إلى: عبدالملك السنباني، عندما تعود من المهجر، إلى أمك وبيتك -وطنك، وقبل أن تبلغ الجدار.. طخ!
"لا يسكن المرء بلادًا، بل يسكن لغة. ذلك هو الوطن، ولا شيء غيره" (سيوران، لو كان آدم سعيدًا).
**
المدن تُعرف بالثقافي: المقهى، المكتبة، الجامعة، المدرسة، الحديقة، المتحف، المتنفسات، الميادين، التماثيل، المجسمات، المعارض، الحفلات الموسيقية، الألعاب، الكرنفالات، المسرح، والسينما، تعرف بالوجه المفتوح للرجل والمرأة، بالشرفة، بالصورة، بالرسم، وفيها تتكلم الجدران فنًا من لون وخطوط، ونقوش، فضاءات الأشجار والورود والغابات، المدينة طريق ورصيف، وممشى لذوي الاحتياجات الخاصة. المدينة تُعرف بالقانون والنظافة، والتعليم والفن، والحوار والسلام، والأمن والأمان.
هذه لغة المدينة، ولا تستقيم أو يكون لها معنى إلا بهذه البنى التحتية والممارسات الثقافية والاجتماعية، و... الخ.
شعار الحوثيين في صنعاء 2013 (أروى عثمان)
ماذا عن بلادنا اليمن، أو ما يطلق عليها "اليمن السعيد"، واليمن الأخضر، ويمن الساعة السليمانية، والفذاحة، يمن الحكمة والحضارة، وخير أمة، يمن الإيمان والفقه يمانٍ، والفتوحات الكبرى والأبطال المغاوير: ذو الكلاع الحميري، ومالك الأشتر، وأسعد الكامل، ومعاذ بن جبل، وسيف بن ذي يزن، والتبابعة والمكاربة، والمقايلة، وشيخ مشايخ، واللحوم المسمومة للإخوان المسلمين والحوثة والسلفيين، واليمن في قلوبنا، واليمن أولًا، يمن خلع الزنة ولبس ميري، والعكس، يمن الجنبية والجرمل والجعب... وغيرها من مسميات الأساطير بمعناها الخرافي/ الوهمي، والديني المذهبي/ الطائفي، وليس بمعناها الفلسفي، وحتى التاريخي في أبهت صوره.. سنرى أين نحن من معنى المدينة وجدرانها، وأسوارها، وتنوع أساليب المعيش، وفضاءات الحياة؟
شعارات في سور جامعة صنعاء 2011 (أروى عثمان)
(2)
الذاكرة المثقلة لـ"ابتسم أنت في اليمن"! والمتجولة سفرًا في طرقات وشوارع اليمن قاطبة، بما فيها الريف، من العاصمة صنعاء، وعمران، وصعدة، وتعز، وعدن... الخ، بما فيها طرقات السفر الطويلة، ستتناهبك صور الجدران والجبال والخربشات الكتابية والرسوم البدائية، تصيبك الوحشة، ليس فقط من فجائعية الطرقات التي انتهى زمنها الافتراضي منذ أمد بعيد، لتصبح طرقات الموت الجماعي، طرقاتنا الخالية من مطعم نظيف أو حمام يليق بالآدمية، خصوصًا ونحن نسافر من يوم إلى يومين وأكثر، في ظل الحرب وأهوالها، حيث تتقطعك تشكيلات المليشيات الوحشية في كل شبر، راسمة حدود جغرافيا التقاتل، والنهب المنفلت، مليشيات "الخراج والريع"، ناهيكم عن ويلات الذل والمهانة، وان نجوت منها في هذا الطريق، فلن تنجو في الطريق الآخر، وأضعف الإيمان أن تنجو بحياتك بذرذرة النقود بمسمى الحقانية: "حق القات"، و"حق الأمان/ الحراسة"!
أن تسافر في طرقات اليمن، تكتب وصيتك، أولًا، ليس من باب مقولة اليمنيين المتوارثة "ابن آدم ضعيف"، واحتمالية ألا ترجع، فإن لم تمت من المليشيات كالسنباني وأيمن المجاهد، وغيرهما، ستلقى حتفك في المطبات والمنحدرات المخيفة، وفي النعوش الطائرة، خصوصًا الدبابات/ العكابر التي لا تتم صيانتها، ويجري تحميلها بأثقال جبال، و"كله على الله"، ناهيكم عن انسطال السائق بالقات والشمة وما إلى ذلك من "المنبهات"، ومع الحرب برز خطر الألغام، فإن نجوت منها في هذا النقيل، لن تنجو منها في الهيجة الأخرى، أما تكاليف السفر كأنك ستسافر على طائرة خمس نجوم!
شعارات دينية في جدران المدن - تعز 2017 (أروى عثمان)
صَدق آباؤنا وأجدادنا وهم يسمون الطرقات التي لا تليق بالآدميين ولا بالحيوانات: "طريق الشيطان، عقبة الجني، عقبة الموت، سرحة النافخ"، وطاهش الحوبان" و...
بجانب تلك الوحشة ينتابك الذعر، أيضًا، من طهبشة ووحشنة الجدران، تلك الأيدي والعقول التي تسقط أمراضها الدفينة شخبطات على الجدران، تطعنك لتسيل دمًا على دم، كراهية وطائفية، وتشعبات العدمية النافرة في تصرفاتنا، نسكبها على جدران الطرقات، والشوارع والبيوت والمدارس، ورياض الأطفال، فكل المليشيات تستنجي بالإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، وبالمزيد من العنف والعنف المضاد.
لا تقل إنها ليست سوى جدران "خليهم يشخبطوا"، الجدران تتكلم بلساننا، وبما اقترفت أيدينا من قبح، بل جرم، إنها تعكس دواخلنا، من نحن، ووجه مدننا!
إنهم الآدميون، الذين لم يعبروا عبور الكرام، في تلك الطرقات، بل سطروا عنفهم، وهم -أيضًا- ضحايا لثقافة التعصب والكراهية التي رضعناها من تربيتنا، من القبيلة وثاراتها، من المساجد وتمذهباتها، من ثقافة القوة والكراهية في المناهج التعليمية، من قومية، وشمولية، ومناهج الإسلام السياسي (الإخوان المسلمين -الحوثي). ولا ننسى الخطاب الإعلامي الذي يتغذى من أدران الوحشية.
وتبدو شخابيط الكراهية والعنف والإرهاب، والاستقواء حافلة بتكفير ولعن الآخر من يهود ونصارى، وتفخيم الذات الإسلامية والتاريخية بشيزوفرينيا، "ابتسم أنت في اليمن"!
(3)
شعارات في جامعة صنعاء 2011 (أروى عثمان)
صورة المدينة من جدرانها سلمًا وحربًا، وفي الحرب تصبح المدن حفرًا من نار، تقذف وتبتلع في أتونها كل شيء، ناسها وعمرانها، وعقلها وروحها، وتخلق ليس تلك الأوظار المتوحشة، بل تتفنن كماكينة التهام/ بلدوزر يمحق كل شيء بضمير مرتاح، والجدران هي منتجات هذا التوظر المحرق، إذ تتوشى المدن بجدران الكراهية من حروب اللغة التي تسيل علينا، وتغرقنا جميعًا بلا استثناء. رأينا والتسعنا مع الحرب، كيف تخرج مقذوفات الكراهية في وجوهنا ووجه الجدران، شخابيط دامية، مؤذية، تسمنا في الغدو والرواح، وتلاحقنا حتى وسائد نومنا.
إنها لا تقل فتكًا من حروب وجهاد المليشيات، وصواريخها القرآنية الناطقة، سنة وشيعة، جدران هوياتية تفتت المفتت، إنها المعارك وضدياتها، جبهات وجبهات مضادة، تتصارع لتزيح مهشمة "يا اللي ظلالش برود"، لتستأسد ثقلًا وتركة ثقافة، "بلد ما تعرف أهلها حشِّر وبول فيها"، يتأجج هذا المثل في حروب الإخوة الأعداء، إلى "بلد تعرف أهلها حشر وتغوط فيها، واسفح دمهم، كَثر من قبورهم، واجعل ما تبقى من حياتهم جحيمًا في جحيم"، وبالمثل الجدران تعرفها، أو لا تعرفها، وحولها إلى سخام، تحمل عنوان: كان هناك طريق، كانت هناك مدينة.
وما ينطبق على المدن اليمنية، يسري على الأرياف، والخطوط الطويلة أثناء السفر، إذ تطالعك المئات من الجدران وعليها عبارات وشعارات وصور الكراهية الفاتكة بكل مخالف، والممجدة لهوية المجتمع/ الصندقة المغلقة/ اللحد المنطبق على الهوية الواحدة الأحادية، ميكرو الهوية الجزئي من عرق، ودين، ومذهب، وقرية، وجهة، وقبيلة.
سجلت كاميرتي المتواضعة، بعض حروب الشعارات، حتى على جدار واحد، كمربع سور جامعة صنعاء، أو الأبواب في 2011، ليس بين من يطلق عليهم أنصار عفاش، والثوار، بل حتى بين الثوار أنفسهم، كانت الشعارات حامية وحافلة بالتخوين، والتكفير، واللعن، والبصق لسيلانات القات والبردقان، والرصاص أيضًا، أما اليوم مع الاحتلال الحوثي، فنرى الكوارث والمجاعات، والدمويات لـ"جمنة" -"وقيد ربي" من الكراهيات والطائفيات، تدمر ما تبقى من بقعة جدار توارت خوفًا من جحيم 2011، ليقبض عليها الحوثي في 21 سبتمبر 2014.