لا يخفى على المتابع لأخبار كرة القدم، الضائقة المالية التي يعاني منها نادي "برشلونة" الإسباني، إذ يواجه النادي الكاتلوني العديد من المتاعب على مستوى عقد الصفقات لتعزيز صفوفه بوافدين جدد يرفعون من جودة التشكيلة التي يشرف على تدريبها الإسباني تشافي هيرنانديز، واحد من أساطير النادي كلاعب.
ولا يقتصر الأمر على إبرام الصفقات والتفاوض مع لاعبي الأندية الأخرى لاستقدامهم، بل يتمادى أثر العجز المالي لنادي برشلونة ليعرقل مسألة تسجيل عقود اللاعبين الذين اتفقت معهم إدارة النادي لتجديد عقودهم، لكن قوانين اللعب المالي النظيف حالت دون قدرة النادي على تسجيل هذه العقود في سجلّات رابطة الدوري الإسباني.
هذه المعضلة هي أوّل ما يتوجّب على إدارة النادي التفاعل معها، والتوصّل لصيغة مناسبة تقنع مسؤولي الرابطة الإسبانية بإمكانية تسجيل اللاعبين الذين تم تجديد عقودهم، في حدود قدرة النادي على الوفاء ببنود هذه العقود دون خرق قواعد اللعب المالي النظيف.
فبينما يلعب النادي الكاتلوني مباراته الأولى في الدوري الإسباني يوم الأحد، الموافق للثالث عشر من أغسطس، لا يمتلك -حتّى موعد نشر هذا التقرير- سوى 11 لاعبًا مسجّلًا في قوائم الرابطة الإسبانية، هؤلاء اللاعبون هم فقط من يستطيع المدرّب الاعتماد عليهم وإشراكهم في منافسات الدوري الإسباني، حتى تتم تسوية هذه المسألة.
هذه صورة واحدة من صور المشكلات التي يعاني منها النادي نتيجة لأزمته الاقتصادية، بخلاف الديون التي بلغت مليارًا ونصف المليار يورو؛ كأكبر مديونية بالنسبة لنادٍ أوروبي.
ما وصل إليه النادي الكاتلوني من حالٍ مزرٍ فتح الباب للعديد من التحليلات التي تدرس الوضعية الاقتصادية للنادي، وتستقصي أسبابها وجذورها.
ولمحاولة فهم الموقف المالي المعقّد للنادي، من المهم العودة إلى الوقت الذي كان فيه نادي "برشلونة" أغنى أندية أوروبا، وأعلاها تحقيقًا للعائدات الماليّة. فمثلًا، في موسم 2018/2019 كسر النادي حاجز المليار يورو من حيث العائد السنوي، في رقمٍ قياسي غير مسبوق في تاريخ الأنديّة الرياضيّة.
قبلها بعامٍ واحد، حصل النادي على ما يقارب ربع مليار يورو مقابل انتقال نجمه البرازيلي نيمار إلى صفوف النادي الفرنسي "باريس سان جيرمان"، بعد أن قام الأخير بكسر عقد اللاعب مع ناديه السابق ودفع قيمة الشرط الجزائي.
كل ما سبق أثار ذهول الوسط الرياضي بعد أن كُشف الستار عن أزمة اقتصادية حادّة تضرب أركان النادي الكاتلوني، وطرح مجموعة من الأسئلة عن خفايا هذا التحوّل السريع في موقف النادي المالي: أين -وكيف- تبدّدت كل تلك الأموال؟! لا سِيّما وأنّ النادي لم يكن في أحسن أحواله على المستوى الرياضي في المواسم الأخيرة، بل على العكس من ذلك، مُني بهزائم منكرة، تحديداً على صعيد المنافسات القاريّة للأندية الأوروبية.
ولاية بارتوميو الرئاسية
شغل جوزيب ماريا بارتوميو منصب رئيس نادي برشلونة منذ مطلع 2014 حتى أواخر العام 2020. في هذه الفترة الزمنيّة حقّق النادي لقب دوري أبطال القارّة الأوروبيّة مرةً وحيدة، بالإضافة لمجموعة من ألقاب الدوري الإسباني. كما أن تشكيلة الفريق خلال هذه الولاية الرئاسية احتفظت ببعض نجوم الحقبة الذهبية للنادي الكاتلوني، وعلى رأسهم الأرجنتيني ليونيل ميسي.
كل هذه العوامل حفَّزت النمو الاقتصادي للنادي، وأسهمت في تحقيق عائدات ماليّة قياسيّة على المستوى الرياضي.
لكن، مثلما كان النادي يُدرّ الكثير من الإيرادات، كان، في المقابل، ينفق الكثير من المال؛ ما يجعلهُ عاجزًا عن الوفاء بالتزاماته وتوفير المبالغ اللازمة لسداد ديونه.
هذا الاختلال في التوازن ما بين إيرادات النادي ومصروفاته، يعود بالدرجة الأولى لسياسات إدارة الرئيس بارتوميو، التي فضّلت في أوقات كثيرة عقد صفقات الهدف منها تلميع الصورة الإعلامية للإدارة على حساب المردود الفنّي للأسماء المُستقدمة، حتّى إن بعض الصفقات تمّت بدون استشارة المدرب والاستماع لاحتياجاته ومتطلباته.
ولم تكن مشكلة هذه الصفقات فقط في المبالغ التي أُنفقت لِقاء شراء عقد اللاعب من ناديه، بل أيضًا في الرواتب التي قُدّمت لهؤلاء اللاعبين؛ إذ دأبت إدارة النادي على تقديم عروض فاقت نظائرها في السوق بأضعاف، سواءً بالنسبة لعقود اللاعبين أو المبالغ التي مُنحت لوكلاء أعمالهم لإغرائهم بالتعاون مع النادي وإدارته.
ومن أوضح أمثلة هذه العقود الفلكيّة التي وقّعتها الإدارة، سواء عقود التجديد للاعبي الفريق أو عقود اللاعبين المُنتدَبين، هو العقد الذي وقّعته إدارة النادي مع نجم الفريق ليونيل ميسي، في العام 2017، لتجديد عقده مع النادي لمدة أربعة أعوام مقابل 555 مليون يورو.
كان هذا هو أغلى عقد للاعب في تاريخ كرة القدم، وبقيَ كذلك حتى بداية مشروع السعودية الرياضي.
عقد ميسي لوحده كان يمثّل 40% من فاتورة رواتب الفريق.
هذه الأرقام غير المنطقيّة، والتي لم تخضع لقوانين وسياسات محدّدة تُحافظ على سلّم رواتب النادي ضمن الحدود الآمنة ماليًّا، أدّت في نهاية المطاف إلى استنزاف معظم إيرادات النادي فقط للالتزام بدفع مستحقّات اللاعبين من رواتب ومكافآت.
استمرت إدارة النادي على هذا النهج حتى أصبحت فاتورة رواتب الفريق في وقتٍ ما تشكّل أكثر من 100% من إيرادات النادي؛ هذا أسهم، في الأخير، مع العديد من قضايا الفساد التي تورّطت فيها إدارة النادي، والفشل الواضح للإدارة على كافة المستويات، في تراكم الديون وتضخّم العجز المالي بالنسبة للنادي.
وفي الوقت الذي كان فيه النادي بحاجة شديدة لمعجزة تخلّصه من أزمته البالغة، جاءت جائحة كورونا لتدفع النادي إلى منحدر لم يكن في حسابات أكثر المتشائمين من عشّاق الفريق، إلى الحد الذي أصبح فيه مستقبل النادي مهدّدًا بأزمة مستدامة، وربّما الإفلاس في نهاية المطاف.
في فترة الجائحة، كان النادي يخسر نسبة كبيرة من مداخيله، في المقابل مصروفات النادي لم تشهد انخفاضًا موازيًا، بل على العكس من ذلك، كان هنالك ارتفاع نسبيّ بسبب عقود اللاعبين التصاعدية؛ ما جعل إدارة النادي مضطرة لإعادة التفاوض مع لاعبي الفريق لخفض مرتباتهم.
أزمة النادي المستمرّة أدّت إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بعزل الرئيس من منصبه، سواء من قبل جماهير الفريق على مستوى العالم أو حتى أعضاء النادي، لكن الرئيس قرر في الأخير استباق إجراءات الإقالة بتقديم استقالته.
إدارة جديدة للنادي في خضمّ كارثة مالية تعصف بالنادي
في شهر مارس من عام 2021، جرت داخل أسوار النادي الكاتلوني انتخابات رئاسية تنافس فيها خوان لابورتا مع مرشّحَين آخرين.
نتائج الانتخابات أعادت خوان لابورتا إلى منصبه للمرّة الثانيّة، بعد ولاية سابقة شهد خلالها النادي نجاحًا ملموسًا على المستوى الرياضي.
الذكريات الجيّدة للرئيس الجديد لابورتا لدى الجماهير، حفّزت تفاؤل مشجعي الفريق المستمسكين ببصيص أمل لتدارك الموقف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في وقت قياسي.
وضمّ مجلس الإدارة الجديد ماثيو أليماني كمدير مالي للنادي، وهو رجل يُعرف في إسبانيا بخبرته في مثل هكذا مواقف؛ بسبب العديد من تجاربه الناجحة في الإدارات الماليّة لبعض الأندية في إسبانيا.
كما قام الرئيس، بعد أشهر قليلة من تولّيه رئاسة النادي، بإقالة مدرب الفريق رونالد كومان، أحد أساطير النادي كلاعب، وعيّن بديله تشافي هيرنانديز، واحد من الذين حضروا ولاية الرئيس الأولى عندما كان لاعبًا.
وكان الرئيس الجديد قدّم العديد من الوعود لجماهير النادي، وطرح في حملته الانتخابية الخطّة التي يعتزم تنفيذها لإنقاذ النادي من أزمته.
كان العمل على تجديد عقد ميسي من ضمن الوعود التي حرص لابورتا على استغلالها في حملته الانتخابية، لكنه في الأخير فشل في الوفاء بوعده.
وعلّل لابورتا فشله بتجديد عقد ميسي بأنّ الأزمة الماليّة التي وجد عليها النادي أكبر من تلك التي قدّرها.
إعلان الرئيس لمفاجأته من حجم الكارثة التي يمر بها النادي أصابت تفاؤل الجماهير في مقتل، وأعادتهم إلى دائرة الشك والقلق إزاء مستقبل النادي من جديد.
الرئيس عاد بعدها لطمأنة جماهير النادي بأنّه -وعلى الرغم من حجم الأزمة الماليّة للنادي- يملك حلولًا فاعلة للتعامل مع هذه المشكلات الماليّة، وتأمين مستقبل النادي.
إجراءات اتّخذتها الإدارة الجديدة
من الحلول المستعجلة التي لجأت إليها الإدارة لتحسين موقف النادي المالي، وتعزيز الفريق بلاعبين أكفاء يدعمون حظوظه في العودة إلى منصّات التتويج، هي الروافع الاقتصاديّة التي تم تفعيلها.
تتمثّل هذه الروافع ببيع جزء من أصول النادي، مثل نسبة من حقوق البث، وبيع حصّة من الشركة التي تدير البضائع الرسميّة للنادي، مقابل مبالغ نقديّة تقدّرُ بمئات الملايين من اليوروهات، مكّنت النادي من عقد صفقات لتعزيز الجودة الفنّية لتشكيلة الفريق.
كما أسهمت مبالغ الروافع الاقتصادية في إحراز تقدّم طفيف على مستوى فاتورة رواتب الفريق، بالإضافة إلى أن أجزاء من هذه المبالغ ذهبت لسداد جزء من ديون النادي القديمة.
بيع نسبة من أصول النادي يعدُّ خطوة تحمل الكثير من المخاطرة بمستقبل النادي، كونها تعني خسارة جزء من مداخيل النادي لعقدين ونصف من الزمن تقريبًا.
الرئيس دافع عن قراره بتفعيل الروافع الاقتصادية بقوله إنّها الطريقة الوحيدة لتدعيم صفوف الفريق؛ من أجل المنافسة على الألقاب، كما أنّه يراهن على أن النجاح على المستوى الرياضي سيولّد مصادر دخل إضافية لتعويض الخسائر الناجمة عن بيع نسبة من الإيرادات المستقبلية خلال فترة سريان تفعيل الروافع الاقتصادية (25 سنة).
رهان الرئيس حقّق نجاحًا جزئيًا في الموسم الماضي، بعد أن أحرز الفريق لقب الدوري الإسباني لموسم 2022/2023، رغم الصورة المخزية التي ظهر عليها الفريق في المنافسات الأوروبية.
مستقبل النادي
في الحقيقة، من الصعب التكهّن بما تحملهُ السنوات القادمة من متغيّرات في الموقف الاقتصادي للنادي، لأسباب مختلفة، منها: أن اقتصاد النادي يعتمد بشكلٍ مباشر على أداء الفريق في البطولات التي ينافس فيها النادي، بالإضافة إلى أن الأندية -في الغالب- لا تتحلّى بالشجاعة الكافية في ما يخصُّ كشوفاتها الماليّة المُعلَنة؛ ممّا يزيد من صعوبة مهمّة تحليل الحالة الاقتصادية للنادي بدون معرفة التفاصيل الدقيقة للأرقام الماليّة الحقيقيّة.
لكن الأكيد أن أكاديمية النادي تظل الحل الأكثر كفاءة والأقل كلفة؛ حيث مثّلت الأكاديمية في كل الحقب المُميّزة للنادي رافداً رئيسًا للمواهب التي قادت الفريق لتحقيق الإنجازات الفريدة.
ما يُميّز لاعبي الأكاديمية أنّهم يختصرون الطريق على الإدارتين الفنّية والماليّة للنادي؛ إذ إن اعتيادهم على أجواء الفريق وأسلوبه الخاص في لعب كرة القدم، يوفّر الكثير من الوقت والمجهود، كما أنّهم يكلّفون إدارة النادي صفرًا من الأموال كرسوم انتقال، بالإضافة إلى رواتبهم المنخفضة، تحديدًا في بداية مسيرتهم مع الفريق، ولا تتضاعف عقودهم إلا في حالة برهن اللاعب على جودته وأهميته بالنسبة للفريق، وإسهامه في إحراز الفريق لأهدافه الرياضيّة، وهو ما سينعكس في الدفاتر الماليّة للنادي.