"إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم ؛ إنهم لا يصنعونه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي.
إن تقاليد جميع الأحياء الميتة تثقل مثل جبال الألب على أدمغة الأحياء" (كارل ماركس، "الثامن عشر من برومير لويس بونوبرت"، 1852م).
إننا حقًا، أمام محاولة معاصرة لإعادة إنتاج "هاشمية سياسية جديدة"، والعالم يدخل العقد الثالث من الألفية الثالثة، وهذا بالفعل ما تتم ممارسته، ولذلك لا نستغرب محاولاتهم الواقعية والمستمرة لبناء هندسة وراثية جديدة، لمفهوم "الحكم"، و"الحاكم"، وفي هذا الاتجاه نجدهم يهندسون عمارة "بناء فوقي": تشريعي، (ديني/ مذهبي)، أيديولوجي، "حقوقي"، "قانوني"، يكرس ويرسخ المفهوم الإمامي (الهادوي/ الخاص بهم في صيغته المعاصرة) لمعنى السلطة والدولة والملكية في المناطق التي يسيطرون عليها، وليس آخرها "قانون الخُمس"، و"إجراءات الزكاة المفروضة بالقوة"، و"قانون منع المعاملات الربوية"، وقوانين الجبايات خارج القانون والدستور، وغيرها من القوانين في هذا الاتجاه، حتى احتكارهم للسياسة وللسلطة والثروة في جماعتهم، وزبانيتهم، فضلًا عن مصادرة الحريات السياسية والمدنية والحقوقية للمرأة والرجل، وللأحزاب المصادر فعلها السياسي والصحافي من ثماني سنوات.
والملاحظ اليوم، تراجع الاقتصاد والإنتاج لصالح شيوع ثقافة الاستهلاك، والبذخ على المعاش وعلى مصاريف الحياة اليومية، سلطة تكسب الثروة قهرًا، ولا علاقة لها بالعمل والإنتاج، ولا بالتطور الاقتصادي والتنمية الإنتاجية، سلطة مشغولة بالحروب الداخلية، والخارجية في "مقاومة العدوان".. سلطة ليست نتاج العمل السياسي والاقتصادي، والديمقراطي، حتى في أدنى تعبيراته عن نفسه، وليست معنية بالاستثمار في الطفل/ الطفولة، ولا التعليم، ولا في الإنسان، ولا بالاقتصاد..
هي حالة فريدة عجيبة من توظيف السلطة للسيطرة على الثروة الاجتماعية العامة (استيلاء على الخيرات المادية للمجتمع بالقوة)، وضع يتم فيه افتراق متعسف بين "البناء التحتي" المادي، الاقتصادي الإنتاجي، وبين "البناء الفوقي"، بعد أن تحولت البنية الفوقية "الأيديولوجية المذهبية"، إلى مصدر وحيد لمراكمة المال عبر ثقافة الغنيمة للثروة الاجتماعية العامة؛ هي حالة مصغرة أقرب إلى "اقتصاد الغزو"، "اقتصاد الفتوحات والحروب"، في شروط عصر مغاير، عبر آلة "الجهاد" ضد الآخر، الذي هو المجتمع بكليته..
جماعة "عصبية"، وصلت للسلطة عبر القوة/ الحرب، وتحاول أن تفرض شكلها أو أسلوبها، أو نمطها ومنطقها الخاص للبناء الفوقي، والبناء التحتي، اللذين غدت الفواصل بينهما محدودة، تكاد لا ترى، وغير معلوم أين يبدأ البناء الفوقي، وأين ينتهي توصيف وتحديد معنى ومكان البناء التحتي. عبر مفهومهم الخاص لمعنى السلطة، ولمفهوم "الجباية"، ولمعنى "الجهاد"، الذي صار يدخل ويتدخل في كل شيء، تم من خلالها السيطرة على السلطة السياسية، وعلى المصادر والموارد الاقتصادية المادية للدولة، بل حتى للمجتمع كافة، بهذه الصورة أو تلك، في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم، دون أن تكون لهم أية علاقة بالعملية الاقتصادية/ الإنتاجية..
فقط قوة عصبية هي "الهاشمية السياسية"، ومن تحالف معها من "الزبائنية"، ضمن المعادلة التاريخية التي أسميها "ثنائية الإمامة والقبيلة المسلحة"، والمنتفعين الملتحقين بهم، صار خلالها البناء الفوقي في التشكيلة السياسية الاجتماعية الحوثية (النظام السياسي مجازًا): معوقًا جديًا للنمو والتطور في البنية التحتية، وتحديدًا في قوى الإنتاج التي غدت عرضة للنهب والمصادرة والقمع، وبالنتيجة معوقة لعلاقات الإنتاج (علاقات الملكية)، بعد أن لم يعد للملكية العامة والخاصة أية قدسية أو "حرمة"، أو حصانة..
صورة من احتشاد العديد من المواطنين في صنعاء لأخذ معونات (شبكات تواصل)
وفعليًا هذا هو الحاصل على مستوى إدارة الجماعة الحوثية للسلطة، وفي علاقتها التنابذية بالمجتمع، وكذا في علاقتها التناقضية كسلطة جماعة، بالإنتاج والاقتصاد، وليس آخرها محاولتهم السيطرة على جميع مصارف الزكاة، كما حدث مع "بيت الكبوس"، التجاري -وغيره- أثناء توزيعهم للزكاة يدًا بيد للمستفيدين، والذي ذهب ضحيته أكتر من 200 قتيل وجريح! بسبب محاولة الجماعة الحوثية السيطرة على جميع مصادر أموال الزكاة، وهو ذاته ما يحدث اليوم مع جمعية بيت هائل سعيد أنعم "الخيرية"، وكذلك باسم الزكاة..
وحول هذه المسألة/ القضية "الزكاة"، يشير الأستاذ زيد بن علي الوزير في كتابه "حديث في المصطلحات الإسلامية" (ص9)، إلى التالي: "بأنه لم يُستَبق حيًا من مصطلحات المنظومة المالية، إلا ما أصبح فيه فائدة للحاكم لتقوية فرديته مثل الزكاة، التي وإن لم تتغير، إلا أنها تحولت من بيت مال المسلمين برعاية أمين الأمة، إلى خزائن القصور تستخدم لصالح الخليفة -القيصر!- وتم نزعها من سلطة المجتمع المدني نهائيًا"، (انتهى الاقتباس)، وهو ما تمارسه اليوم الجماعة الحوثية "أنصار الله"، التي غدت شديدة الحرص حد القتال على جمع أموال الزكاة بيدها وحدها، وحرمان المجتمع المدني، والتجاري، من حقه الشرعي في التصرف بماله في توزيع الزكاة لقائمة مستفيدين يدًا بيد، وبالبطاقة الشخصية!
وكأننا نعود للدائرة السياسية والتاريخية المغلقة في علاقة الإمامة بالسلطة، وبالدولة وبالاقتصاد الذي ظل راكدًا (الاقتصاد والإنتاج) طيلة قرون سحيقة، لتوقف دورة رأس المال عن الحركة في إنتاج "الفائض الاقتصادي"، وفي ضربهم أية إمكانية لمراكمة رأس المال، وجعله يدور ويتحرك ضمن دورة رأسمالية/ اقتصادية كاملة، لإنتاج "فائض القيمة"؛ بمفهوم الزمن الاقتصادي التاريخي، فقط تنمية الاستهلاك الشخصي في مصادر ومسارب لا علاقة لها بالإنتاج ولا بالاقتصاد، وفي واقع سياسي اجتماعي إمامي معزول عن بعضه البعض، ناهيك عن العالم الخارجي.
ومن هنا تراجع أي توجه نحو بناء الدولة، وبالنتيجة توقفت تنمية الاقتصاد والإنتاج عند أدنى مستوياتها، وارتفع معها عاليًا سوط "الجباية"، على، وحول كل شيء في البلاد. حيث الجبايات صارت هي القانون العام الناظم لحياة السلطة، وفي علاقتها بجميع أطراف المجتمع: الأغنياء والفقراء، بعد تفكيك وتدمير "الطبقة الوسطى"، وتفقير كل المجتمع حالة "تراجوكوميدية"، هي إلى المأساة السياسية والاجتماعية أقرب.
إننا أمام تشكل صيغة سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة/ غريبة، في جزء من البلاد، لم يعرفها التاريخ البشري: المشاعية البدائية، المجتمع العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، الاشتراكي، نمط الإنتاج الآسيوي.
نحن أمام "أسلوب جديد في الإنتاج"! وفي الحياة (نحلة المعاش)، حتى إنه يصعب علينا مشابهتهم بـ"الأعراب/ البدو الرحل"، في التاريخ الإسلامي الوسيط، الذين "أرزاقهم على أسنة رماحهم"، حسب تعبير ابن خلدون، ذلك أن الجماعة الحوثية "أنصار الله"، صارت اليوم تمتلك كل ما في البلاد (المناطق التي تقع تحت سيطرتهم)، وأرزاقهم تغطي كل احتياجاتهم لعقود طويلة، وبدون أي جهد؛ فما الداعي لاستمرارهم في جعلهم الحرب أداة للغنيمة والتفنن في فرض الأشكال المختلفة والمتنوعة من "الجبايات" التي ما أنزلت في كتاب؟
إن السبب المفسر والشارح لكل ذلك، هو أن الحرب بالنسبة لهم، هي وسيلة وغاية معًا، بها يكونون ويستمرون، ويحيون، هذا أولًا. وحول ما نسميه اليوم ظاهرة "المال السياسي"، فإن ابن خلدون قد قدم له وحوله تعريفًا يختصر ويلخص مرحلته، بل هو مستمر إلى اليوم في منطقتنا العربية بدرجات متفاوتة، بقوله: "الجاه المفيد للمال"، أي أن الطريق للمال هو الجاه، والجاه يعني هنا كذلك السلطة.
جاه "بوصية إلهية"، وفاقدو الجاه مثلنا "يرمقون العيش ترميقًا"، والتعبير هنا لابن خلدون،
فالجاه هو المصدر للحصول على المال، وليس العمل والإنتاج، حتى إنه ارتبط إلى حد بعيد -المال- بالجاه، ومرادفها مع الجماعة الحوثية اليوم، هو مصطلح "الهاشمية السياسية"، حيث لا صلة للجاه بالخبرة، ولا بالتجارة، ولا بالعمل الاقتصادي، المهنة، "الوظيفة"، ولكنه "الجاه المفيد للمال"، حيث الجاه المصدر الأساسي للثروة، وهو ما ينطبق على واقع حالنا مع الجماعة الحوثية "أنصار الله"، وهو ثانيًا، حيث نرى ونشاهد ظاهرة اندماج السلطة (الجاه)، بالثروة "الملكية الاجتماعية العامة"، في صورة "ثنائية السلطة والثروة"، تتحول معه الثروة، إلى رديف للسلطة، وللحاكم، أي للجاه، وهو هنا مع الجماعة الحوثية، جاه "بوصية إلهية"، وفاقدو الجاه مثلنا "يرمقون العيش ترميقًا"، والتعبير هنا لابن خلدون، ومن هنا تعثرنا في اليمن بدرجة أساسية، وفي المنطقة العربية عمومًا، في بناء الدولة -بدرجات متفاوتة- وفي بناء الاقتصاد، لأن منطق وقانون التغلب بالجاه، وبالقوة، هو الأساس الذي يحكم علاقاتنا الخاصة والعامة.
إن بناء الدولة (الحضارة)، اليوم، لا يقوم على تكريس ثقافة الغلبة والحروب، بل على قاعدة التأسيس لدولة المواطنة، دولة العمل والإنتاج، والعلم، وليس جمع الأموال عبر السلطة (الجبايات)، وتكديسها في البنوك أو البيوت، أو في شراء العقار، والأرض، أو للاستهلاك (الشخصي)، كما هو حاصل مع الجماعة الحوثية الذين وجدوا أنفسهم أمام ثروة وقوة جاهزة، فسيطروا على الثروة عبر القوة التي استولوا بها عليها، بدعم سياسي وعسكري مباشر وقوي من علي عبدالله صالح، لتوزيعها حسب مكانة العصبية والقوة فيما بينهم. وهذا ما يحصل منذ أكثر من ثماني سنوات: تحول معها الاقتصاد من "اقتصاد دولة" إلى "اقتصاد جماعة"، أساسه "اقتصاد الغزو/ الجهاد".
إن الجماعة الحوثية "أنصار الله"، تتصرف بالملكية العامة كأنها ملكية خاصة، على طريقة الحاكم بأمره في "الدولة السلطانية" (حسب تسمية الماوردي)، قبل قرون من الزمن، حيث لا فصل بين الثروة والسلطة، ولا بين الدين والدولة، بعد أن ابتلعت السلطة الدولة، واختلط الديني المقدس بالدولة "المدنسة"، ومن هنا حديثهم عن وصايا الأئمة في مناطق واسعة من اليمن، من محافظة إب، إلى صنعاء، ومن "باب اليمن"، إلى منطقة "عصر"، إلى محافظة الحديدة، وفي غيرها من المناطق، باعتباره حقًا حصريًا لأبناء الأئمة (السلالة)! من رموز "الهاشمية السياسية"، فأين كان الأئمة قبل هذا التاريخ من قدومهم إلى اليمن؟! ولمن كانت هذه الأرض قبل ذلك التاريخ، ومن كان يسكن فيها ويستثمرها؟!
هل هي "أرض دون شعب"؟ وهل هي أرض مشاعة، بدون ملاك؟ وهل هي أرض "خراجية"، وفقًا لفتوى قديمة للإمام المتوكل على الله إسماعيل وغيره؟! نحن أمام "اقتصاد حرب" "اقتصاد غنيمة" يذكرنا بتاريخ "اقتصاد الغزو" في التاريخ القديم والوسيط، أو كأننا في حالة مناطق "مفتوحة/ جهادية" "خراجية"، يوزع فيئها وخراجها وغنائمها وسباياها بين المحاربين "المجاهدين"، الذين استولوا عليها بالفتوى وبالقوة، هذا هو عمليًا واقع الحال. والكارثة أن ذلك يحدث في شروط عصر مغاير، "الألفية الثالثة"، يوزع فيها المال والأرض بروحية استهلاكية شخصية "للعصبية"، وبصورة لا علاقة لها بتنمية الثروة ومراكمتها ولا تدخل في دورة رأس المال والعمل والإنتاج!
ولذلك، فإن هذه العقلية تستكثر على موظفي الدولة الفقراء في مناطق سيطرتهم، صرفها لمرتباتهم لأكثر من سبع سنوات عجاف، ولا يُسائلون أنفسهم كيف يعيش هؤلاء الموظفون الفقراء والملايين ممن يعيلونهم ويقعون تحت مسؤوليتهم! بينما هم وزبانيتهم ينعمون برفاهية العيش! هذا هو واقع حالنا مع السلطة القائمة في صنعاء! فمن يطالب بحقه في الراتب يرفع في وجهه سيف وسوط "الخيانة" و"العمالة" و"الارتزاق"، وصولًا للسجن، والقتل!
والدكتور إبراهيم الكبسي، والقاضي، وعضو مجلس النواب أحمد سيف حاشد، والقاضي عبدالوهاب قطران، والأستاذ محمد غالب أحمد، والأستاذ وضاح الحريري، والدكتور عوض محمد يعيش، والأستاذ محمد علي محسن، والأستاذ خالد سلمان، والمستشار المحامي محمد علي الشاويش، والأستاذ شرف الويسي، والأستاذ صلاح السقلدي، والأستاذ حسن الوريث، والأستاذ حسن الدولة، هؤلاء جميعًا نماذج حية في هذا الاتجاه المقاوم لهذا العفن السائد، في الشمال والجنوب.
الدولة في ذهنية وتفكير "أنصار الله"، محكومة بمنطق أيديولوجية الإمامة "الولاية" أو "الهاشمية السياسية". وفي الحصيلة السياسية والعملية لا دولة، ولا تنمية للاقتصاد، ولا إمامة قابلة للتنفيذ في هكذا أوضاع.
إن السلطة السياسية التي تحاول سلطة صنعاء إقامتها، هي سلطة "الهاشمية السياسية"، والاقتصاد الذي تكرسه وتؤسس له، هو اقتصاد عابر، "اقتصاد الجهاد/ الحرب"، اقتصاد للاستهلاك الشخصي، اقتصاد غير منتج، مشغول بالحرب، و"الإنتاج الحربي البسيط"، في مواجهة "العدوان"! ولا يسهم في تطوير البنية الاقتصادية، ولا في تنمية العلاقات الإنتاجية..
حيث نشهد تراجع التجارة والصناعة، وعمل المصارف المحاصرة بقوانين لا صلة لها بالمال والاقتصاد، ولا بالإدارة الاقتصادية، لأنه في الأصل لا صلة لها بالحياة والعصر، حيث نرى ظاهرة هجرة، أو هروب رؤوس الأموال للخارج تتسع، أو في أحسن الأحوال تجميدها في صناديق تحت الأرض، في الداخل، وهو أمر يضعف الاقتصاد ويدمره عند حدود الركود، والجمود، كما أن التداخل بين الدولة "الإمامة"، وبين الدين السياسي في صيغته "الطائفية"، جعل من الاقتصاد تابعًا لهذا التداخل بين السلطة والدولة، وبين الدين في صيغته المذهبية، وهو الذي يضر بالدين ويشوهه في واقع الممارسة، هذا من جانب..
ولا يساعد -كذلك- في تطور السلطة/ الدولة (في واقع صعب ومعقد شمالًا وجنوبًا)، حيث الدولة في ذهنية وتفكير "أنصار الله"، محكومة بمنطق أيديولوجية الإمامة "الولاية" أو "الهاشمية السياسية". وفي الحصيلة السياسية والعملية لا دولة، ولا تنمية للاقتصاد، ولا إمامة قابلة للتنفيذ في هكذا أوضاع، وهذا من جانب آخر.
وحول ظاهرة هجرة (هروب) رأس المال، وضعف وتراجع النشاط التجاري والصناعي والمالي والمقاولات، بل حتى تراجع دور نشاط بعض المهن الحرفية، النجارة الحدادة... إلخ، ناهيك عن تراجع دور القطاع الخاص، فهي اليوم ظاهرة تشمل جميع مناطق اليمن: من عدن إلى المهرة وحتى حضرموت، فهناك رؤوس أموال حضرمية هربت بأموالها إلى خارج البلاد.
اليوم، هناك -كما تشير بعض الإحصائيات التقديرية- أكثر من عشرة آلاف موظف من موظفي البنوك الخاصة، قد يتعرضون للتسريح، والطرد من الوظيفة، وهي مصدر عيشهم الوحيد، نتيجة قانون الجماعة حول ما تسمى المصارف الربوية، فمن سيتحمل تبعات ذلك التسريح إلى خارج نطاق العمل؟! ستدخل معها البلاد في حالة دائمة من التوتر والاضطرابات، السياسية والاجتماعية، وفي عدم الاستقرار ستنعكس آثار ذلك على كل اليمن، لعقود طويلة قادمة.
هذا هو حالنا مع الإجراءات السياسية والاقتصادية والمالية والجبائية للسلطة القائمة في صنعاء، وفي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المختلة في المحافظات المسمى زورًا "محررة"!
جماعة مهنتهم الحرب (الجهاد)، ولذلك لا علاقة لهم بالعمل والمهنة والإنتاج الزراعي والتجاري والصناعي والمالي، إلا من باب التعويق لكل ذلك، أو من باب "الجبايات"، وليس موقفهم من أعمال البنوك والمصارف سوى أنه أحد المؤشرات إلى معاداتهم للعمل، وللأشكال الاقتصادية المختلفة المعاصرة من الإدارة الحديثة، والعمل المالي والمصرفي، إلا ما يتوافق مع رؤيتهم الاقتصادية الخاصة، "الجبائية"، وقد عبر ناقدًا لظاهرة تحويل الدين الإسلامي إلى حالة جبائية، الخليفة العادل، "الأموي"، عمر بن عبدالعزيز، حيث قال: "إن الله قد بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا"، كما هو في تصور البعض اليوم، حيث نرى تطبيق رؤى تتناقض مع روح الدين الإسلامي، ومع أشكال تنمية رأس المال، والتجارة، والصناعة والبنوك، التي وصفت بـ"الربوية"، هو شكل من أشكال التكفير الديني الضمني للعمل المصرفي والمالي.
إن الطبيعة المذهبية الطائفية (السلالية) للمشروع السياسي الحوثي، خلقت حالة من عدم التوافق والانسجام في ما بينهم وبين بقية مكونات المجتمع، قد تخلق شرخًا عميقًا، وخطيرًا في بنية المجتمع، ستمتد آثاره السلبية لعقود طويلة، إن لم يكن أكثر.
وكان اعتمادهم للقهر والقوة في فرض مشروعهم السياسي، عاملًا آخر في ابتعاد قطاع واسع من المجتمع عنهم خوفًا، وحفاظًا على السلامة الشخصية، والعامة للناس، فارضين سلطتهم فقط بقوة "الترهيب"، وبدون أي وعود بإصلاح أوضاع الناس التي تتدهور وتنحط إلى الدرك الأسفل من مستنقع الفقر المدقع والجوع (في الشمال والجنوب).
وحتى بدون وعود جدية بصرف المرتبات، "عصا بدون جزرة"، ناهيك عن عدم القبول بعودة الدولة الوطنية الجامعة، ومعها استمرار فرض الجبايات المتعددة والمتنوعة الأسماء على أفقر فقراء البلاد، بمن فيهم أصحاب "العربيات"، و"البسطات" الصغيرة، ناهيكم عن الطبقة الوسطى التجارية والصناعية والمالية، وعن أغنيائهم، الذين توقفت أحوالهم وأعمالهم حين صار خرجهم لا يساوي دخلهم، وتراجعت الأعمال المالية والتجارية والصناعية والمصرفية إلا في حدودها الدنيا التي تبقيهم على قيد الأعمال ولو من الناحية الشكلية.
باختصار، يمكنني القول إن ما يتم في صنعاء من إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية وتشريعية وقانونية، يظهر كأنه يتم التأسيس "لدولة خاصة"، مستقلة، لا صلة لها بالصيغة الجمهورية المنشودة.
يقابل ذلك، وفي الاتجاه النقيض، والمعاكس، ما يحصل في المناطق الجنوبية، ما يجعل الحديث عن استعادة الدولة، والدولة الواحدة تحت أية صيغة كانت، أمرًا صعبًا، إن لم أقل متعذرًا على الأقل في المدى المنظور، لأن الوقائع على الأرض، تخالف وتناقض ما يعلن من خطاب رسمي "شرعي"، ومن خطاب ما يسمى "التحالف/ الاحتلالي"، وحتى في صورة الخطاب الرسمي للشرعية الدولية والأممية".
وبالمناسبة، لم أكن يومًا من دعاة "الوحدة الفورية"، وكنت ضمن أسماء كثيرة ضد حرب 1994م، واعتبرتها وما أزال جريمة سياسية، ووطنية، يجب إدانتها وطنيًا وسياسيًا ودستوريًا، واشتغلت سياسيًا وكتابيًا لإبراز القضية الجنوبية حين صمت الكثيرون، وما أزال، ودافعت مع رفاقي في الحزب الاشتراكي عن القضية الجنوبية والدولة الفيدرالية من إقليمين، حين كنت ضمن فريق القضية الجنوبية، في الفريق الممثل للحزب الاشتراكي اليمني، ووقف ضدنا وفي مواجهة رؤيتنا، المؤتمر الشعبي العام، وحزب التجمع اليمني للإصلاح، وغيرهما من دعاة "الوحدة الفورية"!
كما أنني كنت مع قضية أبناء صعدة العادلة سياسيًا ومذهبيًا واقتصاديًا، وأنا اليوم لست ضد تقرير المصير في أوضاع سياسية طبيعية، وبصورة سياسية سلمية، وبما يعكس مصالح وإرادة أبناء الجنوب اليمني، فذلك حقهم وخيارهم السياسي، بعيدًا عن أي تدخلات خارجية لتقسيم البلاد والمنطقة وفقًا للأهواء والمخططات الإقليمية، والدولية الاستعمارية.
صفوة القول:
لا يمكن إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة المؤسساتية، التي يرفع شعارها البعض، دون الاتفاق على حل المشاكل السياسية، والعسكرية والأمنية، القائمة بين القوى المتصارعة، لصالح تثبيت بناء مشروع الدولة الجامعة (دولة المواطنة)، لنتمكن جميعًا بالتوافق السياسي الحواري، من رسم خارطة طريق سياسية وعملية (إجرائية تنفيذية) حول كل شيء، للخروج الآمن من الأزمة السياسية والوطنية الراهنة، وبالاعتماد على أنفسنا، بعيدًا عن العنف والحروب، وبعيدًا عن الاستقواء والاستنجاد بالأجنبي، من أي طرف كان، وبذلك نعيد تعريف مصالحنا جميعًا، دون الغوص (الركود) في تفاصيل الماضي، حتى نتمكن من الانطلاق معًا إلى المستقبل.
دون هذه الرؤية العملية والاستراتيجية (الوطنية اليمنية)، لم، ولن يستقر الداخل اليمني، في الشمال والجنوب، كما لن تستقر منطقة الجزيرة والخليج، بل كل المنطقة، ولن تتمكن السعودية -وغيرها- من الدخول لتنفيذ خططهم/ خطتها الطموحة للإصلاح "رؤية المملكة 2030م".
اقرأ أيضاً على النداء:
[embed]https://www.alndaa.net/43406[/embed]