ابنة مختفٍ قسريًا ترعى لعدة شهور رجلًا ظنته في بداية الأمر أباها.. الرجل نفسه كان أحد المختفين قسريًا، ظهر لاحقًا أفراد من أسرته، وتم لقاؤه بهم في بيت ندى! قصة قد يعتقد البعض أنها من وحي الخيال، ولكنها حقيقة مُرة، أبطالها ضحايا الاختفاء القسري في اليمن.
بعد انتقال السلطة إلى الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، في 21فبراير 2012، بدا كأن اليمن داخلة في مرحلة جديدة، وبمبادرة من بعض أسر المختفين قسريًا والمتعاطفين معهم، تم تأسيس الرابطة اليمنية لأسر المختفين قسريًا، في تاريخ 21/3/2012، ضمت أسر المختفين من مراحل زمنية مختلفة، ومن مختلف مناطق اليمن، ورأس الرابطة وضاح سلطان أمين القرشي (وهو الآن مسؤول كبير في النيابة العامة في صنعاء).
تلقت الرابطة في 31/12/2012، بلاغًا من أسرة المختفي قسريًا مطهر عبدالرحمن الإرياني، المقيمة في محافظة الحديدة، تبلغ عن اختفاء والدهم في 1982. وفي البلاغ ناشدوا كل من له قلب أن يكشف عن الحقيقة مهما كانت، وفي 2013 وصل إلى أسرة المختفي قسريًا مطهر عبدالرحمن الإرياني، خبر إطلاق سراح العديد من المعتقلين الذين زج بهم نظام علي عبدالله صالح، في المعتقلات، منذ توليه الرئاسة في 1978. وبحسب ما تم تداوله، فقد وضع البعض في مصحات للأمراض النفسية، وآخرون رموا بهم في الشوارع بعقول شبه مفقودة، وأجساد تكاد تقوى على الحركة.
وبناء على تلك الأخبار، تحرك طارق عباس صبري، زوج الابنة الكبرى لمطهر الإرياني، حاملًا معه أمل لقائه، وصورة لعمه المختفي، وتوجه للبحث عنه في مستشفى دار السلام للصحة النفسية بمحافظة الحديدة.
وهنا كانت المفاجأة، فقد أخبرهم أحد موظفي المشفى، بعد أن رأى صورة مطهر، أنه موجود في دار المسنين التابع للمشفى، وبالفعل توجه صبري إلى الدار والفرح يكسو وجهه، والتقط صورة لعمه، وأرسلها إلى زوجته التي بدورها أرسلتها إلى أخوالها وعمومها، ليتعرفوا عليه، كونها لم تعد تتذكر ملامحه كثيرًا، إذ اختفى وهي بعمر سبع سنوات.
تقول ندى، وهي الابنة الكبرى لمطهر: "بعد إرسال الصورة لأقاربي، أخبروني جميعهم أنه بالفعل والدي".
ومن هنا تسلل الضوء إلى قلبها المظلم بالفقدان، وتوجهت يوم 15 يناير 2013، إلى الدار بمعية زوجها وقائد الأمن المركزي في الحديدة عبدالملك الارياني، وهناك عثرت على والدها وحيدًا بنصف ذاكرة، وبجسد نصف مشلول، كما عاملت على إخراجه بضمانة ذلك القائد.
أخذت ندى والدها إلى المنزل، وكان الشيء الوحيد المتبقي في ذاكرته اسمه واسم والدته، والمنطقة التي ترعرع فيها.
تذكرت ندى تلك اللحظات المبهجة، وقالت في حديثها لـ"النداء": "أخذت أبي إلى منزلي، وكلي سعادة لأني عثرت عليه بعد سنوات بحث طويلة"، وأشارت إلى أن كل من كان يزوره من الأصدقاء والأهل يقولون هذا بالفعل مطهر الإرياني.
لا تنسى ندى تلك المائدة التي كانوا يلتمون حولها لتناول الطعام، ويستمتعون بالأحاديث معًا، وبدندناته التي كانت تترنم عليها كل مساء، ولكن شوق الابنة لمعرفة ما إذا كان هذا بالفعل والدها، دفعها لقطع الشك باليقين، واتخاذ قرار إجراء تحليل الحمض النووي (DNA).
قطع الشك باليقين
قررت ندى بعد مضي عدة أشهر من العثور على (والدها)، واستضافته في منزلها، أن تلجأ إلى تحليل حمض (DNA).
تقول: "بعد أربعة أشهر لاحظت أن والدي يشدد على أن اسمه "طه الجعفري"، فاضطررت إلى عمل فحص (DNA) له، رغم تأكيد أهله وأصدقائه أنه هو".. وأردفت: "لقد قمنا بعمل ثلاثة فحوصات لوالدي، كان الأول عن طريق البحث الجنائي، وحصلت على النتيجة بعد مناشدات دامت ما يقارب تسعة أشهر، ولكني لم أثق بها".
أصرت ندى، بعد ذلك، على أن تعيد الفحص لوالدها، فقامت بعمل فحص ثانٍ، وأرسلته إلى شخص في أمريكا، وثالث قام جدها (والد والدتها) بإرساله أيضًا إلى الشخص نفسه، وبعد وصول الفحوصات إلى السفارة الأمريكية، ومنها إلى معمل البحث، وبعدها وزارة الداخلية، أظهرت جميعها نتائج كانت أشبه بخنجر مسموم أغمد في صدرها، واستباح قلبها الممتلئ بحب والدها.
حاولت ندى جاهدةً أن تبحث ولو عن بصيص أمل، وفي كل مرة من طلوع نتائج الفحص، تتبدد آمالها، ويتحطم قلبها المعلق بهذا الرجل الذي رأت فيه والدها.
وتروي ندى أكثر اللحظات ألمًا بالنسبة لها، ألا وهي لحظة مواجهته بالحقيقة التي لم تكن تتمناها أبدًا، إذ تقول: "دخلت إلى الرجل الذي يحمل ملامح والدي، والدموع تنهمر من عيني دون توقف، وأخبرته بأنه ليس أبي"، وتتابع: "كما طلبت منه بقلب مزقه الوجع، حرية الاختيار، إما العودة إلى الدار، أو البقاء معي، فاختار البقاء معي".
وهكذا قررت أن تبقيه معها، وفي الوقت نفسه، تكرس جهودها في البحث عن أسرته، وأخبرت ندى "طه الجعفري" أنها إذا لم تعثر على أهله، سيظل معها إلى جانب والدها في حال عثرت عليه، وسترعاهما معًا جنبًا إلى جنب.
وجزمت ندى في حديثها لـ"النداء"، أن "طه الجعفري" كان مسجونًا سياسيًا، وأرجعت السبب إلى صراخه الشديد والمتكرر أثناء النوم، حيث كان يشتم القوات المسلحة، وعلي عبدالله صالح، وضباطًا عسكريين، كما أشارت إلى وجود ضربة في رأسه، وكذلك آثار تعذيب على ظهره بأعقاب السجائر، إضافة إلى أثر رصاصة في ركبته سببت له الصعوبة في ثنيها أو المشي عليها.
ندى تعرف معنى الغياب وقسوته، وتشعر بوجعه، لأنها إحدى ضحاياه، ولذلك رأت أن الواجب الإنساني يحتم عليها البحث عن أسرة الجعفري، ولذلك قامت بنشر صورته على الإنترنت، وتعرف عليه أحد المغتربين في السعودية، وأخبرها بأنه يعرف هذا الشخص، وهو مختفٍ مُنذ أربعين سنة، ولديه أختان، بعد ذلك أخذ رقمها، وتواصل بأهل الجعفري، وهم بدورهم جاؤوا إلى المنزل والفرحة مرسومة على وجوههم التي أرهقها ألم الغياب.
تقول ندى، وهي تتذكر تلك اللحظات الأشد وجعًا بالنسبة لها: "عندما وصلت أسرة "الجعفري" إلى منزلي، كان الكل يبكي وكأننا في صالة عزاء"، مضيفة: "وعند خروجه من المنزل بمعية أسرته الذي تعرف عليهم بكيت بحرقة، وكنت أصرخ من شدة حزني على فراقه".
وتحدثت بلهجتها الحُديدية، وبصوت مخلوط بدموع الحزن، قائلة: "أنا عملت خيرًا، وأعدته لأهله.. الله يرجع لي غائبي".
وعلى الرغم من ألم فراق من كانت تظنه والدها، إلا أنها لم تخفِ فرحتها بعودة مختفٍ قسريًا إلى ذويه على يديها، وأكدت أنها لاتزال تتواصل معه حتى بعد عودته إلى أهله، كما لاتزال في كل اتصال له تناديه يا أبي.
رجوع الجعفري إلى أهله بعد اختفاء قسري دام أكثر من أربعين عامًا، وقضى عامًا ونصف العام في منزل الابنة الكبرى للمختفي قسريًا مطهر الإرياني، ترك أثرًا كبيرًا في نفسها وصحتها، حيث عانت بعد فراقه من تضخم في عضلة القلب، كما تسبب لها ذلك الدخول في حالة إحباط جعلها تغلق موضوع البحث لفترة قبل العودة مجددًا.
رحلة البحث عن أمل
ندى مع نجلها بعد 40 سنة على اختفاء والدها (النداء)
لم تسمح ندى لليأس أن يتسرب إلى ذاتها، وأكلمت طريق البحث عن والدها المختفي، وتواصلت بعدها مع جلال الروشان الذي كان يشغل آنذاك مديرًا لجهاز الأمن السياسي، وهو بدوره أخبرها بأن سجونهم خالية، وأن أرشيف المعتقلين السياسيين في الشمال والجنوب، قد أحرق عام 1990، فما كان من ندى إلا أن تقول له: "أنا أحملك المسؤولية أمام الله، وستسأل عنها"، فأجابها بالقول: "أتحملها".
تقول ندى: "قدمت بعد ذلك مناشدة إلى رئيس السلطة في صنعاء مهدي المشاط، وإلى الأمن السياسي، وإلى رئيس الاستخبارات العسكرية أبو علي الحاكم، وعضو المجلس السياسي الأعلى، رئيس اللجنة العدلية محمد علي الحوثي، ورئيس جهاز الأمن والمخابرات أبو الكرار الخيواني، أطالبهم من خلالها بالكشف عن مصير والدي حيًا أو ميتًا"، ولكن وفي كل تواصل معهم يكتفون بالرد: "البحث جارٍ".
وتشير إلى قيامها بزيارة الأمن السياسي مرتين من تلقاء نفسها، بينما في المرة الثالثة تم استدعاؤها والتحقيق معها حول والدها، والمعلومات التي لديها مُنذ اختفائه، وهناك تمادى أحد الضباط بقوله وباللهجة العامية: "ما تشتي به، قد هو عاجز"، ولكن هذه العبارة لم تؤثر فيها، وأجابته بقلب الابنة البارة لأبيها، وتضيف "هذا أبي أريده عاجز، مجنون، أعمى، حتى لو هو ميت، أشتي جثته.. هذا أبي". وإلى اليوم لاتزال ندى تنتظر ردًا يشفي غليل صدرها.
وعلى الصعيد نفسه، حاولت التواصل مع غالب القمش، الذي كان يرأس الأمن السياسي عند اختفاء والدها وعدد من المختفيين قسريًا.
تكشف ندى "أخبرت القمش قبل شهور في رسائل بـ"الواتساب"، بأني سأسامحه إذا أخبرني بمكان والدي، ولكنه لم يرد". وهنا تألمت كثيرًا من تجاهله لرسائلها، وعدم تعاونه معها، وكنتيجة لذلك أرسلت له رسالة قالت فيها: "أنت وصمة عار على جبين أولادك، والتاريخ سيلعنك حيًا وميتًا". وهنا توقفت عن التواصل معه.
وتعبر ندى عن أسفها من التخاذل الذي وجدته، وتحديدًا من الحزب الاشتراكي الذي يعتبر مطهر الإرياني أحد كوادره. وتؤكد أنها رفعت مذكرة ليحيى أبو أصبع، رئيس اللجنة المركزية للحزب، ولكنها لم تجد منه أي تجاوب يظهر مدى الاهتمام بقضية والدها، على الرغم من تسهيلها لمهمتهم في كل مكان، ابتداء من الرئاسة وحتى الأمن السياسي.
وفي تطورات أخيرة، تلقت ندى، قبل أيام، سند استلام معاملة كانت تقدمت بها إلى دائرة السكرتارية العامة والتوثيق في مكتب رئيس الجمهوري الذي يديره الحوثيون، وطُلب منها تسليمها إلى الأمن السياسي والمتابعة الأسبوعية لها.
ندى لم تكن الوحيدة التي تجرعت من كأس معاناة الاختفاء القسري في اليمن، بل هناك العديد من الأسر اليمنية التي كانت ومازالت تبحث عن ذويها منذ تلك الفترة، وبعد الإعلان عن إطلاق سراح عدد من المختفين قسريًا، عقب ثورة فبراير، انتشروا جميعًا للبحث عنهم في المصحات، ودور العجزة، لعلهم بذلك يجدون غائبيهم، منهم أسرة المختفي قسريًا أمير قائد ناصر الجعدي الذي تم العثور عليه في مصحة السلام، ولكن سرعان ما أخفوه بمجرد معرفة أهله بمكانه، وكذلك المختفي أحمد غانم معروف الذي اكتشفت أسرته بعد ثلاثين عامًا، أنه موجود في السجون السرية لعلي صالح.
من هو مطهر الإرياني؟
ولد مطهر عبدالرحمن عبدالواسع الإرياني، في منطقة إريان بمحافظة إب، 1942، وهو سياسي وناشط يساري، كان عضوًا في حركة القومين العرب، وعضوًا في الحزب الديمقراطي الثوري الذي تحول إلى الحزب الاشتراكي، تلقى تعليمه في (معلامة) القرية، ثم أرسله والده إلى مدينة تعز لإكمال تعليمه.
انضم الإرياني مع رفاقه للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر 1962، وتعرض للاعتقالات عدة مرات، على خلفية نشاطه الساسي، وبعد خروجه من المعتقل نصحه أحد اصدقائه بالفرار إلى الحديدة، بعيدًا عن ملاحقات الشرطة العسكرية، وهناك استقر مطهر وعاش في حارة "الشحارية"، وتزوج من فوزية أحمد صبري، وأنجب منها أربع بنات: ندى، أمل، عُلا، أما الرابعة فقد توفاها الأجل بعمر صغير.
يقول زميله عبدالله عبدالمجيد، في رسالة وجهها للابنة الكبرى لمطهر، عام 2015: "كان مطهر مثابرًا وجسورًا، أسهم في توسيع قواعد حركة القوميين العرب"، وأشار إلى أنه من أنشأ أول كيان نقابي لعمال الحديدة، وأسهم في تكوين المقاومة الشعبية عند "حصار السبعين"، أواخر 1967 وبداية 1968.
اختفى بعد خروجه من المنزل بمحافظة الحديدة، وذلك أثناء توجهه إلى العمل في وكالة الحسيني للسيارات، عصر يوم 23/10/1982.
وزير الخارجية الأسبق عبدالكريم الإرياني، أكد لأسرته أنه كان تحت مراقبتهم من بعيد حتى عام 1984، ومن بعدها لم يعد يسمع عنه أي خبر.
وصلت أخبار إلى أسرته من قبل بعض المعتقلين الذين تم إطلاق سراحهم، قالوا فيها بأن مطهر نُقل من صنعاء إلى جزيرة كمران، خلال عام 2014، ثم أعيد إلى صنعاء وهو فاقد بصره.
وماتزال ندى تتلقى وعودًا من مسؤولين أمنيين، وهي رغم الخيبات ترفض أن تستسلم لليأس، عازمة أن تقدم نموذجًا مختلفًا لأسر المختفين قسريًا.
تقول إنها ستعرف مصير والدها، وستدعم كل أسرة من أجل معرفة مصير قريبه، فطه الجعفري التقى أسرته، وهناك العشرات مثله في الانتظار في المصحات والمعتقلات.