مهاد..
هناك منطق استراتيجي يحكم السلوك الأمريكي في المنطقة، الشرق الأوسط، والخليج، واليمن في قلب هذه المنطقة، هذا المنطق محكوم بما تريده أمريكا من منافع، وليس ما تريده دول المنطقة حتمًا.
كان هناك استراتيجية أمريكية قديمة صيغت للوهلة الأولى في نهاية القرن التاسع عشر، عند بداية ظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية لأول مرة. وقد كانت الاستراتيجية الأصلية من بنات أفكار ألفريد ماهان، الذى صاغ نظريته باعتبار القوة البحرية هي الحاسمة، ويمكن أن تحتوي أو تحاصر القوى البرية، ومازال شيء منها يتم العمل به، مع إعطاء أولوية للبحر الأسود عن البحر الأحمر حاليًا، وغيره من البحار، فهناك مكمن الخطر الحالي.
المبتدأ..
لقد تغير مصطلح حلفاء أمريكا أو شركاء أمريكا، ذلك أنه مصطلح فيه سيولة وعدم ثبات، ليس هناك شريك أو حليف لأمريكا إطلاقًا في المنطقة، سوى إسرائيل، وباقي الدول هي مصدر استثمار أمريكي عابر متغير إذا تغيرت تلك المصالح، والاستغناء عن أية دولة ممكن في أية لحظة، ومفهوم المجال الحيوي الأمريكي في الخليج -بحسب قانون كارتر- لم يعد عاملًا لأسباب عديدة يطول الإسهاب فيها في عجالة مقال، لكن ما هو باقٍ من ذلك كله بقايا اهتمام تفرضه الممرات المائية وتدفق الطاقة.
الخبر..
اليمن لا تشكل شيئًا ذا بال في السياسة الأمريكية، كونها أولًا، ليست من الدول المركزية في المنطقة، وثانيًا، حجم الكلفة والصراع فيها، ما يعني أمريكا في اليمن ثلاث قضايا فقط، هي باب المندب وطرق الملاحة، البحر الأحمر وخليج عدن، وثالثًا ملف القاعدة والإرهاب ونشاطها، وعينها محصورة على هذه القضايا، وما عداه فهو كلام سياسي وشيكات بدون رصيد، وفضاء من فضاءات التكتيكية أو الدبلوماسية الأمريكية.
باختصار.. لن تذهب أمريكا بعيدًا في بذل مجهود أو عقوبات للضغط لحل سياسي في اليمن في أية حكومة أمريكية جمهورية أو ديمقراطية.
ومحركات السياسة الخارجية الأمريكية تقاد داخليًا عبر لوبيات مالية وإعلامية واستراتيجية، بالإضافة إلى احتياجات المواطن الأمريكي الداخلية، وهناك مجموعة شبكات مستقرة يمكن تسميتها مجازًا الدولة العميقة، ويأتي الكونجرس ومجلس الشيوخ والبنك الفيدرالي والمخابرات والبنتاجون وغيرها ضمن هذه المنظومة الواسعة التي تجعل مسار أي رئيس محكومًا بمسارات محددة ومقيدة، وتأتي مواسم الانتخابات بكل مستوياتها المختلفة محطات لضبط إرادة الدولة العميقة إذا رأت أن الرئيس وفريق عمله قد ذهبوا بعيدًا عن توجهاتهم المستقرة.
الجملة..
الحروب التي خاضتها أمريكا في المنطقة، وأهمها تحرير الكويت، وغزو العراق، وحرب أفغانستان، وحتى الحروب الطفيفة التي شاركت أمريكا فيها دعمًا، كالحرب العراقية الإيرانية، والتدخل في حرب داعش، والقضية السورية، كل تلك الحروب هي آخر مشاركة وآخر حروب أمريكا في المنطقة؛ لأسباب كثيرة، لكن أهم تلك الأسباب أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد مغنمًا أمريكيًا كبيرًا، ولكنها لا شك منطقة مصالح أمريكية تقليدية.
وبالعودة إلى التاريخ فإن أهمية الشرق الأوسط لدى الأمريكان تعاظمت بعد خروج بريطانيا وجلائها من شرق السويس، عام 1971، ثم أصبحت أهم بعد حرب أكتوبر 1973، وعام 1979 توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، ثم الثورة الإيرانية، ودخول الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، لكن الركيزة الرئيسة لهذا الاهتمام هي بزوغ عصر النفط العربي الذي أمد الأمريكان بالرفاه بسعر خرافي كانت أمريكا هي المستفيد الأول مقارنة ببلدان المصدر..
واليوم وقد تغيرت معادلة الطاقة، فلا حاجة لأن تخوض أمريكا حربًا، أو تحرص على إيقاف حرب، فذلك من باب لزوم ما لا يلزم، بل إنه من الممكن تشجيع بعض النزاعات الصغيرة، والاستفادة منها لصالح شركات السلاح كما هو مذهب ثعلب السياسة الأمريكية كيسنجر، وهو مذهب من مذاهب أربعة أمريكية، لكنه الأكثر رواجًا وشيوعًا حتى اليوم.
هذا التخلي الأمريكي يستدعي من العرب والتحالف العربي واليمن، أن يضعوا نصب أعينهم، وهم يواجهون الاستعمار الإيراني، ونظرية تصدير الثورة، أن يدركوا أنه من الأهمية بمكان الاعتماد على خيارات بديلة، من ضمنها وأهمها الإمكانات الذاتية العربية مهما كانت، فهي إن تجمعت وترشدت وحشدت تشكل قوة قادرة على الصد وحماية الأمن القومي العربي، وأمامها فرص وخيارات متاحة لا يستهان بها.
السياق..
المنطق السائد والمستقر في أمريكا الآن يتلخص بإيجاز على لسان الأمريكان شعبًا ومراكز قرار، بالتالي: توجد لدينا مشاكل كثيرة جدًا في الداخل من الأحرى أن نلتفت إليها ونتعامل معها، وعدم إنفاق أموال طائلة كما كان في الاستراتيجية الأمريكية القديمة.
الحال..
الشرق الأوسط والخليج قلبه الأهم لم يعد هو الاهتمام الأول لأمريكا، فقد تغيرت الأولويات بتقدم صناعة النفط واستخراجه في أمريكا من ناحية، وبروز التنين الصيني القادم لإزاحة أمريكا من المركز الأول اقتصاديًا بعد سنوات قد لا تطول، ناهيك عن أن روسيا وحلمها الأوراسي هي الخطر والأولوية الثانية، ومع تعاظم تقارب روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، وغيرها من دول في آسيا، يجعل حسابات الأمريكان تعاد في رسم الأولويات التي تضع الخطوط العريضة لمجالها الحيوي، ولمصادر الخطر القادم، وأمامها صورة سقوط الإمبراطورية الإسبانية قديمًا، ثم البريطانية، والحلم الأمريكي كان وعدًا بالبقاء على قيادات العالم إلى ما لا نهاية، أو إلى أجل بعيد، ومن ذلك الحلم والرغبة واليقين كان كتاب نهاية التاريخ، الذي يفترض أن التاريخ انتهى عند الرأسمالية الأمريكية غير القابلة للزوال، والممسكة بالاقتصاد والقوة العسكرية والعلمية.
الجار والمجرور.. أمريكا وإيران
تقوم السياسة الأمريكية نحو إيران على مبدأ الاحتواء، وعلى المدى الاستراتيجي البعيد، لتحويلها إلى حليف محتمل، لاسيما وإيران الشاه كانت أهم حليف في المنطقة، إيران عرضت هذا الأمر على أمريكا، ولكنها تريد ثمنًا، وهو أن تترك لها الوكالة في المنطقة والنفوذ الأوسع، لم يتمكن الطرفان من إبرام صفقة آنذاك، لكن الأمر متروك للمستقبل، بالطبع تريد أمريكا إمساك خيوط اللعبة كاملة في المنطقة، وهي ليست شريكًا مع العرب في حربهم مع إيران إلا حين تتأذى إسرائيل، وسيناريو حرب إيران وإسرائيل مستبعد باستثناء الحرب السيبرانية وبعض العمليات الاستخباراتية أو الاغتيالات المتبادلة أو الضربات في سوريا ومناطق أخرى على نطاق محدود.
على سبيل الختم..
على أي مهتم أو شغوف بإدراك السياسة الأمريكية، أن يدرك أن الاستراتيجية الأمريكية القديمة قد ماتت ودفنت أو تم تحنيطها على أفضل الأحوال، لعل وعسى يحدث أمر جلل أو حرب كونية تغير مسار العالم ثانية لصالح أمريكا إذا تم سحق الصين أو جرها إلى مستنقع ما، وهذا السيناريو كما أنه ممكن، إلا أنه مستبعد، فالصين ليست بذلك الغباء كي تبدد طموحها الجموح القادم بسرعة الصاروخ.
وإذا كانت الاستراتيجية الأمريكية القديمة قائمة على احتذاء حذو البحرية الملكية، والنسج على منوالها، مع الاعتماد على الذات، وتوسيع المجال الحيوي، لكن هذه النظرية أصبحت في عداد المفقودين، ولم يبقَ منها إلا القليل، بفعل تغيرات العالم الجوهرية، والاقتصادية في طليعتها، ولن تؤثر أحداث أوكرانيا شيئًا في تغير هذه الوضع، بل ربما تزيد تواري أمريكا لصالح أقطاب جديدة.