صنعاء 19C امطار خفيفة

القضاء.. خصم آخر للعمال

2006-07-08
القضاء.. خصم آخر للعمال
القضاء.. خصم آخر للعمال
 
م 
 
منذ عام ونصف، و«أحمد محمد ناجي» ينتظر قرابة ثلاث ساعات يومياً في مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل.
إنه يأمل أن يحصل على قرار من «لجنة التحكيم العمالية» عيد له حقوقه التي صادرها رب العمل.. ومثله عمال كثيرون!
اعتقدوا أن الجدار الذي استندوا عليه «سيسندهم».. لكنه لم يكن كذلك!!
- بشير السيد
يحظى القطاع الخاص في بلادنا بخاصية لا توجد في بلدان أخرى: «عمالة رخيصة غير محمية قانونياً ولا نقابياً».
مئات العمال يتم فصلهم يومياً لينضموا إلى طابور البطالة لمجرد مطالبتهم بحقوقهم التي كفلها لهم القانون. أصبحوا أسرى لشروط ومزاجية أرباب العمل. أما القوانين العمالية التي تنظم العلاقة بين العامل ورب العمل، فقد باتت غير قابلة للتنفيذ. بل إن الجهة المختصة (وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل)، التي يفترض أن تنتزع حقوق العمال من القطاع الخاص وتدافع عنها كون العامل هو الحلقة الأضعف، بدت كطرف في صف رب العمل، الذي تربى وترعرع وسمن بطرق لا تختلف عن احتياله على حقوق الطبقة العاملة، مثل: ظآلة الأجور، الإرهاق في العمل لمدة (10-12) ساعة يومياً (خلافاً لما حدده القانون، أي 8 ساعات)، التهديد بفصل كل من يطالب بحقوقه، حرمانهم من بدل الاضافي والإجازات والحوافز، بالإضافة إلى غياب التأمين على سلامة العامل وصحته...
ويصبح على العامل الذي سيلجأ إلى «إدارة منازعات العمل واللجنة التحكيمية» المختصة في الفصل في القضايا العمالية، أن يستعد لمشوار طويل لن يجني منه سوى المزيد من ضياع الحقوق ومن الخسائر المستمرة في سبيل الوصول إلى وهم العدالة المنشودة.
مئات القضايا العمالية منظورة أمام لجنة التحكيم، كلها تطالب بحقوق العمال المنتهكة من ارباب العمل. بيد أن هذه اللجنة تتحرك ببطء شديد، وعلى العامل أن ينتظر طويلاً، قد يستمر إنتظاره خمس سنوات كيما يحصل على قرار، وفي حالة تنفيذه لا يساوي مجموع ما أنفقه أثناء فترة التقاضي.
المستجير من الرمضاء بالنار
«أصبحتُ كالشحات من دكان لدكان»، قالها أحمد يحيى ناجي (40 عاماً) تعبيراً عن حالته المتدهورة جراء إنتظار امتد عاماً ونصف في دائرة منازعات العمل واللجنة التحكيمية آملاً استعادة حقوقه من رب العمل.
«ناجي»، الذي عمل في أحد المطاعم في العاصمة لمدة 15 عاماً وتم الاستغناء عنه بدون مبرر، قال: «إن غريمي اعترف منذ الاسبوع الاول بعد تقديم الشكوى عليه في إدارة المنازعات بمكتب الشؤون الاجتماعية والعمل في الأمانة، قبل عام ونصف، لكن لا اعرف لماذا كل هذه المدة من الانتظار، ولم يحكم لي بحقوقي حتى الآن».
ويضيف «ناجي»، الذي هجرته زوجته إلى بيت ابيها مع اولاده، لعدم استطاعته الانفاق عليهم: «لم استطع الحصول على عمل لأنهم (اصحاب المطاعم) عرفوا أني طالبت بحقوقي».
لكن لو ان رئيس لجنة التحكيم -بحسب «ناجي»- يلتزم بالحضور «لكنا اتخارجنا زمان، لكن القاضي يقول: ارجعوا بعد شهر، وشهر يجر شهر».
مأساة حقيقية أن تعاقب لمجرد أنك فقير وخصمك من الذين يكنزون الأموال.
«طه عباد صالح العاقل» (54 عاماً) عامل آخر مضى عليه في مقر اللجنة التحكيمية تسعة شهور. هو الاخر ينتظر صدور قرار من اللجنة يعيد إليه مستحقاته التي احتالت عليها احدى المؤسسات التجارية المحلية، عمل فيها سائق قاطرة.
يتساءل «العاقل» عن السر في أن رب العمل (غريمه) طلب إحالة الدعوى من إدارة منازعات العمل إلى اللجنة التحكيمية، التي وصفها بأن حبالها طويلة وأنها «سبب المشاكل والقتل بين الناس».
أما موظفو مؤسسة تيليمن البالغ عددهم حسب الدعوى المرفوعة ضد المؤسسة (250) موظفاً وهم الذين عملوا في هذه المؤسسة خلال مدة طويلة تمتد وتتفاوت ما بين (10-35) عاماً، فهؤلاء ظلوا في اللجنة التحكيمية عامين ومثلها في الاستئناف ويطالبون فقط بإلزام المؤسسة بما جاء في العقود المبرمة معهم وهي حقوق نهاية الخدمة.
لكن: هل إذا ما جاء الحكم لصالحهم (أُقر التاسع عشر من أغسطس القادم تاريخاً للنطق به) سيعوضهم -في حالة تنفيذه- مخاسيرهم التي انفقوها خلال اربع سنوات من التقاضي؟!!
هكذا تتضح معالم ومفهوم شركة القطاع الخاص مع الحكومة. إنه تحالف ضد القانون والحقوق العمالية.
(44) عاملاً آخرون لهم عشر سنوات ينتظرون أمام اللجنة التحكيمية والاستئناف لاستعادة حقوقهم من شركة النفط «نيبورس يمن» المحدودة.
أمام مدخل مبنى مكتب العمل في امانة العاصمة نلحظ بشكل لافت وجوهاً بائسة مسحوقة لم تيأس من التواجد يومياً في المكتب، حيث مقر اللجنة التحكيمية وإدارة منازعات العمل، كما يلحظ انهم انشأوا علاقات وصداقات مع الاهالي في المنطقة موقع المكتب.
وكان للاجئين الصومال حضور أيضاً لافت في مدخل المكتب. خمسون لاجئاً مضى عليهم شهران في إدارة المنازعات يشكون الشركة الايرانية «عمران ومسكن»، دون جدوى.
لقد تم فصلهم بعد عمل استمر ثلاثة اعوام ونصف في حفريات مجاري: عصر، الدائري، وبيت معياد»، في امانة العاصمة.
ويقول محمد عمر يوسف (30 عاماً): «إن إدارة المنازعات تعاملنا مثل القمامة لا أحد يهتم بنا». زميله محمد عبدالله (40عاماً) طلب من الحكومة «أن تعلن بأنه لا يوجد قانون للمظلومين حتى نستريح».
لقد تمكن القطاع الخاص (رأس المال) من ترويض القانون والقائمين عليه، وضمهم إلى صفه في خصومة غير متكافئة.
جبة القضاء وإن كبرت
المحامي عبدالعزيز المعلمي من مؤسسة علاو للمحاماة، اعتبر اللجنة التحكيمية غير شرعية لأن رئيس اللجنة معين من السلطات التنفيذية. وأوضح ان اللجنة لا تخضع للتفتيش القضائي، وان القائمين عليها ليسو بقضاة برغم ان اللجنة تخضع في تعاطيها مع قضايا العمال لقانون المرافعات. وكذا يعتبر القرار الصادر عنها كحكم ابتدائي.
واضاف «المعلمي» انه لا يمكن ان يكون هناك عدالة حقيقية إذا لم يكن جهاز الفصل في المنازعات مستقلاً عن جميع السلطات، وقال: «كيف يصبح قرار اللجنة التحكيمية في منزلة الحكم الابتدائي، وهو صادر عن جهة لا تتمتع بالاستقلالية والحيادية بسبب تبعيتها لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وخضوعها للتوجيهات الصادرة من الوزارة؟!».
واعتبر «المعلمي» ان قيام اللجنة باستخدام النماذج المحددة من وزارة العدل، والمخصصة لأحكام المحاكم القضائية لا يغير من حقيقة ان اعمال اللجنة لا تصل بها إلى مرتبة الهيئة القضائية.
وأوضح أن العامل لا يستطيع ان يتقدم بشكوى ضد اللجنة كونها لا تخضع في اعمالها للتفتيش القضائي، وماهو حاصل ان الوزارة المختصة تشرف عليها إدارياً فقط.
وفيما يخص تأخر اللجنة في البت والفصل في القضايا المنظورة امامها، قال «المعلمي» إن قانون العمل ينظر إلى القضايا العمالية كمستعجلة وقد حدد قانون العمل في المادة (137/2) أن على اللجنة أن تنهي النظر في الدعاوى المرفوعة اليها، وتصدر قرارها خلال فترة لا تزيد على ثلاثين يوماً من تاريخ اول جلسة. كما ألزم القانون محاكم الاستئناف بأن تفصل في القضايا العمالية المستأنفة خلال الفترة المقررة على اللجنة التحكيمية وذلك في المادة (139/3)، وهي ثلاثون يوماً.
شاهد زور
وبرغم أن اللجنة التحكيمية مكونة من ثلاثة اعضاء (إثنان منهم يمثلان العمال والقطاع الخاص) مكلفين بالفصل في القضايا العمالية، إلا أن جلساتها لا تعقد إلا بعضو واحد هو رئيس اللجنة (يمثل الحكومة). بيد أن القرارات الصادرة عن اللجنة تحمل توقيع الاعضاء الثلاثة.
ويقول المحامي «المعلمي» إن هذا الاجراء مخالف للنصوص القانونية. واوضح ان قانون المرافعات يلزم جميع الاعضاء بحضور جميع المرافعات والجلسات والتداول للنطق بالحكم لكن ما يحدث ان رئيس اللجنة (يحيى الهمداني) هو الوحيد الذي يدير الجلسات بغياب العضوين الآخرين.
وأضاف أن صدور «الحكم» بتوقيع الأعضاء الثلاثة هو أمر لاحق يتم التوصل إليه لتمرير الحكم وإضفاء صفة الشرعية عليه. وأوضح أن هذا الإجراء يخالف المادة (11) من قانون المرافعات وأن جميع اجراءات العمل القضائي باطلة وكل ما يترتب عليها.
«محمد عبدالله الهادي» ممثل الإتحاد العام للنقابات العمالية باللجنة التحكيمية أمين دائرة منازعات العمل، اكد ما قاله «المعلمي»، وعلل سبب غياب العضوين عن الجلسات بافتقار اللجنة للامكانيات بما فيها بدل المواصلات. لكنه تهجم على اللجنة وقال: «انها معطلة، وهي أحد أسباب ضياع حقوق العمال، ومن وجهة نظري ان تغلق ويشكل قضاء عمالي تابع لوزارة العدل».
واوضح «الهادي» أنه سبق وأن ابلغ رئيس اللجنة باستقالته وأنه لا يمكن أن يشترك في مسرحية تنتهي بضياع حقوق العمال.
وقال: «إن الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن لديه صورة واضحة ومكتملة عن اوضاع اللجنة وتحديداً المماطلة في إصدار الاحكام خلافاً لقانون العمل الذي حددها ب(30) يوماً». وأشار إلى أن اللجنة تستقبل ما يقارب (300) قضية عمالية من (11) محافظة، في العام الواحد.
وكشف «الهادي» أن لكل اطراف القضايا العمالية احقية الطعن في الاحكام الصادرة عن اللجنة، كونها احكاماً غير شرعية. موضحاً أن الجلسات تعقد بعضو واحد هو رئيس اللجنة. مشيراً إلى أن رئيس اللجنة غالباً ما يتداول القضايا مع العضوين الآخرين عبر الهاتف.
إذا غريمك القاضي من تشارع؟
هكذا تحولت اللجنة إلى خصم حقيقي ضد مصالح وحقوق الطبقة العاملة، وكأنها مرفق من مرافق القطاع الخاص.
هذا النهج في إدارة الدعاوى العمالية أدى إلى هدم الجدار الأخير الذي يعتمد عليه العامل لاسترداد حقوقه. بل أن العامل صار يتأفف من مجرد التفكير في اللجوء إلى اللجنة للمطالبة بحقوقه؛ نتيجة علمه المسبق بصعوبة الحصول عليها وعدم ضمان نتيجة الدعوى، لتدخل اعتبارات كثيرة مؤثرة في تحديد هذه النتيجة.
وقد شمل هذا التأفف حتى المحامين، الذين يصرحون بعدم رغبتهم في التواكل بقضايا عمالية.
يقول «المعلمي» إن عدم شرعية اللجنة، ومخالفتها في إدارة الدعاوى العمالية، يسبب للمحامين مشاكل عدة، منها ان الاستئناف وارد لعدم صوابية «الاحكام» الصادرة عن اللجنة. إضافة إلى أن اعتراض المحامين على تداول هذه الدعاوى بغياب العضوين يؤدي إلى تأجيل الجلسات والاطالة في مدة القضية، وكلها تعني مزيداً من المخاسير التي يتحملها العامل.
الجهة المسؤولة عن ضياع حقوق العمال هي وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والتي لم تتخذ أي تدابير جدية تلزم القطاع الخاص بتنفيذ قانون العمل وهو الأمر الذي أدى إلى تراكم وإزدحام القضايا والنزاعات بين العمال وارباب العمل، إلى حد إمكاننا أن نتصور أن الوزارة لا تدرك من مهامها سوى ميزانية معتمدة يجب صرفها والسلام.
وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل علي محمد الزامكي، الذي يزدحم مكتبه على الدوام بعمال القطاع الخاص لعلمهم بوضع اللجنة التحكيمية، قال: «إن اللجنة التحكيمية تواجه مشكلة حقيقية تتمثل بضروفها وامكانياتها بالإضافة إلى أن اثنين من اعضاء اللجنة غير «مفرغين!!» بالإضافة إلى أن هذين العضوين، ممثل الغرفة التجارية (القطاع الخاص) وممثل العمال (اتحاد عام نقابات عمال اليمن)، ليسو قضاة فيما ممثل الوزارة رئيس اللجنة التحكيمية خريج شريعة وقانون(!!)، وهذا من شأنه أن يمثل عبئاً على اللجنة. إضافة إلى الضغط الواقع على اللجنة نتيجة كمية القضايا المنظورة أمامها وما يشوبها من نقص في الأدلة والبيانات».
وأوضح ان الوزارة شكلت حالياً خمس لجان تحكيمية في خمس محافظات رئيسة للتخفيف على اللجنة في أمانة العاصمة.
وما يخص إلزام القطاع الخاص بتوفير البيانات اللازمة عن المنشأة وعدد العمال ورواتبهم وعقودهم، والتي من شأنها أن تحفظ للعامل حقه في حالة إختلافه مع رب العمل، اوضح «الزامكي» ان عدد المنشآت في تزايد مستمر حيث وصل عدد المنشآت إلى (400006) منشآت، وأن هذه المنشآت فيها عمال وكلما زاد عدد المنشآت زاد عدد العمال، واكد ان الوزارة تسعى من خلال النزول الميداني وكذا التنسيق مع البلديات والمجالس المحلية إلى الحصول على كافة البيانات.
واشار إلى أن الوزارة أمام خيارين: أحدهما تحويل تبعية اللجنة التحكيمية لوزارة العدل، والآخر أن تعامل اللجنة التحكيمية كمحكمة ابتدائية في كل خصائص عملها ولها ما للمحاكم الابتدائية من امتيازات، شريطة ان يكون اعضاؤها من خيريجي معهد القضاء الأعلى.
وإلى أن يتم ذلك ويحفظ للعامل حقه سيظل ينعم القطاع الخاص بخاصية لن يجدها في أي دولة أخرى، وهي: عمالة غير محمية قانونياً ولا نقابياً، عمالة رخيصة ليس في اجورها فقط ولكن في كل شيء.
ويبدو ان هذه الخاصية الشاذة هي ما تراهن عليه الحكومة لجذب الرأسماليين للاستثمار في بلادنا.
وللعامل أن يعيد حساباته، فالجدار الذي استند عليه هو جدار من ورق.
BasheralsaeedMail

إقرأ أيضاً