منذ فترات بعيدة، أي منذ الطفولة كنت أسمع بعض الأشعار والقصائد الجميلة التي كان يطربني سماعها لما لها من الجماليات، وتأخذ من إعجابي الشيء الكثير، ومع صغر سني في تلك الفترات فلم تكن الرغبة لدي موجودة لمعرفته قائل هذه القصائد، أي أني أهتم كثيرًا بالصنعه، ولا أسأل عن الصانع.
لكن، مع مرور الوقت، زاد اهتمامي بالشعر، ومعه نما تعلقي، بل شغفي اللامحدود بالشعر، فكنت دائمًا ما أسأل في ما "يتعكى" عليّ من أشعار وتصير غير معروفة لمن هذه الأشعار ومن أصحابها الحقيقيون، كيف لا أسأل وألح في السؤال، وأرضنا أرض المشقاص تعج بكثير من الشعراء الكبار في كل شيء، ابتداءً بعطاءاتهم الشعرية الغزيرة، مرورًا بإتقانهم وإيجادهم لكل أغراض الشعر المختلفة، وانتهاء بإبداعاتهم الشعرية الجميلة، فكل هذه الأشياء هي التي عززت الرغبة للبحث والمتابعة للعطاءات الشعرية المشقاصية.
وحديثنا الآتي هو ما يشبه شيئًا من تسليط الضوء على أحد الهامات الشعرية المشقاصية، وحسب ما لدي من معلومات ومعرفة بأشعار هذا الشاعر الذي له أشعار كثيرة، لكن مثله مثل الكثير من الشعراء ممن لم تلاقِ أشعارهم شيئًا من التدوين والعناية، فيصل الناس من أشعارهم القليل القليل، ويتم تناقله وحفظه دون تدوينه وتوثيقه.
فمن سماء أرض المشقاص ومن الريدة الشرقية تحديدًا كان ومازال صوت شعري مشقاصي بحت يعطي من أشعاره الجميلة بلا منة، ويتفاعل تفاعلًا استثنائيًا مع ما يدور حوله من المتغيرات الإيجابية منها والسلبية.
هذا الصوت الشعري هو واحد من تلك الأصوات الشعرية الكبيرة التي تربينا على سماع نتاجاتها الشعرية منذ طفولتنا وحتى اللحظة، تلك النتاجات ذات الجودة العالية والصيغ الشعرية البليغة الممتلئة بالمفردات المحبة للنفس التواقة للشعر الجميل.
إنه ابن الريدة الشرقية الشاعر الكبير عمر علي الشرفي، الملقب عمر الدوشي.
فهذا الشاعر للأمانة يعد واحدًا من بين القلائل ممن أنجبتهم أرض المشقاص الولادة للمبدعين في شتى مناحي الإبداع، وأولهم مبدعو الشعر من مثل بن حمادة وباجعالة والعكر وبلكديش، وقائمة طويلة عريضة.
شاعرنا الدوشي له جلسات كثيرة مع الكثير ممن تم ذكرهم، وتشهد ساحات وميادين الشعر بذلك.
ومن ينظر لهذه الجلسات، فهي تعد شهادة له بأنه كان ندًا لشعراء كبار جالسهم وأخذ وأعطى معهم في عوالم الشعر المختلفة. ولا غرابة إن اعتبرناه واحدًا منهم.
وحتى تتضح الصورة أكثر سنعطيكم شيئًا مما جمعه مع بعض إخوانه من شعراء المشقاص، ففي أجواء عام 1980م جمعته جلسة سمر مع الشاعرين محمد عبدالله البعسي وربيع صبيح بن محامد، وبدأها شاعرنا الدوشي بقوله:
قلت نامي
يا عين قالت بعد ذاك النوم خذت السهر حرة كما مانت حر
باسامر الليلة أنيسي الوحيد
رد الشاعر محمد عبدالله البعسي:
من ميامي
قد صدروهن حاملات البز لي ما ظهر* كلين قلبه شتر
ونته مكانك في سهون البريد
ربيع صبيح بن محامد:
يا حسامي
ونا حاسبك باتر
لنطرح حدك فوق حجة بتر واليوم حدك فتر
بالله على عظم السمك والقديد
الدوشي:
كل رامي
قد له عوائد من زمن سابق ما يهيب الوعر
من حين ما الصيد فر
يتبع وراه في كل عرقة وحيد
كذلك هذه جلسة أخرى قديمة جمعته بالشاعر الكبير سالم بن عمرو الغرابي، الملقب العكر. وكانت البداية للعكر بقوله:
سالم جهد واجتهد
كن محد رثى له
أو قال الله يعينه
صبحت معيان
بعد العجل والمساني
يسقي مائة وألفين فدان
الدوشي:
جديت يا بوحمد
كل من جد ناله
لي في الغصون البنينة
نية الإنسان
تخدم معه يا اليماني
وتعبره في الخوف والامان
العكر:
مازلت فوق المقد
منتظر للرسالة
والصلح يا بامتينة
إنما سيبان
ما يخاطبوا العوبثاني
إلا بقرحات العليمان
الدوشي:
حدك عطيه الحدد
منك يبغى سقالة
لا تهمله حان حينه
داخل الميدان
فلان الفلاني
محد رضا بالجيد يهتان
ما تقدم لا يعد شيئًا مقارنة بعطاءات الدوشي الكثيرة، بل هي مقتطفات بسيطة من جلستين، مع أن للشاعر جلسات كثيرة ومع شعراء كثر، لكن لتوضيح الصورة أتينا بهذه المقتطفات.
وليعلم من ليس له علم أن للشاعر عمر الدوشي أشعارًا وقصائد كثيرة سنحاول إن أمكن لنا في سانحة أخرى، أن نعرج على تلك الأشعار والقصائد، مع تعليقاتنا عليها، وأيضًا تفنيدها للمتلقي حتى تتضح أكثر وأكثر، ويعرف الجميع كم لنا من المبدعين في مجالات الشعر وأغراضه المختلفة.
وهذه الوقفة السريعة لا تعد إلا أول اقتراب من عوالم الدوشي الشعرية، وهي بداية وعربون للقاء آخر إن شاء الله أن يكون أكثر غوصًا وتعمقًا في نتاجات هذا الشاعر الفذ.
وآخر كلامي هو الدعوة لكل من يتعاطى مع الكتابة أدعوهم جميعًا للكتابة عن الشعراء، والتعريف بهم وبنتاجاتهم الشعرية، وهذا أقل واجب تجاه هؤلاء الذين ظلوا لسنوات يتحفوننا بأشعارهم التي تلامس شغاف قلوبنا، وهم دون غيرهم من كانوا ومازالوا لسان حال الجميع في الأفراح والأتراح، فأتمنى في القريب المنظور أن أرى سيلًا من الكتابات المنصفة عن شعرائنا المبدعين، وهم بما يقدمون ويعطون من أشعار يستحقون أكثر من هذا، فنرد لهم شيئًا من الجميل نظير ما أسعدونا وأفرحونا بدررهم الشعرية.