قل وداعاً لهافانا التي تحبها - أبوبكر السقاف
كان أبيقور ناقدا لاذعاً لفلسفة أفلاطون، وينقل عنه نيتشه أنه كان يسمي الأفلاطونيين "مداحي ديونيسوس" ولأن ديونيسوس لاغوس كانت تسمية شعبية للممثل، فهم خدم ديونيسوس إله المأساة. ويضيف نيتشه بسرور في شرح هذا المعنى: أي شيعة الطاغية ولاحسي اللعاب. ولكل من أيبقور ونيتشه دافع خاص في نقد أفلاطون والأفلاطونيين. والمهم هنا الوقوف عند إحدى أفكار أبيقور التي تناقض نظريات أفلاطون في المجتمع والدولة، وتجمع بين الإحاطة والنظرة الشاملة والنفاذ، فعالمنا وفق رأيه فيه أمور طبيعية وضرورية، وأمور طبيعية ولكن غير ضرورية، وأمور غير طبيعية وغير ضرورية. ولفائدة سياقنا نذكر تحديده للنوع الثالث من أمور عالمنا، وقد جعله السياسة. والحكم هنا نافذ وعميق دون أن يكون دعوة إلى الفوضوية، التي ظهرت متأخرة في تاريخ لاحق في الفكر السياسي وفي نسق فكري عند الفوضويين الأوروبيين. ومن الطريف الإشارة هنا إلى أن إحدى الفرق الخارجية قالت بنوع من الفوضوية وهي المعروفة بالنجدات. لم يكن الأمر مذهباً، والنزوع الفوضوي بمعنى من المعاني قوى الحضور عند الخوارج.
قفزت فكرة أبيقور إلى ذهني عندما سمعت نبأ زيارة شافيز هافانا ولقائه صديقه كاسترو، وزف الأول بشارة عودة الثاني إلى ممارسة سلطاته، بعد أن كان قد فوضها إلى خليفته أو ولي عهده أخيه راؤل.
إن تشبث كاسترو بالسلطة محير، بل يبدو فعلاً فسيولوجياً أكثر منه سياسة عقلانية. إنه يؤكد أن أخطر الشهوات إنما هي شهوة السلطة. وفترة المرض تساعد الإنسان على التأمل والتفكير العميق في الذات والعالم والمصير والصواب والخطأ. ومن الواضح أنها لم تكن كذلك، إذ يبدو أنه يعتقد أن البلاد بدون إشرافه اليومي على شؤونها لن يستقم أمرها، فلم يعد حاكماً عابراً ودوراً في تاريخ بلاده، بل توحد بها فأصبح يختزل كل تاريخ وجودها في سلطة.. أصبح شرط وجودها، مع أن فترة المرض تبين بجلاء أن السفينة تواصل الإبحار بدون القبطان. ربما كان في فترة المرض والنقاهة يزود الجميع بالتوجهات اللازمة.. فاستمرت السفينة في الإبحار بفضل التوجيهات. يبدو لي أنه لم يتعلم شيئاً من أيام المرض. وحقاً لا توبة بعد الأربعين.
ليس من الطبيعي أن يستمر الإنسان في هذا العمل غير الطبيعي وغير الضروري فترة طويلة. ولعل إحدى أهم هدايا الشعب الأمريكي إلى البشرية هو تحديد فترة الرئاسة، ربما لأن ديمقراطيتهم نشأت وهم من أملاك التاج البريطاني في نيوانغلند عندما كانوا منذ 1615 ينتجون الشرطة وهيئات المجتمع المدني، ويكونون ميليشيات للدفاع عن المدن والولاية، أي بنوا ديمقراطيتهم من الأسفل كما لاحظ دي توكينل في كتابه المشهور "الديمقراطية في أمريكا"، بينما جاءت الديمقراطية في أوروبا من الأعلى بعد ثورات أطاحت النظام القديم.
يبدو أنه لم يفكر بعد السقطتين على المنصة، أو اعتبرهما أمراً عابراً لا يستحق الاهتمام.
أعرف أنه لا يعتبر نفسه ديكتاتوراً(*). رغم أنه اهتدى إلى الماركسية في طبعتها الروسية شديدة الإعوجاج بعد الوصول إلى السلطة. وهو ديكتاتور بامتياز، حتى وإن تحدث كثيرون عن شعبيته بل ومحبة الناس له في كوبا. مات العشرات أثناء تشييع جنازة ستالين (أوسطالين كما يرسمه المغاربة) وكان الجنود في الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية يهتفون قبل المعركة: من أجل الوطن من أجل ستالين. ثم عرفوا بعد نحو ثلاث سنوات حقائق زلزلت العقول والنفوس. اكتشفوا أن "الوطن الذي يتنفس فيه الإنسان بحرية" كان غولاجاً بحجم امبراطورية.
حجاب السلطة قاتل وهو بالطبع يتوحد بحجاب اللغة الذي يقوم على أفضل وجه من خلال أيديولوجيا مستحكمة بوظيفة اللغة التي يقول عنها أوسكار وايلد أنها عملت لإخفاء أفكارنا. وهكذا يصبح الحاجب هو المحجوب. يتوحدان في صبغة سحرية تكون دائرة لا معقول، تعبث بالحياة. إن دعاء المسلم الصادق ينطوي على معنى عميق عندما يقول "اللهم قنا شر أنفسنا".
اقتبس في ما اقتبس من التجزئة السوفييتية (الروسية) أسلوب التعامل مع المعارضين تحديد مناسب، فكانوا في الاتحاد السوفييتي يساقون إلى مستشفيات الأمراض العقلية، وهي حكاية مروعة ومعروفة في التاريخ السياسي. وعرفتها من كتب من صديق وزميل دراسة (بابكر النور) من السودان عانى بالمصادفة هذه التجربة وإن في حدودها الدنيا. إن تحوير كاسترو يتمثل في سجن المعارضين بتهم غير سياسية تعد إعداداً جيداً. ولم يحل هذا المكربين منظمات حقوق الإنسان وكشفها. ومن الواضح أنه استفاد من ثقافته القانونية فهو يحمل دكتوراه في القانون.
عنوان هذه السطور من قصيدة مشهورة للشاعر اليوناني الاسكندراني كفافي، التعديل الوحيد فيه أني أوردت هافانا بدلاً من الاسكندرية. والكلام موجه إلى أنطونيو في ذروة المأساة والهزيمة. يريد منه الشاعر أن يتقمص عقلية فيلسوف رواقي وينظر إلى كل ما ومن حوله من بعد كافٍ للتأمل.. أي بمعنى من المعاني من علٍ... الموسيقى تصدح وأنطونيو يستمع ويتأمل... لن يقول كاسترو وداعاً لهافانا ويتقاعد.. مع أن هذا لو حدث لكان أفضل ما فعل ويفعل.
2/5/2007
* النظم التي سميت اشتراكية هي وفقاً لتوصيف دقيق وماركسي رأسمالية الدولة. ومن هنا كل مثالبها وأخطرها أنها سطت على المثل الاشتراكية العلا، وجعلتها هدفاً سهلاً للنقد الرأسمالي الآخر.
وهذا حديث طويل ومعقد أكتفي بالإلماح إليه. وفي الأدب السياسي الاقتصادي العربي نجد عرضاً مفصلاً له في كتب سمير أمين في غير لغة. كان أول ما حفز تفكيري في "رأسمالية الدولة" كتاب ميلوفان جيلاس "الطبقة الجديدة" الذي نقله إلى العربية ماهر نسيم 1596، وجيلاس كان نائب تيتو.. ولكنه سجن لأنه نقد ستالين وتيتو معاً فنقده كان تشريحاً. 2 / 2 لأنموذج في الحكم يعرفه من الداخل، في سياق مفهوم "الطبقة الجديدة" تصبح الثورة البلشقية ثورة قومية وعلى ذلك قس. والمسألة القومية (ثورة المجد) ثم كانت قضية الحرية. وكل هذا يستحق تدويناً مستقلاً.
قل وداعاً لهافانا التي تحبها
2007-05-24