إلى أولئك الذين يقللون من أهمية رسالة المحاماة - عبدالله مسعد المحيا*
إن حماية العدالة في هذا البلد هي مسؤولية السياسيين بالدرجة الأولى. ونقول ما يفترض قوله: لا للتدخلات في شؤون العدالة، ولا للإتجار بالعدالة، ولا للإتجار بالوظيفة العامة. ثم يأتي الدور الأهم بعد ذلك وهو دور القضاة والمحامين، لما بين أصحاب هذه المهنة الواحدة من تلازم وترابط، ولا يعقل إطلاقاً أن يكون هناك قضاء عادل ومستقر دون أن يكون هناك وجود فعال لمهنة المحاماة، فلا قضاء بلا محاماة ولا محاماة بلا قضاء عادل. فكلاهما يمارس مهنة واحدة تسمى مهنة العدالة. ويفترض على كليهما ايضاً علمهما بالقانون وبأحكام الشرع. وتجمع النظم القانونية على أن المحامين هم شركاء وأعوان القضاة في النهوض بأعباء مرفق ا لقضاء وفي القيام بتحقيق العدالة ونشر الحماية القانونية والقضائية بين الناس. لذلك فإن المحامي بحضوره إلى المحكمة لا يلتقي بالقضاة فحسب بل يلتقي بزملاء له يعيش معهم العمر، كله لأن كليهما يمارسان معاً مهنة واحدة هي اسمى وأشرف مهنة في الحياة.
وبالمناسبة فقد نصت -على سبيل المثال- المادة (37) من قانون المحاماة في مصر أن يكون حضور المحامي أمام جميع المحاكم أياً كانت درجتها، أمراً لازماً. وفي اليمن ايضاً لا يجوز بأية حال من الأحوال ان نقلل من قيمة رسالة مهنة المحاماة أو نلطخ إسم هذه المهنة، وكما يزعم البعض أن منع المحامي من الحضور أمام مقر المحكمة العليا كان مرده السلوك السلبي للمحامي فلان أو وكيل الشريعة فلان أو ما قيل عن هذا المحامي الفاسد أو ذاك. فالمسألة أكبر من ذلك بكثير، فمصدر أمر المنع أو الحظر لم يكن موفقاً، فأي اجراء حظر أو منع للمحامين من الدخول إلى مقر المحكمة العليا واللقاء بقضاتها بحجة وجود بعض المحامين الفاسدين هو إجراء غير موفق عموماً، وهذا الاجراء القديم والمزاجي غير القانوني لا يبعث بصيص أمل في إصلاح حركة القضاء بل هو إجراء يخفي وراءه عرقلة تطور مهنة العدالة؟
ولنا أن نتساءل إذاً: أين يلتقي المحامون بقضاة المحكمة العليا، وهم زملاء العمر كله كما يقال، إذا لم يكن ذلك في مقر ومنصة المحكمة العليا ومكاتبها؟ فهل يرى اصحاب المنع والحظر أن يتم لقاء المحامين بهؤلاء القضاة خارج نطاق مقر المحكمة العليا في منازلهم أو في الشوارع أو خارج البلاد في موسم الحج مثلاً؟ وإذا كان هناك من يبرر بأن المنع والحظر مرده فساد بعض المحامين، فما علينا هنا إلا أن نتوقف قليلاً عند مسألة فساد بعض المحامين.
إن واقع الحال يكشف لنا كما هو واضح ظاهرة المحامي الفاسد. كذلك نشاهد أيضاً ظاهرة وجود القاضي الفاسد. وبين المحامي الفاسد والقاضي الفاسد قاسم مشترك يجمع بينهما، إنه الفساد والإنحراف، ويجمع بينهما العقاب المستحق بحق كل منهما.
إذاً المطلوب فقط تطبيق مبدأ الثواب والعقاب وتفعيل النصوص الجزائية أو التأديبية والعمل على تحسين أوضاع القضاة السكنية والصحية والمعيشية الأساسية للحد من ظاهرة الفساد وهكذا سيتمكن قضاة المحكمة العليا من الإلتقاء بزملائهم المحامين ومن تجاوز السلبيات الخطيرة على الأقل.
معاناة المهنة
تقضي التشريعات أن أي اعتداء على المحامي يعتبر اعتداء على أحد أعضاء المحكمة عملاً بمبدأ المساواة بين القاضي والمحامي في التمتع بالإمتيازات والحصانات اللازمة لممارسة عمل المحامي. ومن حق المحامي أن يعامل بالإحترام الواجب لمهنته من قبل المحاكم وكافة الجهات التي يحضرها ويترافع أمامها، وعدم إحترام القاضي أو ضابط الشرطة للمحامي أثناء تأدية عمله يعد موقفاً مؤسفاً وعملاً يمس الدعائم الأساسية للعدالة التي غالباً ما تتفاخر الدولة بتطبيقها. ففي معظم بلدان العالم حديثة وقديمة قد حدث وسيحدث دائماً ان يقدم المحامون العمالقة حياتهم ثمناً من أجل ان يمارس القاضي رسالته بكل استقلال بعيداً عن أية مؤثرات. واليوم وفي هذا البلد تكرر نفس الحالة، حيث يأتي بعض الدخلاء على مهنة العدالة وبعض الجهلاء في القانون على غفلة من الدولة كي يقللوا من رسالة المحاماة ثم يتاجروا بمهنة العدالة. وبالتالي تغدو صيحات رفع الظلم والمطالبة بتطبيق حكم القانون كأنها صيحات تصدر من صعاليك القوم العابثين، وهكذا يتعرض -بكل أسف- بعض المحامين لتعسفات كثيرة، ويتعرضون أحياناً لعقوبات خارج نظام الجلسات. وسنحكي للقارئ الكريم بعض معاناة المهنة: تعرض أحد الزملاء المحامين لحماقة أحد قضاة المحكمة الإبتدائية وأثناء جلسات المحكمة المنعقدة فوجئ الجميع من قاضي هذه المحكمة وهو يشتم الأستاذ المحامي المؤدب جداً، حيث وصف القاضي هذا المحامي بأنه قرد. حدث ذلك أمام الناس داخل جلسة المحكمة.
وحكاية أخرى تمثلت في أن أحد المحامين من الذين يتمتعون بدماثة الخلق قد اضطر إلى الدفاع عن زميله المعتقل بأمر من وكيل النيابة حيث قال المحامي المدافع لوكيل النيابة:
«انظر رجاءً إلى ساحة المحكمة الداخلية من نافذة مكتبك لترى ما يحدث للمحامي من قبل عساكر النيابة، وكيف أنهم لم يكتفوا بالقبض على المحامي بل يتعمدون إساءة معاملته بقصد اهانته وبتشجيع من غريم المحامي الذي يتحدى ويتقوى بعساكر النيابة. تأمل يا وكيل النيابة هذا المنظر المسيء للعدالة من مكتبك المرتفع». غير أن رد فعل وكيل النيابة كان -ويا للأسف- سلبياً للغاية يوحي بأن وكيل النيابة قد اعتاد رؤية مثل هذه المشاهد.
وبالنظر إلى تلك الحالة بدا الأمر وكأن الوكيل اصبح مصاباً بمرض الغرور الذي تولد من ممارسة السلطة الممنوحة له. وتجسمت تلك الحالة عندما تعمد وكيل النيابة استفزاز المحامي الذي جاء يدافع عن زميله المحامي المقبوض عليه بأمر قهري. حيث قال المحامي المدافع عن زميله: يا سعادة وكيل النيابة إن إساءة العساكر للمحامي وإهانته يعد تصرفاً غير لائق ويخالف قوانين مزاولة مهنة العدالة. حينها ثار وكيل النيابة واشتد غضبه فجأة واستخدم ألفاظاً توحي بالتهديد باستخدام سلطات النيابة. ويبدو من واقع الحال وكأن وكيل النيابة قد استمرأ استخدام ألفاظ غير لائقة للآخرين في الحالات التي لم يستفز فيها من قبل المحامين المدافعين عن موكليهم. والمحامي يفعل ذلك مستنداً إلى سلطات حكم القانون بينما وجدنا وكيل النيابة يردد في حالة إنفعالية عبارة «مالك صفة روح لك».
مثل هذا الموقف حدث أمام مرأى ومشهد الحاضرين وعساكر النيابة وغريم المحامي المعتقل، وكان العساكر والغريم يتهامسون فيما بينهم. واتضح فيما بعد أن القضية برمتها قضية مفتعلة ضد المحامي المعتقل، حيث اتضح إن التهمة لا أساس لها من الصحة، وتم الإفراج عن المحامي بعد تدخل زملاء آخرين من المحامين!
إذاً المسألة ليست مواجهة التعسف في إساءة استعمال السلطة فحسب وليست المسألة ايضاً من اجل المطالبة بتطبيق حكم القانون ولا باستخدام عبارات الرجاء، ولكن المسألة تتعلق بمزاج المسؤول بالذات، والمزاج كما هو معروف لا علاقة له بحكم القانون. وهكذا تمر الأيام وتحدث العجائب.
في الختام نكرر القول إنه في ظل أوضاعنا نأمل من جميع الشرفاء الذين يهمهم امر هذا البلد أن يكونوا معنا مدافعين عن كرامة هذه المهنة ومشجعين للمحامين في حمل هذه الرسالة السامية.
إننا لا نبالغ إن قلنا إن أمل هذا البلد وحماية المظلوم فيه يتوقف على احترام الإنسان لإنسانيته. وتحقيق هذا الأمل يقع على المحامين والقضاة بنشر قيم العدالة والحرية والسعي لتطبيق سيادة حكم القانون ومواجهة جبروت الطغاة واصحاب النفوذ. ومن المعروف اليوم أن رجال القانون في البلدان المتحضرة يشغلون الوظائف العليا ويشكلون مرجعية اساسية لتطوير وزاراتهم ومؤسساتهم ومرافقهم العامة والخاصة.
عزيزي القارئ خلاصة القول، لقد اعتدنا على مقاومة ضربات الحياة وأصبح للمحامين ترسانة من التجارب المرتبطة بهذه المهنة، وهي ترسانة تسمح لهم بمواصلة مسيرتهم في هذا الحقل الشائك والممتلئ بالألغام التي يشعر المحامون بأن لا مناص لهم إلا في الاستمرار في هذه الطريق لمقاومة الظلم والمطالبة برفعه على أمل تحقيق العدالة خاصة لأولئك الذين يعانون من ظلم الأقوياء وجبروتهم.
والله من وراء القصد.
* المحامي في المحاكمة العليا للنقض
إلى أولئك الذين يقللون من أهمية رسالة المحاماة
2007-07-12