سنواتٌ ثلاث قضتها الكاتبة سلمى لاغرولف في زيارة المدن والقرى السويدية؛ بعد أن تلقت منحةً من جمعية المعلمين الوطنية في العام 1902؛ لتؤلف كتابًا في الجغرافيا للأطفال؛ يتسم بالتشويق ويمتلئ بالمعلومات.
كان نتاج تلك الأسفار والتنقلات هو ولادة كتابها الشهير «مغامرات نيلز العجيبة» في العام 1907.
العتبة السحرية لجغرافيا المكان وروح الاستكشاف لم تقف عند حدود قرى ومدن السويد المختلفة؛ بل جالت العالم بأكثر من 30 لغة.
وفي ثمانيات القرن الماضي عادت «مغامرات نيلز العجيبة» للظهور في عمل كارتوني من اثنين وخمسين حلقة أنتجته اليابان، وماتزال دهشته عالقة في ذهن جيل الثمانيات حتى يومنا هذا.
ليس هذه الاستهلال بتجربة سلمى إلا مدخلاً لحديثٍ مُرٍّ حول صناعة كتاب مشوق للطفل في اليمن؛ ينطلق من العتبات السحرية للحضارة والتاريخ والجغرافيا وروح الإنسان اليمني.
يُصاب الباحث -فيما يتعلق ببيانات الكتب أو الدوريات الموجهة للطفل في بلادنا- بخيبة أمل كبيرة؛ لأن الغياب والندرة والعدم هي صفات هذا المشهد! وفيما تسبقنا بلدان كثيرة بتراكم فكري وفني ومعرفي وتقني كونته خلال قرون كثيرة، إلا أننا مازلنا نتقوقع حول أنفسنا بلا رؤية ولا هدف ولامشروع وطني واضح يقدم مادةً للقراءة والتعلم تناسب الأطفال، وتستشرف المستقبل.
وبالرغم أن هناك عددًا من التجارب المؤثرة التي يمكن الوقوف عندها، إلا أنها لم تستمر إلا لفترة زمنية قصيرة، وقد توقفت بسبب الأزمات المتتالية؛ ابتداءً من 2011؛ ومنها -على سبيل المثال- تجربة ملحق «المثقف الصغير»، ومجلة «أسامة»، وبعض الكتب والإصدارات عن وزارة الثقافة ودار عبادي للنشر.
هناك أيضًا تجارب خجولة ظهرت على هيئة مجلات وكتب إلا أنها توقفت بعد صدور بضعة أعداد منها؛ وقد وثَّقَتْ الكاتبة ماما نجيبة حداد-رحمها الله- أهم التجارب والنماذج المكتوبة، والمرئية، والمسموعة المقدمة للأطفال على المستوى المؤسسي والفردي في عدد من مقالاتها ولقاءاتها؛ كما قدم الكاتب والباحث عبد الرحمن عبدالخالق -رحمه الله- أبحاثًا مهمة تناولت التراث الحكائي والسردي وطرائق تقديمه للأطفال.
قد يتبادر للذهن سؤال بسيط: بما أن صناعة كتب الطفل تزدهر في البلدان الأخرى، وتحقق عوائد مجزية على المستوى المعرفي والاقتصادي؛ فلماذا تغيب فرص الاستثمار في اليمن في هذا المجال؛ رغم أن الأطفال تحت سن الـ 15 سنة يشكلون 46% تقريبًا من عدد السكان، وهم بناة المستقبل؟
والواقع أن العوائق في مجتمعنا تتغلب على فرص الاستثمار؛ وهي كثيرة، منها: أن نسب الأمية في ارتفاع متزايد، بالإضافة إلى تدني مستوى الدخل، والحروب والأزمات الاقتصادية، وضعف الأدوات الإبداعية والفنية وندرتها.
ما يجلب للنفس شيء من العزاء أنه يمكننا -على الأقل- معالجة مشكلة ندرة وضعف الأدوات الإبداعية والفنية والتحكم بها، وهذا كفيل بتهيئة وتحسين فرص الاستثمار في مجال كتب الطفل؛ وذلك من خلال تبني ودعم مشاريع اكتشاف المواهب وتدريبها، ودعم نتاج أعمالها، وخلق فعاليات للقراءة والنقد والتطوير والتنافس.
ويمكننا القول بأن هناك بصيصَ أملٍ يلوح في الأفق؛ ففي مطلع شهر مارس من هذا العام، دُعيتُ لتقديم دورة تدريبية في الكتابة الإبداعية للطفل بمدينة المكلا -حضرموت؛ ضمن فعاليات مشروع «دهشة» الذي تديره «مؤسسة حضرموت للثقافة».
لقد أدهشني هذا المشروع وأثار إعجابي؛ ولأسباب مختلفة، منها: إن ورش الكتابة للطفل شديدة الندرة في بلدنا، ثمَّ إن الكُتَّاب المهتمين بالكتابة في هذا الموضوع يُعدُّون على الأصابع. فالكتابة في هذا الجانب تعتبر مسألة تحدي حقيقي للكاتب؛ فمنها ما يتعلق بالطفل؛ وهي تختلف باختلاف مراحله العمرية، ومخزونه اللغوي، ونموه النفسي وتطوره الفكري، ومنها يتعلق بالنص المكتوب كالخيال، والحبكة، وبناء الجملة. إنها تحديات متداخلة بعضها في بعض وكأنها دمية روسية.
كان اختيار متدربين شغوفين عاملاً مهمًا لخوض غمار تجربة الكتابة للطفل، وقد أثبتوا في الورشة قدرتهم على التعلم، وكفاءتهم في توظيف ما تعلموه في بناء النصوص، وإعادة إنتاجها وتطويرها.
وأهم تلك الأسباب -برأيي- هو وضوح وتكامل الرؤية لدى مؤسسة حضرموت»؛ لخوض تجربة صناعة كتاب للطفل؛ فمشروع دهشة لم يكن مجرد ورشة تنتهي بانتهاء فعاليتها؛ بل هي مشروع متكامل لإنتاج كتب تستوفي المعايير الأدبية والفنية المطلوب توفرها في كتاب للطفل.
لدي أمل أن هذه التجربة الرائدة في مثل هذه الظروف الاستثنائية ستمكن الأطفال من قراءة قصص وكتب تنتمي لجغرافيا وتاريخ وحضارة بلدهم؛ فيصبح اليمن كله حاضرًا بين يدي أطفالنا بعمقه الحضاري والتاريخي والجغرافي والروحي والإنساني.
من الممكن أن تكون أنشطة معارض الكتاب، وفعاليات القراءة التي ترافق ترويج الكتب في المستقبل فرصةً جديدةً وقيمةً؛ لنلقي من على ظهورنا أثقال الحرب، وأوجاع الفرقة؛ فننعم بكثير من لغات الحب المرتبطة بفعل القراءة؛ مغموسين بحنين وشجن يؤججه حب يمننا السعيد.