله عاماً أو عامين ليرى كتابه المهم والأخير منشوراً بعد أن أخذ منه أكثر من عشرين عاماً بحثاً وترحالاً؛ لكنه –ويا للأسف!– رحل قبل أن تتحقق أمنيته، وما زالت لم تتحقق حتى الآن.


والكتاب –موضوع هذه الإشارة– كما سبق وكرر لي القول هو خلاصة جهده العلمي في كتابة التاريخ، ويضم أهم الفصول عن تاريخ اليمن القديم الضارب في أعماق الزمن، بما لا يمكن لباحث تصوره أو تصديقه به قبل أن يقرأ الأدلة والبراهين التي جمعها بين دفتيه، وكيف أن هذا الوطن قامت على أرضه أهم حضارة شهدتها البشرية في أقدم عصورها. وهنا، وفي طريق ذكراه السابعة، أتوقف أولاً لكي أطرح سؤالين اثنين هما:

أولاً: لماذا لم يجد هذا المؤرخ الكبير والعالم الجليل ما يستحقه من إنصاف وتكريم، ولم تقم أية جهة من الجهات التي تبادر في مناسبات كثيرة إلى تكريم هذا أو ذاك، وتنسى أو تتناسى قمة فكرية وتاريخية كالدكتور بافقيه، تركت لنا الكثير مما نعتز به ونفاخر ببقائه؟!

ثانياً: أين كتاباته التي أنجزها في الفترة الأخيرة من حياته ومنها كتابه الذي سبقت الإشارة إليه، والذي كان يتحدث عنه باعتزاز ويرى أنه الخلاصة الحقيقية لجهوده في كتابة التاريخ، وأنه سيرد بوضوح تام على أسئلة كثيرة من المؤرخين العرب والأجانب والمستشرقين بخاصة، ويصحح جوانب كثير من الأخطاء التي وقع فيها البعض منهم أو وقعوا فيها جميعهم، ومن ذلك ما سمي بـ"تاريخ العرب البائدة"، وعن منطقة الأحقاف وما كان لها في التاريخ من آثار مشهودة، وكل ذلك بالوثائق التي لا تقبل الشك؟!

وبعد هذين السؤالين (والإجابة عليهما تشكل بالنسبة لي هماً شخصياً) أعود إلى الحديث عن علاقتي الوثيقة بالراحل الكبير الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، والتي بدأت منذ عام 1973 في مصر وفي جامعة القاهرة بخاصة، فقد كان يومئذ يشغل منصب السفير للشطر الجنوبي من الوطن، وكان واضحاً أن اهتمامه بالقراءة والبحث العلمي أكثر من اهتمامه بالشأن السياسي، وأنه جاء إلى القاهرة -كما ذهب بعد ذلك إلى باريس- لينكفئ على البحث، ويبتعد ما استطاع عن أجواء الصخب والضجيج اللذين كانا قد أغرقا الوطن بشطريه.

لذلك فقد جمعتني به المكتبة الشرقية لكلية الآداب، حيث كان يمضي جل وقته في منأى عن السفارة. وفي هذه المكتبة كان يقرأ ويدون ملاحظاته. صحيح أننا التقينا كثيراً في السفارة وفي منزله، بحضور عدد من المثقفين السياسيين البارزين في مصر العربية، لكن لقاءاتنا الأعمق والأكثر حميمية كانت هناك في مكتبة كلية الآداب بجامعة القاهرة، بين آلاف الكتب، وبالقرب من كبار الأساتذة الذين يكاد الفضاء الصامت ينقل الناعم والخفيف من أصداء أصواتهم.

لم تطل إقامة الدكتور بافقيه في القاهرة، فقد انتقل سفيراً في باريس، ثم مندوباً دائماً لدى اليونسكو، وهناك بدأ دراسة اللغة الفرنسية وأجادها وتواصل عبرها مع المستشرقين من أبنائها والمعنيين باليمن وآثاره ونقوشه. وفي باريس أنشأ مع هؤلاء مجلة "ريدان" الدورية التي تخصصت بالآثار والنقوش، وكانت وما تزال إحدى المراجع المهمة في هذا المجال. وفي هذه الفترة حصل على دكتوراه الدولة في جامعة السوربون، وأصدر مجموعة من الدراسات والكتب المتعلقة بالتاريخ وبالآثار والنقوش، وبعضها بالتعاون مع عدد من المستشرقين، منهم المستشرق الفرنسي كريستيان روبان، وكتاب بالتعاون مع هذا الأخير ومع عالم اللغويات العربي الدكتور محمود الغول.

وعندما عاد الدكتور بافقيه إلى الوطن بعد مشواره الفرنسي الطويل والغني بالمنجزات عُيّن رئيساً للهيئة العامة للآثار والمتاحف والمخطوطات حتى عام 1995، حيث عين مستشاراً لوزارة الثقافة وتفرغ لإنجاز كتابه البالغ الأهمية والذي لم ينشر منه حتى الآن سوى الجزء الخاص بـ"توحيد اليمن القديم" والذي قام بطبعه ونشره المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء في عام 2007.

وكان قبل وفاته بشهور قد وعدني أن يبعث بنسخة مصورة منه مخطوطته مع ابنه الطبيب الدكتور علوي محمد عبدالقادر، لكن القدر كان أسرع إليه، إذ وافاه الأجل في 18 أغسطس 2002 عن عمر ناهز 75 عاماً حافلة بكل جليل من الأعمال ابتداءً بالتدريس والصحافة وإدارة المعارف في محافظة حضرموت إلى وزارة التربية والتعليم والاهتمام بالمجال التربوي، حيث ترك أوضح البصمات وصولاً إلى عملية الدبلوماسي وإعطاء كل وقته لتاريخ اليمن القديم وما ظهر حتى الآن من نقوش ولقى أثريه عن المراحل التي سبقت الإسلام والمسيحية واليهودية بعشرات القرون.

ووفاءً له وتقديراً لجهوده في حقل التاريخ يستحق أن يسمى باسمه أحد الشوارع في عاصمة الوحدة، وأن يطلق على إحدى المؤسسات العلمية أو إحدى قاعات الجامعة والمراكز الثقافية، وطبع كتاباته المخطوطة مع إعادة كتبه المنشورة، وذلك أقل ما يستحقه من إنصاف وعرفان.

وفي ختام هذه الإشارات نجدد الإشارة إلى أننا في العقدين الأخيرين من هذا الزمن الرديء افتقدنا في بلادنا وفي الوطن العربي عدداً من الأعلام والمشاهير. لكن حزني الأكبر يتمركز حول علمين من أولئك الأعلام، هما الدكتور محمد عبد القادر بافقيه؛ لأنه لم يشهد ثمرة جهوده الأخيرة التي لم ترَ النور وهي خلاصة المرحلة التي أمضاها مقيماً وباحثاً في باريس واطلاعه على فيض هائل من المعلومات المتعلقة بتاريخ البحث القديم مضافاً إليها المعلومات التي اختزنها أو بالأحرى أفادها من عمله رئيساً للهيئة العامة للآثار والمتاحف والمخطوطات.

وأما العلم الثاني فهو الدكتور جواد علي، ذلك الراهب العلمي الذي انعزل على مدى ربع قرن لاستكمال ما بدأه في كتابه الموسوعة "المفصل في تاريخ العرب"، والموسوعة وما أضاف إليها في عزلته وقفاً على تاريخ اليمن القديم، إلاَّ أن جهوده الأخيرة، كما الحال مع جهد الدكتور بافقيه، غابت في زحمة الأحداث ولم يتمكن أحد من العثور على أهم اكتشافات الدكتور جواد، التي أوضح لي في رسالة منه أن ما توصل إليه عن تاريخ اليمن القديم وعلاقته بشعوب العالم القديم يعد أهم بكثير مما ورد في كتاب "المفصلـ" بما لا يقاس.

*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً