صنعاء 19C امطار خفيفة

في يوم الأغنية اليمنية: صوت النغم المحاصر

2025-07-01
في يوم الأغنية اليمنية: صوت النغم المحاصر

إلى: ذاكرة البهجة في اليمن: المزينين والأخدام الذين زينوا حياتنا وأثثوها بالفرح، 1 يوليو.

 
"الإنسان وحش.. مروض بالموسيقى" أفلاطون
**
عندما يسألون كبار الفنانين في العالم أكانوا محترفين أم هواة، عن بداياتهم الفنية، وعبر أي المنافذ بدأت رحلة التكوين، والظهور، ومن ثم الانتشار؟
سنسمع، ونقرأ من سيرهم الذاتية، أن الأسرة كانت المُلهمة، وأن المدرسة بمسرحها الصغير أخرجت مكنونات الموهبة وعملت على تنميتها، وكذلك الجامعة واصلت صقلها، وتحفيزها بالتعلم بالقراءة والمُمارسات والتفاعل مع المواهب الأخرى في العالم، وجعلتها منفتحة على الفنون الأخرى.
 
وسنسمع ونرى -أيضًا- أن ذاك الفنان الهاوي أو المحترف قد تدرب في أكبر المعاهد الموسيقية وبيوت الفن المنتشرة في بلدانهم ومُدنهم، بل وقراهم، وأنه قد تعلم على أيدي أساطين الموسيقى والفنون الأخرى، وأنه كان مداومًا على حضور الحفلات الفنية في دور الموسيقى، والأوبرا، وصالونات الفكر والفن والأدب.
عازف كمان( الصورة من إرشيف الكاتبة)
وسنسمع ونرى -أيضًا- أن ذاك الفنان قبل أن يعتلى خشبة المسرح، كان قد شارك وتطوّع في العشرات من الفعاليات والاحتفالات والمناسبات الوطنية والخيرية، والدينية، والزراعة والخصوبة، واحتفالات الأعياد الإنسانية هنا وهناك، وشارك بجدية ومسؤولية في كل فعاليات العمل الإنساني تطوعًا ليس فقط في وطنه، بل وفي أوطان كثيرة من العالم.
 

المحصلة:

 
سنرى أن هذا الفنان بزغ، وغدا فنانًا يلتف حوله الملايين، يصبح ثروة وطنية تتباهى دولته وحكومته كراعية للفن والفنون، بالمقابل هذا الفنان سيجدد نفسه وأدواته الفنية، وستتسابق عليه شركات الفنون والإنتاج، ودُور الأوبرا والموسيقى، وسيصبح اسمًا لامعًا في عالم الفن، بل ورسول السلام والمحبّة والتعايش للإنسانية.
 

ماذا عن فنان بلادي:

 
في بلادنا (الجمهورية اليمنية)، ماذا سنسمع ونرى؟ ماذا سيقول فنانونا عن مواهبهم ورحلة تكوينهم الفني في مراحلها المختلفة؟ وما هو رصيدهم الفني والإنساني في اليمن والعالم؟
وأنا أتابع منذ سنوات فنانينا الشباب في أجهزة الإعلام المختلفة، ماذا سمعت وشاهدت؟ ستجد الواحد منهم يقول: عندما تفتقت موهبته على الدندنة، وبدأ يقلّد أصوات الفنانين الكبار، تلقى صفعة مدوّية، وبجانبها بعض الركلات المتفرِّقة على جسمه النحيل، صاحب هذا النزال المدوِّي سيل من السباب والشتائم: "تريد أن تدنس شرفنا يا قليل الأصل، تشتي تكون مزينا ودوشانا. يا ابن... لو سمعتك تطنطن مرّة ثانية مكانك القبر...".
وسيضيف أصحاب "أنوار المعارف" من الخبراء والمتعهدين صُنّاع وحراس الأحجبة، أن الدندنة تمنع دخول الملائكة البيت، وتجعل الشياطين يتراكضون في كل "زوّة" من البيت، وأن الغناء والموسيقى تلهي الإنسان عن ربّه وأمور دينه، وتجعله صائعًا ضائعًا في دنياه وآخرته.. و.. و.. الخ.
بيت الموروث الشعبي حاضر بكل الفنون
إنه نفس منطق التفكير المتخلّف والمنعزل لسادة حماة الأخلاق والفضيلة، الذي ساد قبل الثورة، حيث كانوا ممن أصبحوا علماء ومفتين، ومراقبين، وجواسيس، فإن رأوا أية آلة موسيقية سيحطمونها، فهي الشر المطلق، ولن يكتفوا بذلك، بل سيجلسون يعيرون صاحبها ويلقبونه تارة بالخادم، وتارة بالدوشان والمزيّن... الخ، وسينصحونه: "وبدلًا من حملك العود، لماذا لا تحمل المصحف، وبندقية، وتجعل روحك على كفك وتجاهد في سبيل الله، كل الكفرة، والأجانب، والمقاهي، والمتاحف، والمراكز الثقافية؟".
وللأسف الشديد، إن هذا المنطق اللا إنساني، المتوحش أصبح يعاودنا وبقوّة متصاعدة منذ سنوات وحتى الآن، ومن العار أنه يعود ويتلوّن ويتغوّل تحت حماية رسمية! ليحوّل كل ماله علاقة بتنمية الروح والوجدان وتهذيبهما إلى دنس أثيم.
 

التنشئة الاجتماعية: بازوكا، لا، آلة موسيقية:

 
البيت:
لننظر إلى ألعاب الأطفال، خصوصًا أيام الأعياد، فالأسرة اليمنية نادرًا ما تشتري لابنها/ ابنتها لعبة موسيقية، لكنها ستصرف كل ما في جيبها، لتشتري له الذخائر، والأسلحة، والجنابي والخناجر، والدبابات والمصفّحات، والطماش وغيره من المفرقعات، فيقلب البيت وحوش المنزل، وسور الجيران، إلى ساحة للنصع وأهداف لاستعراضات حربية فتاكة. وأنت تحدق بهذا الطفل النحيل تندهش من أين له كل هذه القوة والملكة القتالية، وتندهش أكثر من أين له تلك الأصوات الوحشية التي ينفثها من الأعماق، فتذكرك بإنسان الغاب الأول، أما عن الكلمات والألفاظ المشحونة بالعنف والمباغتة والقتال.. فتحسه أنه تربّى في ثكنات جبهات القتال.
وإن سمع الأهل أو أصدقاء العائلة طفلهم يدندن في المساء، فيطلقون تحذيراتهم: انتبه تغنِّي في المغارب سيرجع فمك "ألوق" وسينادونك أبو "اللقف المشموق"، الجن يحضرون مع الموسيقى. وإن سمعوه يدندن في الصباح، سينهرونه بغضب: "اذكر الله يا غافل، بدلًا من دندنة الشياطين، اجلس واستغفر ربك". وإن دندن في النهار أو الظهر، يلاقي "زبطة" دسمة، مصحوبة بأمر عسكري: "قم اطلب الله على كرشك".
لكن، هل سيتوقف سيل هذه التقريعات والعنف الصاخب المدمّر؟ أبدًا، فلو أخفق في عمل، سيعيرونه أمام الأهل والأصحاب: ابننا يشتي يطلع مُزين، آخرة عُمرنا للبرعة والطاسة، ثم سيل التقريع والمعايرة -التي يجيدها اليمنيون ذكورًا وإناثاُ- وكأننا في حروب وثارات عائلية فتكثر سكاكين كل من دندن. وهكذا هي أساليب التربية في بيئتنا اليمنية، في الريف أو المُدن.
 
المدرسة:
وسيذهب هذا المنطوي على موهبة مستورة، كأنه يخفي جُرمًا، إلى المدرسة (ساحة العلم والمعرفة)، فلا يجد حصص الموسيقى أو الفنون الأخرى من رسم وتشكيل.. الخ، سيجد الطاقم المدرسي معظمهم -إن لم يكن كلهم- مفتين وجلادين يرعبونه إن سمع أغنية، أو تغنّى بموال أو ردد أغنية وطنية، أو أهزوجة زراعية، وسيجد أن المدرسة ما هي إلا "قندهار" مصغّرة لتعلم الخرافة والتخريف بامتياز.
هذا العار -والجُرم المستتر/ الموهبة- ينمو داخل الطفل بخوف ورعب، وإن أظهرها هنا أو هناك، ستلصق به تهم: إنه رجل غير مقدام، وسيعيرونه بأنه مَرَة، وألفاظ زاجرة: اشتحط، احتزق، بطل رخاوة، وسيلقبونه بلقب رجل في قريتهم كان مسالمًا، يتجنب العنف، والمكائد الرجولية، وقليل الحيلة في إبداع المهلكات الذكورية، وكان يمتلك روح فنان، يسابق تغاريد الطيور في شدوها.
 
الجامعة:
وسيدخل الفنان المستور إلى الجامعة، ولن يجد سوى المليشيات والأحزاب والتحزب من الدينيين والسياسيين، قوة "تهتره" في أقاصي الشمال، وقوة أخرى تقذفه إلى أقاصي الجنوب، والكل يشد ويجذب، والكل يستخدم أدبيات الترهيب، وامتلاك الحقيقة، ليفوز بموهبة هذا الفنان الذي لا يكمل قراره. فإن نجحت المليشيات الدينية، حوّلته إلى داعية، ومنشد، وإن سرقته مليشيات الأحزاب، حوّلته إلى مهرّج وطني بامتياز، فكلا الاتجاهين، يحوّلانه إلى كائن ممسوخ، أيديولوجي، يكره كل مختلف، قنبلة مستعدة للتفجير بإشارة من المرشدين.
 
مؤسسات الدولة:
إن ذهب إلى حضن مؤسسات الدولة التي ترعى الفن، وتدعم المواهب وتنميها، فلن يجد -خصوصًا الآن- سوى الكتمة والعتمة، فمؤسسات الدولة الراعية لفنون والإبداع قد تحوّلت إلى مُلحقات لوزارة الأوقاف والإرشاد ودُور للإفتاء السلفي المتشدد. وإن سمحت له بممارسة موهبته، فستحوله إلى فنان/ شحّات بامتياز، فنان مرهق، متعب، مغبون، يكره كل ما حوله من الوضع البائس، وسيرجعونه إلى بيئة المنشأ القامعة، ليردد قول: رحم الله من كانوا يحاربونني في صغري عندما بدأت أدندن، لقد كانوا محقِّين، وستصبح قوافل الكوابح المجتمعية والثقافية والدِّينية هي الصح، وأنه هو الوحيد الذي أخطأ تقدير الأمور.
 
المقيل:
أما إذا واصل شحذ موهبته وتمرّد على كل أدوات القمع، فستتلقفه محرقة أخرى، هي المقيل بمؤسساته البرزخية/ القبور.
وسيجد مع حيوية التخدير الجماعي والذهني في المقيل من يصفق له، ومن يربت عليه، ومن يقول له: أحسنت وأجدت، وسيفلت الفنان الطري أمام غيبوبة التشجيع الذهني المسطول بالقات والدخان ورغوة "المتافل".
سيتناثر في مقايل وخِيَم الأعراس، للمشايخ والمسؤولين، وأصحاب المحلات، والدبابات، تتجاذبه أذواق مريضة مهسترة، ترى في النباح والزعيق أوبرا، وسيمفونيات، فخيمة تقول له: أطربنا بأغاني الزفة، وخيمة أخرى تقول له: حرام الأغاني، نريد إنشاد وتهاليل، وخيمة تطلب منه أناشيد المارشات العسكرية، وخيمة تحوله إلى "زباج" مبتذل.. وهكذا.
هذا الكيان المبعثر والمنهك الذي يطلق عليه "فنان"، ستتزاحم عليه فضائيات اليمن في موسم الأعياد والمناسبات الوطنية، فلن تجد منه سوى مسخ لفنان يردد ببغائية رديئة أغاني الفنانين الكبار أمثال: الحارثي، السنيدار، أيوب طارش، محمد سعد عبدالله، فيصل علوي، وعلي الآنسي.. الخ.
فماذا أضاف هذا الفنان؟ أين الموهبة؟ حتى أين الترديد السليم غير المشوّه من أدخنة المقايل؟ لن تجده، لن تجد سوى صالات فارهة ومذيع يردد استحسانات مشروخة، ومن شاهد فضائيات العيد يقول: يا الله أين يكون هذا الشعب "العرطة" الذي يستملح كل شيء، ويستحسن كل ذلك القُبح.
ستشاهد أيضًا في تلك الاستضافة الممسوخة، أو بما يسمون بقائمة "المتلفنين" من الخُبرة (زمالة المقايل)، وقد فتحوا أفواههم المليئة بأوراق القات، فيمجِّدون الموهبة القاهرة الفلتة الفنية؟ ويروي تاريخ الفنان الكبير (ويكون عُمره لم يتجاوز بعد الـ20 سنة)، كيف أن لمقايل الشيخ الفلاني، وعاقل الحارة، والمسؤول الفلاني، كانوا وراء ظهور واكتساح هذه الموهبة الفذّة، وخروجها الاكتساحي للنور.
وستحس بالهزالة والضحالة الفكرية والرتابة السقيمة، فمسيرة الفنانين الجُدد متشابهة، ويندر أن تسمعهم يذكرون أن مدرسة، أو أستاذًا أو تجمعًا مدنيًا، أو مسرحًا، أو ميدانًا، أو مقهى أو صالونًا أدبيًا، ثقافيًا، كان السبب في اكتشاف موهبتهم وظهورهم للناس، سوى القلة القليلة من فناني عدن قبل اجتياح الساعة السليمانية وإغلاق معهد الفنون الجميلة -جميل غانم- ثم فتحه على استحياء.
 
ماذا بعد:
 
صوت النّغم اليمني المُحاصر، المذعور الخائف، كم أنت وحدك أمام أساطين المُهلكات: البيت، المدرسة، الجامعة، الشارع، الوزارة، المسجد والفتوى، وبعد ذلك أين نحن من مقولة الحكيم كونفوشيوس: "إذا أردت أن تعرف مقدار حظ أي شعب من الحضارة، فاعرف موسيقاه.."؟

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً