1 - تبدو لنا كل أنواع الشر الموجهة نحو الأطفال أكثرها إمعاناً في اللا أخلاقية، وليس لأن البالغين يستحقون أن يكونوا عرضة للشر أو الإيذاء، بل لأن الطفولة محايدة، منزوعة السلاح؛ ولذا يبدو أبسط عدوان عليها جريمة جسيمة.
قد يكون لذلك بعد غريزي يتعلق بالحفاظ على النوع، ولكن لا شك في أن السبب الأعمق أخلاقي بامتياز؛ لأن العدوان على من لا يملك لنا ضراً نذالة وجبن. ولذا حرَّم العُرْف ثم الأديان والفلسفات قتل الأسير أو الاجهاز على جريح. أما عذاب الطفولة فقد اختاره كل الفلاسفة الذين درسوا مشكلة الشر في العالم في الفلسفة الغربية الوسيطة والحديثة، لأن عذاب الأطفال يطيح بكل النظريات التي تقول إن عالمنا أفضل العوالم الممكنة، بل وربطوا المشكلة بالأدلة التي قدمها اللاهوت لإثبات وجود الله. وما يعنينا هنا هو التأكيد على أن الطفولة محايدة، وإذا كانت الدول تلجأ إلى الحياد لتجنب شرور الحروب، فلماذا تتهاوى المجتمعات البشرية، على إلحاق أبشع أنواع الأذى بالكائنات المحايدة.
أصدر الرئيس الجزائري الأسبق، أحمد بن بللا، قانوناً يحظر عمل الأطفال في مهنة تنظيف أحذية الكبار في مدن الجزائر. وكان هذا القانون من القوانين التي صدرت بُعيد الاستقلال. وقد رأى فيه بعض المعلقين إجراء عاطفياً، وأنه لا يحل المشكلة، إلى غير ذلك من الحجج التي تبدو منطقية، ولكنها أبعد ما تكون عن المنطق، لأن القانون جسد إرادة أخلاقية ودفع الدولة والمجتمع للشروع فوراً في تجنيب الطفل وأسرته المذلة والهوان. فهو حكم يلزم الدولة بوضع حد لشقاء الأطفال؛ وعدم حظر مسح الأحذية لا يعني إلا الاستمرار في اعتبار هذه المهنة -ولو ضمنا- أمراً مقبولاً، مع أن القوانين تحرِّم عمل الأطفال على الاطلاق.
الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بله (صورة أرشيفية)
كان «بن بللا» يردد في تلك الأيام، مفسراً اشتراكيته وإسلامه، بأنه يحمل القرآن الكريم في يد و «رأس المال» في اليد الأخرى. ولم يكن الرجل مدلِّساً أو بهلواناً سياسياً مثل كثيرين قبله وبعده.
وأثبتت الأيام التي تلت بعد خروجه من السجن أنه صادق في إسلامه وعروبته واشتراكيته، وأنه لا يرى أي تناقض بين مكونات شخصيته هذه. ويبدو لي أن معالجة قضية الطفولة تحتاج إلى تضافر كل هذه المكونات لحلها نهائياً في بلدان الوطن العربي، وهي أعقد من أن تحل بدافع أخلاقي محض، فالنقد الأخلاقي وحده لا يكفي لتبيان شرور الاستغلال الرأسمالي، وهو في أساس هذه القضية، ومحاولة حلها خارج هذا الإطار، وإن صدقت النوايا، لا يكون إلا علاجاً جزئياً، بينما المطلوب والمنشود إنما هو إلغاؤها بحلها. وليس مبالغة القول بأن درجة تقدم وإنسانية أي مجتمع تقاس بموقفه من الطفل والمرأة، فهما يُضطهدان معاً أو يسعدان معاً. ومن الواضح أن النظرة الدونية إلى المرأة تمد ظلالها الظالمة إلى عالم الطفل البريء. وكما هي الحال في قضايا كثيرة، ليس توقيع المواثيق الدولية التي تحمي المرأة والطفل من قبل الدولة إلا مجاراة لاتجاهات دولية هي جزء من ديكور الدولة العصرية ومن مسوغات طلب المعونات أكثر من كونها مشاركة في عمل جاد محلي ودولي لحل المشاكل المزمنة التي يعاني منها مجتمعنا، إنه جزء من «السيادة» المتحررة من منطق الواجب.
2 - «وضع أطفال العالم 2005» هو التقرير السنوي. ويرسم في هذا العام لوحاً قاتماً بالأرقام الصاعقة: عدد الأطفال في العالم نحو 2.2 بليون طفل، يعيش 1.2 بليون منهم في العالم الذي يسمى نامياً، وعدد الذين يعيشون في حال فقر بلغ بليون طفل، أي: واحد من كل اثنين من الاطفال في العالم.
640 مليون طفل بدون مأوى، أي واحد من كل ثلاثة أطفال.
400 مليون طفل لا يحصلون على المياه الصحية، أي: لواحد من كل خمسة من الأطفال.
270 مليون طفل لا تقدم له خدمات صحية لائقة، أي: لواحد من كل سبعة من الاطفال.
طفل يعمل ماسحاً للأحذية (صورة أرشيفية متداولة في صحف أجنبية)
توفي في العام 2004 دون سن الخامسة 10.6 مليون طفل، وهو يعادل عدد الاطفال الاجمالي في فرنسا وايطاليا واليونان، وعدد الوفيات بين من هم دون الخامسة يومياً هو 29158، يتسبب في 3900 منها عدم توافر المياه. وبلغ العدد الاجمالي لهذه الوفيات 1.4 مليون طفل. وهؤلاء يقضون لسببين: وفرة فائضة تتمثل في الفيضانات، وشح في مناطق أخرى.. لا يمتد العمر بنحو عشرة ملايين من الأطفال للعيش بعد الخامسة، ويموت 2.2 مليون منهم في حال معاناة من أمراض، لتعذر الحصول على أمصال. كثيراً ما يكون ثمن طائرة حربية كافياً لإنقاذ أطفال دولة من دول العالم المتخلف/ التابع.
يولد 32 بالمائة من اطفال اليمن دون الوزن الطبيعي.
يولد 31 بالمائة من اطفال السودان دون الوزن الطبيعي.
يولد 30 بالمائة من اطفال الهند دون الوزن الطبيعي.
والنسبة في السويد 4 بالمائة
الاطفال الذين يعانون من سوء التغذية بسبب ولادتهم دون الوزن الطبيعي هم:
في جنوب آسيا 46 بالمائة - نحو نصف الأطفال.
في الصحراء الأفريقية 29 بالمائة.
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (تسمية شائعة منذ مطلع القرن العشرين لتجنب تعريف بلدان الوطن العربي) 14 بالمائة.
وفي أمريكا اللاتينية 7 بالمائة.
يبلغ عدد الوفيات بين الاطفال قبل الخامسة 5000 طفل في اليابان، والعمر المتوقع للمولود في اليابان 2003 يقدر بنحو 82 سنة، بينما يتوفى في زامبيا قبل بلوغ الخامسة 82000 والعمر المتوقع للمولود فيها 33 سنة.
في العالم 15 مليون طفل يتيم بسبب وفاة الأب أو الأم بالايدز، وهذا رقم قابل للزيادة؛ إذ أن نحو 40 بالمائة من البالغين في بوتسوانا يحملون فيروس هذا المرض. إن عدد الأيتام يعادل اجمالي عدد الأطفال في المانيا (15.2 مليون) ويفوق عددهم في المملكة المتحدة (13.2 مليون طفل).
تشن الولايات المتحدة الأمريكية الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهي لذلك تستحق صفة «إمبراطورية الشر» والتي أطلقها ريجان لوصف الاتحاد السوفييتي. ورغم أن وصفهما معاً بالإمبراطورية صادق، إلا أن أمريكا لا تزال مستمرة في شن الحروب لأسباب إمبراطورية لا سيما منذ الاعتداء على نيويورك وواشنطن في العام 2001، فأصبحت الحرب على الإرهاب استباقياً ذريعة للسيطرة على العالم بالقتل والتدمير وتسميم البيئة والبشر. إن أرومة الشر التي تنتج -دون كلل- ألوان الشرور، ومنها الطفولة المعذبة، هو هذا النظام الرأسمالي المعولم. واللامبالاة التي يتسم بها أداء وسائل الاعلام الدولية، والمنظمات الدولية، من هذه القضية سببها الاهتمام الشديد بالحرب على الارهاب، التي أصبحت راية آخر الامبراطوريات.
إن نسبة 1 بالمائة من ميزانيات التسلح كافية لإنقاذ الأطفال، وقد قدر تقرير براندت المشهور في الثمانينيات من القرن الماضي أن نحو 3 بالمائة من الانتاج الوطني الاجمالي في دول العالم المتقدم تكفي لإنقاذ كل دول العالم المتخلف/ التابع، الذي نهب العالم المتقدم ثرواته «وفائض إنتاجه التاريخي»(أنور عبدالملك).
3 - قدرت منظمة اليونيسيف في العام الماضي عدد الأطفال الذين يهربون من اليمن إلى السعودية بنحو خمسين ألف طفل بين سن 5 و12. وقبل أيام أفادت وسائل الاعلام في السعودية أن بعضهم أدخل إلى دور الرعاية (300 طفل). وكثر الحديث عن أن أهل الاطفال هم الذين يهرِّبونهم ليعولوا الاسرة بالتسول والدعارة والشذوذ الجنسي. وهذا دليل لا يرد على الوضع الفاجع في هذه البلاد، حيث لا تبالي الدولة بالقضية. والمجتمع ليس أقل مبالاة منها، لأن الدولة والطبقة التجارية موجهتان نحو الخارج بمنطق الدولة الريعية بالنسبة إلى المجتمع.
ويبدو أن برايين في حديث صحافي مع مسؤول في اليونيسيف توماس ماكيدرموف، في نهاية العام الماضي، وصف حال الأطفال بأنهم «الأطفال غير المرئيين» لأن المجتمع من حولهم نسيهم. وهناك آلاف منهم في السودان وفلسطين والعراق، عالقون في الصراع المسلح. إن أطفال اليمن لم يدخلوا هذا الأفق المظلم إلا مرتين: في حرب العام 1994، وفي صعدة في العامين المنصرمين، حيث سجن وعذب أطفال في غير مدينة يمنية، وأعرف بعض الأسر التي عانت من هذه الجريمة.
وما تزال الدراسة الوافية لحال الأطفال غائبة، ويا حبذا لو اهتمت المنظمات غير الحكومية بهذه القضية. فالدراسة جزء أساسي من الحل، وقد ذكر ماكيدرموف في حديثه أن اليمن والعراق وجيبوتي والسودان من بين أكثر الدول التي بها معدل وفيات مرتفع، وأن الذين في سن 18: 45 بالمائة في اليمن، و20 بالمائة في مصر. وإذا ما تذكرنا أن اليمن صاحب أعلى نسبة في الإعالة، أي عدد الأفراد في الاسرة الذين يعولهم رب الاسرة فإن هذه النسبة نذير شر.
وهذه سمة ثابتة في حياتنا, فكل مشاكلنا مدفوعة إلى حدها الأقصى كماً ونوعاً. والفجوة بين دخل الأغنياء والفقراء, واستحواذ شريحة صغيرة من السكان على أكبر نسبة من الثروة الوطنية، يزيد المشكلة تعقيداً. ولذا يبدو أن مواجهتها يجب أن تكون مجتمعية من ناحية ورسمية تكون جزءاً من خطة شاملة تعالج الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الوطني. وهذه مهمة دولة لمواطنيها، تملك إرادة ومشروع نهضة، وهي غائبة في المدى العربي كله. والموجود فيه نقص لها.
* نشر في النداء 30 نوفمبر 2006.