صنعاء 19C امطار خفيفة

لماذا لا تخرج النساء اليمنيات للتشييع؟

لماذا لا تخرج النساء اليمنيات للتشييع؟

لا تتواجد النساء اليمنيات أثناء تشييع الجنازات، بينما تخرج المرأة للتشييع في مصر ولبنان وغيرها من البلدان العربية المسلمة، لا أعلم متى وكيف تم اتخاذ قرار منع النساء اليمنيات من المشاركة بالتشييع، رغم أن لا شيء في الدين يحرم ذلك.


أليس من الظلم ألا ترافق المرأة فقيدها أو فقيدتها إلى المثوى الأخير؟

سيقولون لأن المرأة عاطفية، وستبكي بصوتها، وتنوح عاليًا، وتعوق حركة الرجال، وينشغلون لتهدئتها. ليس صحيحًا، فخروج الجثة من المنزل لآخر مرة هو أصعب وأسوأ لحظات تعيشها النساء.

لقد كنت من النساء اللاتي شاركن في تشييع جثمان والدها، سأخبركم بقصتي وبشعوري وبتفاصيل ما عشته يومها.

كانت رضية المتوكل أول امرأة شاهدتها تخرج لتشييع جثمان والدها الطاهر، شهيدنا الدكتور محمد عبدالمالك المتوكل، أخبرني والدي بخروجها مع أخواتها وعدد من النساء، وشاهدت صورهن في ما بعد، تعجبت لقوتهن، وقلت في نفسي يا إلهي كم كان الموقف موجعًا وصعبًا! كيف تحملن ذلك؟ ودعوت قائلة: الله لا يطرحني بهذا الموقف.

ما حدث أنني عشت تلك التجربة، وبعد أشهر قليلة جدًا.

شاهدت والدي بثلاجة الموتى مرتين، قبل تشييعه، تأخر دفن جثمان والدي الطاهر أسبوعًا عن يوم مقتله، وظل بالثلاجة لمدة أسبوع. كانت أول مرة أراه باليوم التالي من اغتياله. برغم أن حياتنا كانت دائمًا معرضة للخطر ومهددة، ونتوقع أن يكون موت أبي بالقتل، إلا أن حادثة اغتياله كانت صادمة وموجعة جدًا، ولا تستوعب.

لقد كنت أنكر رحيل أبي، كنت أقول للموجودين ببيتنا بأن أبي لم يمت، سيعود، لقد وعدني بذلك، كان بيننا وعود بأشياء نفعلها معًا، ووالدي لا يخلف وعده لي، لم أوافق حتى على لبس ملابس سوداء. في اليوم التالي كان لا بد من إقناعي برحيل أبي، ذهبنا إلى المستشفى، صديقاتي بجانبي عند الدخول لغرفة الثلاجة، كانت خطواتي بطيئة جدًا، خائفة جدًا، لا أريد رؤية أبي هناك، كنت أهمس بداخلي: يا رب كذب يا رب كذب.

اقتربت أمي من أبي، وقاموا بإخراج جثة أبي، رأيتها من بعيد، صرخت وقتها بأعلى صوت، ولم تستطع رجلاي حملي، سقطت على الأرض وأنا منهارة، أصرخ وأبكي، إحدى صديقاتي اقتربت مني، وقالت لي : مش وقت يا آلاء، الحقي شوفي أبوك واشبعي منه وودعيه، لا تضيعي الوقت.

اقتربت من والدي، مسكت جسمه، لم يعد جسمه الرطب الناعم! إنه ثلج صلب، والدي كان يكره البرد كثيرًا، فور وصولي قاموا بإرجاع أبي لمكانه، وقالوا "خلاص كفاية". عند خروجي وحين وصولي للسيارة، أدركت أنني لم أشبع من والدي، ولم أجلس معه حتى دقيقة، التفت لخالي وقلت: "خال... رجعني الله يخليك ماشفتش أبي"، رد خالي قائلًا: "خلاص يكفي قد شفتوه ماعد ينفعش "، قلت له وأنا غارقة بالدموع: "أنا فدالك يا خال خليني أشوفه". أشار برأسه بأنه موافق، عدت سريعًا للثلاجة، كان بالقرب من مكان والدي ابن عمتي وزوج ابنة عمي وأحد الموظفين هناك، أخبرتهم بأن يفتحوا الثلاجة، ويخرجوا لي أبي، ولكنهم رفضوا، ترجيتهم كثيرًا، ولم يوافقوا، جلست على ركبتي وأنا أبكي وأمسك بأرجلهم وأترجاهم وأنا منهارة بالبكاء، بعدها وافقوا وفتحوا لي الثلاجة وأخرجوا لي والدي، تحدثت إليه وعاتبته كيف يستطيع تركي، وكيف سأعيش من دونه، قبلته وبكيت فوقه، وبعدها أخرجوني مجددًا.

بالطريق حاولت فتح باب السيارة، أريد رمي نفسي للشارع، ولكن ابن عمي انتبه لحركتي، وقام فورا بإمساكي وتأمين السيارة.

قبل تشييع والدي بيوم دخلت إلى ديوان بيتنا أثناء اتفاق عدد من عائلتنا على التشييع، أخبرتهم بأنني سأشارك، رفضوا وقالوا لا توجد نساء ستشارك، قلت لهم بلى، لقد شاركت النساء تشييع الدكتور محمد المتوكل، وأنا متأكدة بأن هنالك الكثير من النساء ستشارك بتشييع جثمان والدي، لن تخذله صديقاته وغيرهن من النساء المؤمنات بعبدالكريم. قالوا لي بس أنتِ دائمًا تبكي ويغمى عليك باستمرار، لا نريد هذا أثناء التشييع، لن ننشغل بك. أخبرتهم بأنني سأكون قوية، ولن يحدث شيء، ولن أشغل بالهم أبدًا.

صباح يوم التشييع كانت المرة الثانية والأخيرة التي نذهب لتوديع أبي بالمشفى قبل أخذ جثمانه إلى التشييع.

كنت مضطرة ألا أنزل دمعة واحدة وقتها، وأن أكون قوية لكي يسمحوا لي بالذهاب للتشييع. كنت أكابر وأتصنع القوة والثبات وأنا من داخلي أرتجف، وضربات قلبي تتسارع، قربت لوجه والدي، قبلته وهمست بأذنيه بعض الكلمات التوديعية، وأخبرته بأنني أحبه جدًا، هل تتخيلون وجع الموقف؟ رفعت رأسي وأنا مازلت أمثل، وقلت لهم: "شفتوا! ما بكيتش ولا حصل لي شي، يله خلوني أجي".

السيارة التي كنت على متنها عادت إلى منزلنا يعتقدون بأنني سأستسلم! لقد قمت فورًا بأخذ أخواتي إباء وآية واثنتين من صديقاتي، وأوقفت سيارة تاكسي، وذهبت لمكان التشييع الذي كان بالقرب من جامعة صنعاء بموقع ساحة التغيير.

يا إلهي كل هؤلاء الناس ستشارك بتشييع والدي! كل هؤلاء الناس تحب والدي؟ كانت صور والدي ملصقة على قبعات وعلى أعلام وصور لاصقة، أخذت صورة وألصقتها على صدري. وصلت إلى المكان المحدد، ورأيت الكثير من النساء، فرحت كثيرًا، بدأت بمعانقة من أعرفهن، الحمد لله لم يخذلن أبي، كان يتجمع الكثير حول جثمان والدي، دخلت إلى هنالك أنا وأخواتي، رأيت تابوت والدي، وتفاجأ رجال عائلتي بقدومي، ذهبت إلى أمام والدي، وركعت، ووضعت رأسي على التابوت، وسرعان ما قامت أخواتي بتقليدي.

من وقتها لم أعد أستوعب ما يحدث، ولا أستوعب حقيقة رحيل أبي، وأن من أقف في تشييعه هو والدي! لا أعلم من أين أتت تلك القوة والمكابرة وأنا أمشي رافعة رأسي ولا تنزل مني دمعة، حتى إنني أثناء تشييعنا قمت بالهتاف قائلة: "يا كريم..يا كريم.. على دربك سائرين"، وتردد جميع النساء بعدي هتافي.

توقفنا لحظات، إنه وقت إلقاء الخطابات، كانت توجد شاحنة كبيرة نسميها بالعامية "دينه"، كانت على متنها المنصة التي يتحدثون منها ويلقون خطاباتهم، جاء في بالي لماذا لا ألقي كلمة ألست ابنته؟ لكنني لست مستعدة ولم أتجهز. أخبرت بلقيس اللهبي بأنني أريد الصعود، سألتني هل جهزتِ كلمة؟ كانت إجابتي لا، ولكن أريد الطلوع وإلقاء كلمة، ساعديني.

ساعدتني واوصلتني إلى الشاحنة، لكن كيف سأصل إلى أعلى؟ جاء أحد أصدقاء عائلتنا، وجعل يديه متشابكين، وقال لي ادعسي على يدي واطلعي، قام ابن عمي بذات الشيء، دست على أيديهم (عز قدرهم)، وقام خالي بسحبي من أعلى، وصعدت، أخذت المايكروفون وقلت كلامًا خرج وقتها غير معد، وحقيقة أني لا أتذكر ماذا قلت.

اقتربنا من الوصول إلى المقبرة التي ستحتضن جسد أبي الطاهر، يتضاربون عند البوابة على الدخول وأنا أريد الدخول أيضًا، كنت أريد أن أرى والدي لآخر مرة، وأقول له الله معك يا حبيبي، ولكن الأمر كان صعبًا، لا أستطيع مواجهة الرجال وهم يتزاحمون هكذا، دخلت وقد فات الأوان، لقد أصبح والدي بمثواه الأخير، لم أستطع اللحاق به، لقد كانوا يقومون بالدفن بالتراب، وقتها أخذت قليلًا من التراب بيدي ورميته على قبره، وقلت له الله معك يا حبيبي في ودائع الرحمن.

ذهبت لبلقيس اللهبي ومازلت بقوتي، قلت لها خلاص! أمسكت بي، وقالت مش لازم نكابر ونغطي حزننا يحق لك تبكي وتصيحي وكل شي، بكيت وقتها بشدة، وحضنتها وبكينا معًا.

على الرغم من وجع ذلك اليوم، إلا أنني سعيدة بأني شاركت في تشييع أبي بأنني مشيت في جنازته هتفت وزغرطت وودعته إلى آخر مكان له.

لا بد أن تشارك النساء بالتشييع لا بد أن تكون موجودة، ولا تتخلى عن فقيدها أو فقيدتها بآخر لحظات وداعهم، يجب أن نكذب الخرافات التي أخبرتنا بالماضي بتحريم ذلك، وتحريم زيارة المرأة القبر، وكتابة اسمها على الضريح، وكل تلك الخرافات باسم الدين التي تحرم النساء من حقوقهن.

ليعصم الله قلبي وقلب كل مفارق.

* من صفحة الكاتبة على فيسبوك

 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً