غادرنا من ظاهر الأرض إلى باطنها الكاتب الصحفي محمد المساح، بعد رحلة طويلة في مهنة التعب، برز في كتاباته خلال خمسة عقود من الزمن، كأفضل كاتب عمود صحفي يومي داوم على قراءته معظم شرائح المجتمع، من أعلى الهرم إلى أسفله، منهم أصحاب المهن البسيطة، وأعرف عمالًا (شقاة) يحفظون لحظات المساح عن ظهر قلب.
حالة استثنائية نادرة قلما تجد مثيلًا لها..
رحيل المساح ترك فراغًا لن يعوض على المدى المنظور، سواء كشخص يتمتع بصفات إنسانية نبيلة وقيم أخلاقية ثابتة، أو كاتب مثقف صاحب موقف ومبادئ لا تباع ولا تشترى.
ثلاثة أيام هزت مشاعر وقلوب محبي المساح داخل اليمن وخارجها.
ليلة الجمعة الـ19 من شهر أبريل 2024، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر رحيله بين مكذب ومصدق الخبر الصدمة.. رسائل نصية تتواصل تباعًا على تليفوني.. حاولت الاتصال.. أرسلت لسهيل رسالة من ثلاث كلمات.. أخيرًا جاءني الرد من كلمتين "الوالد توفي".
حينها فقط أيقنت أن الخبر صحيح.
اهتزت المشاعر، وتوقف القلب العليل لحظة.. ودارت الأرض دورتها الأخيرة.. لقد توقف قلب المساح عن الخفقان.
يوم الثلاثاء زارني كعادته. جاء راكبًا موتور سيكل.. صرخ لي من نافذة منزلي بصوته المميز افتح يا وُليد.. عرفته مباشرة، فتحت الباب، احتضنا بعضنا ودخلنا المنزل.. أخرج من زنبيل كان يحمله كيسًا داخله لحمة.. قال: هذه لحمة العيد، ذبحت أحد الكباش. قلت له: هذه سبلة العيد. وكانت لحمة الوداع... ضحكنا معًا، ودخلنا.
أحضرت كوبين من القهوة وكعكًا بالتمرية.. قال لي: كن يا وُليد كل كل صباح سبع حبات تمر على الريق مع قلص قهوة مثلي... كان في أحسن حالاته.. قلت له: تمام سأفعل.. وكانت وصيته الأخيرة.
كان مستعجلًا، ودعته، وعند الخروج قال: يا وُليد، المثقف في هذه البلاد لا قيمة له.. ومشى.
صباح الأربعاء التقينا كالعادة في ركن بسوق المنصورة، مع مجموعة من المتعبين، كنا نتحدث حول أشياء كثيرة، وكان المساح ملح كل جلسة.
الخميس اليوم الأخير قبل الرحيل، جئت وكان حاضرًا بشكل مباشر، قام واحتضنا بعضنا.. هل كان الرجل لديه حدس؟ لا أدري..!
يوم الجمعة مساء غادر الدنيا أنبل وأشرف الرجال، غادر الدنيا أنزه كتاب وصحفيي اليمن.
المساح كان مسكونًا بهذه الأرض، وكانت هذه البلاد مسكونة به حتى آخر لحظة من مسيرة حياته.
تسألني سندس ابنتي الصغيرة: يا بابا فين صاحبك الشيبة.. أرد عليها: يحلق في السماء، وينظر إلينا ويضحك..
الكتابة عن وحول المساح بحاجة إلى معجزة.
لحظة يا مساح.. الوداع الأخير
2024-05-07