- تعتبر العملة الوطنية والعلم الوطني رمزين سيادين للدولة، ولا يقبلا الثنائية أو التعدد، فالعلم يجسد المكانة السياسية للدولة في حدودها الجغرافيةْ، البرية والبحرية والجوية، مع الدول المجاورة ومع دول العالم، وتخوض الدول حروبا ومعارك طاحنة رفعة لشأن علمها في أرضها وعلى حدودها، ووجود علم آخر لدى جماعات معينة في إطار الدولة الواحدة قد يشير إلى النزعة الإنفصالية ويهدد استقرار الدولة وسلامتها، والعملة تمثل المتانة والقوة الاقتصادية للدولة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي..
فاستقرار سعر العملة أمام العملات الأجنبية يعكس مدى سلامة البرامج والسياسات الاقتصادية المتبعة في الاقتصاد وقدرته على تحقيق النمو والتوازن أو الفائض في الموازين المحلية والخارجية،وتبذل الدول قصارى جهدها للمنافسة مع الدول الأخرى في المجال الصناعي أو الزراعي أو التجاري أو الخدمي بهدف زيادة الصادرات ودعم قوة العملة، بل تخوض حروبا اقتصادية وتجارية بهدف ضمان استقرار عملتها والحفاظ على قوتها الشرائية والحرص على عدم تدهورها أو تقلبات سعر صرفها، الصين وأمريكا، مثالا. وقد تفرض الدول عقوبات وحصار اقتصادي على دولة معينة بهدف إسقاط رمزها الاقتصادي، وهو العملة، مثال ذلك، ما تمارسه الدول الغربية حاليا تجاه روسيا مستهدفين إنهيار العملة الروسية "الروبل".
- تختلف العملة الوطنية عن العلم الوطني في أن لها ارتباط وثيق بمجمل المعاملات المتعلقة بالأنشطة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية لجميع الأفراد والمؤسسات والشركات في الدولة من خلال الوظائف المتعارف عليها للعملة واستخدامها كوسيط للمعاملات والمبادلات، وكمخزن للثروة في شكل أصول مالية أو عقارات أو غيرها وكوسيلة لتسوية المدفوعات بين الدائنين والمدينين.
ولذلك فإن المصلحة العليا لليمن الموحد تستلزم وجود عملة وطنية واحدة وتصدر من مؤسسة نقدية واحدة، ولها قوة إبراء قانونية واحدة تضمنها الدولة الموحدة، كما أن هناك ضوابط وقواعد تحكم الإصدار النقدي الجديد "طباعة النقود"، أهمها معدل النمو الاقتصادي في البلاد ومعدل التضخم وتوفر الاحتياطيات المناسبة من النقد الأجنبي لدعم سعر العملة في سوق الصرف، والتنسيق مع المنظمات الدولية المعنية بتقديم الدعم المالي والفني للمحافظة على الاستقرار النقدي على المستويين المحلي والدولي،
البنك المركزي اليمني صنعاء (ارشيف)
وخلال العامين الماضيين من فترة الهدنة، كان هناك نقاش جاد ومسؤول لوضع تصورات لتوحيد السياسة النقدية في الاقتصاد، باعتبار ذلك أولوية عاجلة يمكن إنجازها بالتعاون والتنسيق بين قيادات البنك المركزي في كل من عدن وصنعاء. وكما هو معروف، فإن البنك المركزي يعتبر مؤسسة مستقلة عن الحكومة في الدستور والقانونْ وهو محكوم بالقانون رقم (21) لعام 2003، ولذلك فإن عناصر التقارب بين البنكين أكثر بكثير من عوامل التباعد والإنقسام، بمعنى آخر، إذا توفرت الإرادة والنوايا الحسنة لدى طرفي الصراع بالجنوح للحوار والترتيب لمرحلة السلام، فإن مؤسسة البنك المركزي قد تمثل نموذجا ناجحا لإعادة التوحيد المؤسسي ووضع الترتيبات التنظيمية والإدارية والفنية، (مثل: تشكيل مجلس إدارة مشترك من بنكي عدن وصنعاء، والربط الشبكي بين جميع الفروع بالجمهورية... إلخ)، والذي سينتج عنه بالتأكيد توحيد العملة الوطنية وتوفير السيولة الملائمة، وهذا سيقود إلى استقرار الأوضاع الاقتصادية في عموم البلاد.
أهداف البنك المركزي
حدد قانون البنك المركزي اليمني رقم (21) لعام 2003م في المادة ( 5) أن "الهدف الرئيسي للبنك هو تحقيق استقرار الأسعار والمحافظة على ذلك الاستقرار وتوفير السيولة المناسبة والملائمة على نحو سليم لإيجاد نظام مالي مستقر يقوم على آلية السوق."
فالقانون حدد مجالين مهمين لتحقيق أهداف البنك وهما:
1- تحقيق الاستقرار في الأسعار والمحافظة على ذلك الاستقرار، والأسعار هنا تشمل الأسعار في الأسواق المختلفة، وهي أسعار السلع والخدمات "معدل التضخم"، وأسعار الصرف في سوق الصرف الأجنبي وأسعار الفائدة في سوق رأس المال والاستثمار وأسعار ساعات العمل "الأجور" في سوق العمل، وحيث أن سوق رأس المال وسوق العمل غير مرنة أو شبه جامدة في حالة الاقتصاد اليمني، فإن معدل التضخم ومعدل سعر الصرف يعتبران مؤشران مهمان للدلالة على مدى سلامة أو اعتلال الاقتصاد، وهناك تلازم بينهما، فتدهور سعر صرف العملة يؤدي إلى إرتفاع مستوى أسعار السلع والخدمات، كما أن الاستقرار في الأول يؤدي إلى استقرار الآخر.
2- توفير السيولة المناسبة والملائمة على نحو سليمْ، وهنا يأتي دور البنك المركزي في إدارة العرض النقدي وضمان عدم الإفراط في زيادة السيولة النقدية لأن ذلك يقود إلى ارتفاع معدلات التضخم والذي يعتبر كارثة اقتصادية في أي بلد، كما يؤدي إلى عدم استقرار النظام المالي والمصرفي في الاقتصاد.
مشكلة ندرة السيولة
يمكن القول أن كلا من سلطتي عدن وصنعاء ساهمتا في تفاقم ندرة السيولة القائمة في مناطق سلطة صنعاء، فبنك مركزي عدن أفرط في طباعة النقود لتمويل نفقات سلطة عدن، نتج عنه فائض في السيولة وتحول إلى المضاربة في سعر الصرف وتدهور القوة الشرائية للريال في مناطق عدن، وبالمقابل اتخذ بنك مركزي صنعاء إجراءات غير رشيدة ساهمت في استفحال ندرة السيولة منها:
- تجريم استخدام بعض الإصدارات وبعض الفئات من العملة المصدرة من بنك عدن، بما فيها كل الفئات النقدية 100 و 200 ريال، واستمر في استخدام التالف من تلك الفئات وغيرها، مما عكس سلوكا بدائيا بالتعامل مع العملة التالفة، بل أصبحت مصدرا للأمراض وخاصة للأطفال والمسنين،
- إصدار قانون منع التعاملات الربوية الذي جرم كل صيغ التعامل مع البنوك، إيداعا وإقراضا، والذي مثل انتكاسة كبيرة للنظام المصرفي وقضى على مبادئ المصداقية والموثوقية بين المدخرين "المودعين" والبنوك المختلفة - التجارية والإسلامية والتمويل الأصغر وحتى التوفير البريدي- من جانب، وبين البنوك المختلفة والمستثمرين "المقترضين" من جانب آخر، مما جعل البنوك خاوية على عروشها، خاوية من المودعين والودائع الجديدة ومن المستثمرين والإقراض الجديد، وأصبح معظم المتعاملين مع البنوك يحتفظون بالسيولة النقدية في الخزانات أو بالبدرومات أو لدى الصرافين، بعيدا عن الحسابات في البنوك، مما عمق من مشكلة السيولة في الجهاز المصرفي وفي الاقتصاد ككل.
معالجة ندرة السيولة
إن معالجة ندرة السيولة أو استبدال التالف أمر في متناول يد البنك المركزي في صنعاء، ويمكن معالجة ذلك بجرة قلم، كما يقال، وهو أن يصدر تعميما لرفع الحظر عن استخدام العملة الجديدة الصادرة عن بنك مركزي عدن، وخاصة فئات 100 و 200 ريال لمعالجة مشكلة التالف من هذه الفئات، أو الفئات ذات الطبعة العريضة من فئة 500 و 1000 ريال كأولوية عاجلة.
وبالتزامن مع ذلك، يمكن البدء بالتنسيق والتعاون بين قيادات البنك المركزي في كل من صنعاء وعدن واتخاذ إجراءات للرفع التدريجي للحظر على بقية الفئات من العملة، ويمكن البناء على التفاهمات التي تمت بين البنكين لمعالجة أزمة التحويلات النقدية بين مناطق صنعاء ومناطق عدن وتوقيف حرب الحظر للبنوك وشركات الصرافة من الجانبين.
وبحسب تقارير البنك المركزي عدن، فإن لدية كتلة نقدية كبيرة لم يضعها حتى الآن للتداول، وفي ضوء التفاهمات بين البنكين يمكن استخدام هذه الكتلة لحل مشكلة السيولة في مناطق صنعاء، وبذلك يكون البنكان قد ساهما في توفير السيولة المناسبة والملائمة على نحو سليم وعملا على إيجاد نظام مالي مستقر يقوم على آلية السوق، كما ورد بالقانون.
مخاطر طباعة العملة في صنعاء
كما أشرنا سابقا، فإن قيام البنك المركزي في صنعاء بطباعة عملة جديدة يمثل مسمارا قويا في نعش الاقتصاد الموحد للبلاد، ويعمق الانقسام الاقتصادي، فطباعة العملة دون الالتزام بالضوابط والمعايير المذكورة سلفا سيؤدي إلى فتح الشهية لدى حكومة صنعاء لزيادة الإنفاق العام، سواء على النفقات الجارية بما فيها المرتبات أو على النفقات الاستثمارية. وبالتأكيد، فإن تغطية هذا الحجم الكبير من الإنفاق سيتم تغطيته عن طريق طباعة نقود جديدة، وسيدخل الوضع المالي والنقدي في حلقة مفرغة، ستقود حتما إلى تدهور سعر صرف الريال في صنعاء، والذي سيدخل في سباق ماراثوني مع سعر صرف الريال في عدن، وقد يصل كل منهما إلى 2000 أو 3000 ريال للدولار، وربما أكثر من ذلك، وهذا له مخاطر عديدة على أكثر من جانب، منها:
- اشتعال أسعار السلع والخدمات وارتفاع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، مما سيؤثر سلبا على مستوى معيشة الناس وخاصة الفئات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود.
- انهيار القيمة الحقيقية لثروات الأفراد والتجار والشركات المخزنة بالريال، وسيؤثر سلبا على أداء القطاع الخاص في التجارة والاستثمار وفي تقييم الملاءة المالية له.
- انتشار حالة عدم اليقين والهلع لدى الشركات والمؤسسات التجارية المتعاملة بالريال مما ينعكس سلبا على قراراتهم التجارية والاستثمارية.
والنتيجة هي أن طباعة العملة في ظل الظروف الراهنة من قبل بنك مركزي صنعاء أو عدن ستشكل ألغاما متفجرة في طريق توحيد الاقتصاد والوطن بشكل عام، وستنقل الوضع الاقتصادي الراهن من حالة شبه الاستقرار إلى حالة التقلبات والاضطرابات وإلى نتائج كارثية لا يحمد عقباها على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
المطلوب تحييد الاقتصاد
كل الشواهد تدل على أن قيادات سلطتي صنعاء وعدن، وخاصة قيادات البنك المركزي في السلطتين، عليهم مسؤولية تأريخية في معالجة الأوضاع الاقتصادية بحكمة ورشادة، وأن يحرصوا على تحييد الاقتصاد في جوانبه المالية والنقدية والتجارية، والنأي به عن التجاذبات والمماحكات السياسية، التي للأسف تمارس التقسيم والتشطير في أبشع صوره.
إن الآمال معلقة على قيادة البنكين في أن يستشعروا الخطر الداهم من تشطير الاقتصاد ويترفعوا عن المغامرات قصيرة الأجل والبصر ويضعوا في رؤيتهم وحسبانهم اليمن الموحد، أرضا وإنسانا، على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغيره، وعليهم أن يكونوا أداة خير للم شمل هذا الوطن المهدد بالتمزق والتشرذم من أعدائه في الداخل والخارج، وعليهم أن يجعلوا من البنك المركزي في صنعاء وعدن مؤسسة بناءة تساهم بشكل فعال في التعافي الاقتصادي وإعادة إعمار ما دمرته الحرب وفي معالجة القضايا المعقدة مثل صرف مرتبات موظفي الدولة وإدارة الموارد السيادية للدولة من عوائد تصدير النفط والغاز ومن الضرائب والجمارك وغيرها، إن أمام البنكين جدول أعمال وطني كبير في مرحلة ما بعد الحرب، وأن عليهم واجب وطني لتعزيز أداء الاقتصاد الموحد حتى يؤثر إيجابا على الأداء السياسي والذي نأمل أن يشهد انفراجا في القريب العاجل إن شاء الله...