صنعاء 19C امطار خفيفة

ثرثروا تصحوا...

كنت ومازلت "ثرثارة" أحب الكلام...

كان والدي يمازحني بالقول إنني ورثت هذه الخصلة منه...
كذلك كانت جداتي الاثنتان (رحمهما الله) كثيرات كلام ولطيفات...
فالكلام لطف وتواصل...
كانت جداتي (أم أبي وأم أمي) وعماتي يحدثنني عن طفولتهن وعن شبابهن، ينصحنني تارة، يؤنبنني تارة أخرى، يساندنني في حالات أخرى أو يمازحنني...
كل الأشخاص من حولي الذين كانوا كثيري الكلام، شكلوا جزءًا من شخصيتي ومن ثقافتي...
منهم جدي لأبي رحمه الله. كانت له أوقات محددة "للمجابرة"؛ قبل نومه وبداية مقيله، والمجابرة تعني الحديث الشخصي باللهجة الصنعانية...
حتى جدة والدتي رحمها الله (التي عمرت حتى تجاوزت المائة عام)، وكانت بصحة جيدة، والأهم أنها كانت بذاكرة حديدية حتى آخر أيامها، كنت أجتر معها الحديث عن الماضي، وأتلذذ بتخيل التفاصيل والغوص في أعماقها...
أكثر من تحدثت معه وأثرت أحاديثنا في نفسي وشخصيتي وأفكاري، طبعًا، كان والدي رحمه الله...
الكلام مهم جدًا، به ننقل المعارف والأفكار والنظريات والتجارب والخبرات والمشاعر...
حتى الخالق جل جلاله، حين تواصل مع مخلوقاته من البشر  اختار الكلمات (عبر رسله عليهم السلام) لهذه المهمة، فكانت الكتب السماوية المقدسة...
الأدب والروايات والشعر والفنون السينمائية والمسرحية والتلفزيونية، هي مرحلة من مراحل "الحكي" بين الناس...
نحن كبشر نحب ويجب أن نسمع عن بعضنا ومن بعضنا...
الصحافة، السلطة الرابعة هي "كلام وثرثرة"، قصص وتحليل وتنبؤ ورسائل سياسية...
كيف ستقوم ثورات وتتغير دول لولا الكلام الذي يسبق كل هذا؟ (فالثورة و الحرب أولهما كلام).
ومع هذا فلا يخلو الكلام من عيوب طبعًا، منها الكذب وسوء التعبير، والفظاظة وجرح الناس، والوقاحة والتجاوز بحق الآخرين، أو تهديدهم أو تشويه سمعتهم، أو تضييع كل الوقت في الثرثرة على حساب أعمالنا وواجباتنا، أو إزعاج البعض بالثرثرة الزائدة في أوقات لا يتحملون تلك الثرثرة لأي سبب..
لكن طبيعة الأشياء في الحياة هكذا، لها جانب إيجابي وجانب سلبي...
لهذا علينا أن نتجنب السلبي، ونتذكر أن كلام ابن آدم من عمله...
نتعلم أن نتجنب النميمة والغيبة والكذب والبذاءة قدر الإمكان، وأن نحترم حالة البعض أحيانًا إذا كانوا لا يريدون الحديث أو الاستماع لأي سبب...
من إيجابيات كثير الكلام -برأيي- أنه نادرًا ما يكون لئيمًا، ونادرًا ما يصاب بأمراض نفسية، لأن المرض النفسي يأتي من عدم القدرة على التعبير  وعدم القدرة على التواصل، ومن تراكم الحزن في النفس، والشعور بالوحدة، بينما تبادل الكلام مع الآخرين والفضفضة وتبادل الآراء، والمزاح، وسماع آراء الآخرين، يوسع المدارك، ويسلي النفس...
اكتشفت قريبًا أن الناس الذين لا يحبون الحديث ولا يجيدونه، هم كأمهات أو آباء أو إخوة أو أصدقاء، شخصيات تأثيرها معدوم أو ضعيف أو سلبي، لا يقدمون خبرة ولا نصيحة ولا مساندة نفسية ولا تسلية...
الحديث والتعبير عن النفس مهارة... لكن البعض عاجزون ولا يتقنون هذه المهارة الاجتماعية...
وعليهم أن يطوروها ولو بحد أدنى...
تخيل مثلًا طفلًا يعود من المدرسة يثرثر لوالدته أو لوالده عن يومه، ويكتفيا بالصمت دون أي تعليق!
تصور لو أن البشر لا يتكلمون! هل كانت ستقوم حضارة وعلم وتقدم تكنولوجي، وتنشأ دول وعلاقات دبلوماسية؟
الكلام سبق الكتابة...
والكتابة هي تعبير متطور وراقٍ عن الكلمات.
الحوار مهارة اجتماعية يتميز بها الإنسان عن بقية الحيوانات (الإنسان حيوان ناطق)..
أنا لا أعتقد أن الصمت ميزة كما يقال!
فالصمت عن قول الحق نوع من  الشيطنة...
والصمت عن التعبير عن الحب تقصير وبرود وإهمال...
حتى العبادة لله هي أذكار وكلمات وتمتمات... 
الصمت جدار لإخفاء الحقائق والمشاعر..
قد تكون هذه الحقائق (خوفًا، كراهية، عجزًا، غباءًا، ضعفًا)... لكن الصمت يسترها جميعاً...
الحوار هو أحد أهم أساليب التربية، وبالتالي فالأم والأب الصامتان مستوى ذكاء طفلهما سيكون أقل، وجودة تربيتهما أقل، وبالتالي حتى أخلاق أبنائهما قد تكون أقل...
إلا إن كان كل من حول الطفل يقدمون نماذج سلوك راقية، وبالتالي لا يحتاج إلى حوار وتربية، ويكتفي بتقليد ومحاكاة سلوك من حوله بصمت...
حتى المسن يحتاج من يتبادل معه أطراف الحديث، كي يشعر بوجوده وأهميته في الحياة، ولا يتسلل الموت البطيء إلى روحه... لأنه إن لم يجد من يبادله الحديث بشكل مستمر، سيصاب بالزهايمر مبكرًا...
تحدثوا وثرثروا مع أحبائكم، فالصمت موت، والموتى فقط هم الصامتون.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً