تتباين مواقفنا إزاء الأحداث الجارية في المنطقة وفي العالم، إلى حد التناقض الحاد. ويبدو هذا أمرًا طبيعيًا، في ظل الأجواء المشحونة والرؤية الضبابية السائدة وتأثير الإعلام الموجه ووسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبطة وانقلاب الأوضاع رأسًا على عقب في الوطن العربي، من استقرار ظاهري، على الأقل، إلى اضطراب شديد، ومن مستوى معيشي لعامة الشعب كان يتسم بالكفاف، مع قدر من الرضا والقبول، إلى مستوى صعب للغاية لم يعد بالإمكان الرضا به أو القبول باستمراره واستمرار المسؤولين عنه. فهذه الأوضاع الصعبة، تُحدث معاناة شديدة وتوترات نفسية وذهنية، تعكس نفسها على علاقات البشر وعلى نظرة كل منهم إلى الأحداث، وتولِّد مواقف حادة تجاه كل شيء، ولا سيما تجاه القضايا السياسية، باعتبارها تمثل بؤرة تلتقي عندها كل عوامل ومسببات المعاناة والضيق.
يضاف إلى ما تقدم مخططات القوى الاستعمارية الغربية، العاملة على تعميم "الفوضى الخلاقة"، المتمثلة بالحروب الأهلية وانهيار مؤسسات الدولة، وصولًا إلى تقسيم كل دولة من الدول العربية القائمة حاليًا، إلى دويلات أكثر ضعفًا وهزالًا، وتعزيز دور الكيان الصهيوني المحتل، ليتسيَّد على المنطقة ويتحكم في سياساتها.
وتتشابك هذه المخططات مع طموحات القوى الإقليمية المتنافسة على اقتسام السيطرة والنفوذ في الساحة العربية المستباحة، وملء الفراغ الحاصل فيها، نتيجة غياب المشروع العربي والمكونات السياسية العربية الحاملة له، القادرة على الدفاع عنه. وعندما يتصاعد التنافس بين القوى الإقليمية، تصبح المواجهات العسكرية بينها غير مستبعدة، إما مواجهات عسكرية مباشرة، أو باستخدام قوى محلية موالية. ويقدم لنا النموذج السوري مثالًا واضحًا لهذا التنافس. فنفوذ إيران انحسر في سوريا، ليحل محله النفوذ التركي، وليتمدد الاحتلال الصهيوني إلى مناطق سورية جديدة.
وإزاء هذا الواقع المضطرب، وبفعل المؤثرات المحيطة بنا، نجد أن كلًا منا قد اتخذ لنفسه موقفًا، حادًا في الغالب، لا يقبل المراجعة، سواءً تجاه الأحداث والقوى الفاعلة فيها، أو حتى تجاه الأصدقاء الذين لهم رأي مخالف لرأيه. وكأَن في داخل كل منا شحنة ولَّدها الضيق والمعاناة والإحساس بالإحباط وقلة الحيلة والقهر والنكد، تحتاج دائمًا إلى تفريغ، ليستعيد المرء بعض توازنه المفقود.
فتجاه الحرب الإيرانية -الصهيونية، مثلًا، انقسم الناس إلى فريقين؛ فريق يدين إيران إدانة مطلقة، تبدو في حدها المتطرف وكأنها تقترب في إدانتها من الموقف الصهيوني، لا قبولًا بالموقف الصهيوني، بل كرهًا لإيران وتشفِّيًا بها. والبعض الآخر يشيد بإيران ويتقبل ما يصدر عنها كمسلمات غير قابلة للنقاش، وكأنه يتماهى معها كليًا، ويعطل ملكة التفكير والنقد لديه، حبًا بإيران وولاءً لها. وهناك من الناس من يقفون خارج هذين الفريقين، ويحاولون أن يعقلنوا موقفهم، وأن ينظروا إلى الأحداث نظرة موضوعية قدر الإمكان، ولا يتسرعوا في إطلاق الأحكام الجاهزة. وهؤلاء قلما يُسمع صوتهم وسط صخب الأحداث وتشوش الرؤية، بل هم غير مقبولين جملة وتفصيلًا من كلا الفريقين المتحيزين.
وفي الفقرات التالية سوف نحاول أن نتوقف قليلًا عند الفريقين المذكورين، الكاره لإيران المتحيز ضدها، والمحب لإيران المتحيز لها، تاركين من يقفون خارجهما إلى وقت آخر، فهم يعيشون في زمان غير هذا الزمان.
الكارهون ينطلقون في موقفهم تجاه الحرب الإيرانية -الصهيونية من مشاعر الكراهية لإيران ولما ولَّدته في نظرهم طموحاتها التوسعية وخطابها الطائفي الصاخب ونشاطها التبشيري بمذهبها الشيعي الاثني عشري، الذي يتميز بنظرته الخاصة للتاريخ الإسلامي وببعض المعتقدات المباينة للمذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها المذهب الشيعي الزيدي. وفي نظر هؤلاء، أن إيران قد تمكنت من إيجاد أتباع لها في الوطن العربي، أخذوا يميزون أنفسهم عن أبناء المجتمع الآخرين، ويشكلون أقلية، ينظر إليها الآخرون بقدر متزايد من النفور، مع نفور أشد تجاه إيران، المتسببة في نظرهم بنشوء هذه الحالة، التي تهدد وحدة المجتمع العربي وتماسكه وتعايشه، وتؤذن بصراعات داخلية، طائفية عرقية مناطقية، تفضي بالنتيجة إلى إضعاف الأمة العربية كلها، وتُسهِّل للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها تفتيت الوطن العربي وإعادة رسم خارطته الجديدة، في إطار مشروع "الشرق الأوسط الجديد".
هؤلاء الكارهون يصعب إقناعهم بأن إيران عندما تحارب عدوها الصهيوني، تحارب في الوقت نفسه، بقصد أو بدون قصد، العدو الرئيسي للأمة العربية، مما يقتضي الوقوف معها في هذه الحرب، لا الوقوف ضدها. بل إن من بين هؤلاء من يرى أن الكيان الصهيوني يتساوى مع إيران في خطره وفي عدائه للعرب، وأن إيران منسقة معه تنسيقًا خفيًا، لا يقدر على كشف أستاره إلا هم، وأن كل ما تظهره من عداء له إنما هو من قبيل التمثيل وخداع السذج من العرب.
وعندما يساوي بعض الكارهين الخطر الذي تمثله إيران بخطر الكيان الصهيوني، يرجعون في الغالب إلى الخلفية التاريخية القريبة، التي ماتزال تأثيراتها ممتدة حتى الآن، لا سيما ما حصل في العراق، إذ عملت إيران في رأيهم على خلخلة البنية الاجتماعية العراقية من الداخل، وتعاونت مع الغزو الأمريكي، ونفذت التنظيمات المسلحة التابعة لها عمليات اغتيالات واسعة لقادة الدولة العراقية، ولا سيما القادة العسكريين والأمنيين والكوادر المتقدمة في الحزب الحاكم، مما سهَّل للأمريكيين وحلفائهم تدمير العراق والسيطرة عليه وإسقاط النظام الحاكم وتفكيك أجهزة الدولة وتعطيل المرافق الخدمية وزعزعة الأمن ونشر الفوضى، وإعادة العراق إلى ما قبل التاريخ الحديث. وإن كانت عملية تدميره لم ترجعه إلى "العصر الحجري"، الذي توعد به وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جيمس بيكر.
ويستشهد هؤلاء على دور إيران في العراق بقول منسوب إلى محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني للشؤون البرلمانية والقانونية، أنه لولا التعاون الإيراني مع الولايات المتحدة الأمريكية لما سقطت كابول وبغداد بالسهولة التي سقطتا بها. كما يستشهدون على دور إيران في أقطار عربية أخرى بما نُسب إلى علي رضا زاكاني، ممثل طهران في البرلمان الإيراني، بأن إيران أصبحت تهيمن على أربع عواصم عربية (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء).
ويضيف هؤلاء إلى ما تقدم، أن إيران قد أسهمت في مد عمر النظام الحاكم في سوريا، قبل الهروب المخجل لرئيسه. كما أسهمت في استيلاء أنصار الله (الحوثيين) على السلطة في صنعاء، وانزلاق اليمن بسبب ذلك إلى حرب طاحنة أكلت الأخضر واليابس. وتدخلت في الشأن اللبناني من خلال الدعم غير المحدود لحزب الله، الذي يمثل في نظر هؤلاء ذراعًا عسكريةً وسياسيةً لإيران في الأرض اللبنانية، لا مقاومة لبنانية مسلحة، حررت جنوب لبنان، واستمرت في التصدي للعدوان الصهيوني المتربص على الحدود، حتى ارتكبت قيادة الحزب الخطأ الاستراتيجي القاتل، بتحويل وحدة الساحات المعلنة إلى جبهة مساندة، بدلًا من شن حرب هجومية على الكيان الصهيوني بعد طوفان الأقصى مباشرة، وهو في أضعف حالاته.
وفي رأيهم أن حزب الله لو اختار شن حرب هجومية سريعة، وزحف مقاتلوه إلى الداخل الفلسطيني المحتل في تلك اللحظة التاريخية النادرة، لغيَّر الحزب كل المعادلات العسكرية والسياسية في المنطقة. ويرون أن الخطأ الذي ارتكبته قيادة حزب الله، قد أتاح للكيان الصهيوني الوقت الكافي لاسترداد أنفاسه وإعداد نفسه لضرب الحزب في لبنان وإضعافه عسكريًا وسياسيًا واحتلال أراضٍ سورية جديدة، وصولًا إلى شن حرب مباشرة على إيران. وما كان لهذا كله أن يحدث، لو اتخذ الحزب القرار الصحيح في اللحظة المناسبة. ويرون بأن قرار استبدال وحدة الساحات بجبهة مساندة، قد اتُّخذ بناءً عل رغبة إيرانية. فقد خشيت إيران من أن تتوسع دائرة الحرب، إذا ما تحرك حزب الله إلى داخل فلسطين المحتلة، فتنزلق إيران نفسها إلى مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية. وقد حدث بعد ذلك ما خشيت منه، ولكن في غياب حزب الله.
ولا يقر الكارهون بأن إيران هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تقف في وجه الهيمنة الصهيونية الغربية، في الوقت الذي تتجه فيه الدول العربية بخطى حثيثة نحو التطبيع المعلن وغير المعلن مع الكيان الصهيوني وتخضع خضوعًا مزمنًا للهيمنة الاستعمارية الغربية. كما لا يقرون أيضًا بأهمية التوازن الذي تفرضه إيران، مقابل التغول الصهيوني -الأمريكي، في غياب قوة الردع العربية القادرة على الوقوف في وجه هذا التغول.
وإذا ما اكتفينا بهذا الإيجاز لموقف الفريق الكاره لإيران، وانتقلنا إلى الفريق الآخر المحب لها، فإننا سنجد أطروحاته مناقضة تمامًا لأطروحات الفريق الأول، إلى درجة أن التوفيق بين أطروحات الفريقين يبدو مستحيلًا.
فإيران في نظر المحبين، دولة إسلامية تتحدى الغرب الاستعماري، وتتصدى لمطامعه، وترفض الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتدعم حركات المقاومة الفلسطينية، تسليحًا وتدريبًا وتمويلًا، وتبني نفسها وتطور قدراتها في مواجهة أعدائها وتصنِّع أسلحتها وتدافع عن مشروعها وعن مصالحها الوطنية وتحافظ على ثرواتها وعلى استقلالها. في حين تزداد الحكومات العربية ضعفًا وتفريطًا باستقلال بلدانها وهدرًا لثرواتها وتبعيةً للغرب الاستعماري وتطبيعًا مع العدو الصهيوني وتآمرًا على حركات المقاومة الفلسطينية.
كما أن إيران في نظر المحبين تدافع عن الإسلام الحقيقي، وتحاول نشر العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتتبنى القراءة الصحيحة للتاريخ الإسلامي، وتعمل على إعادة الحق إلى أهله، وهم آل بيت رسول الله، الذين أوصى الرسول لهم بحكم المسلمين، تحت عنوان "الولاية"، التي لا يجوز التشكيك في صحتها، ففيها الخير للمسلمين جميعًا. والمسلمون لا يمكن أن يصلح شأنهم إلا إذا تولى أمرهم أئمة الهدى. والأئمة معصومون من الخطأ، فما يقولونه وما يفعلونه كله صحيح، لا يجوز الشك في صحته. وعلى المسلمين طاعتهم والإقرار بأحقيتهم في الحكم، نزولًا عند وصية الرسول الكريم، المعتمدة لديهم "من كنت مولاه فعلي مولاه". وهذه الوصية ليست محصورة بالإمام علي كرم الله وجهه، كما قد يُفهم من منطوق هذا القول، بل تشمل أبناءه (من فاطمة) وأنسالهم من بعدهم.
وللخروج من الحرج الذي تولَّد عن قول بعض علماء الشيعة الاثنا عشرية بأن قيام دولتهم الشيعية لا يجوز إلا عند عودة الإمام المهدي من غيبته، وُضعت فكرة "الولي الفقيه"، الذي يجب في نظر هؤلاء المحبين التسليم بولايته، وبكونه نائبًا ينوب عن الإمام المهدي المنتظر في غيبته، حتى يرجع، ليملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. وإلى أن يرجع المهدي المنتظر، فإن توجيهات الولي الفقيه واجبة الطاعة، على كل مؤمن بعودة الإمام الغائب.
ومن هنا فإن التسليم بصحة موقف إيران وتأييدها في حربها والتصدي لما يروجه الكارهون لها، يتخذ عند هؤلاء المحبين طابعًا عقائديًا وسياسيًا في الوقت نفسه.
هكذا نجد أنفسنا بين فريقين: فريق كاره لإيران، رافض بحدة لأي حديث موضوعي عنها قد يشير، ولو مجرد إشارة، إلى أية إيجابية فيها، أو أي حديث عن دروس يمكننا أن نتعلمها منها ومن تجربتها، في المحافظة على استقلالها وبناء قدراتها وتحدي الحصار ومواجهة العدوان، وعمل ما عجزت عن عمله كل الحكومات العربية. وفريق محب، يتبنى كل ما تأتي به إيران، ولا يقبل أي تساؤل حول سياساتها أو نقد لممارساتها أو تشكيك بعقائدها. فكل ما تعتقده وتقوله وتفعله هو صحيح ولصالح الإسلام والمسلمين.
وبين هذا الفريق وذاك نحاول أن نجد لنا طريقًا، ولو ضيقًا، للنظر إلى إيران باعتبارها دولة كبرى في المنطقة، لسنا معنيين بحبها أو كرهها. نؤيدها ونتعاطف معها عندما تدافع عن نفسها، وتتصدى للعدو الصهيوني وللتغول الأمريكي. وفي الوقت نفسه نتحفظ تجاه خطابها الطائفي، لما يحدثه من انقسام في مجتمعنا، ونتمسك بدلًا منه بخطاب جامع يوجه إلى الشعب كله، بمختلف مكوناته ومذاهبه، يدعو إلى التسامح والتعايش المذهبي وحرية المعتقد. فلكل منا الحق بأن يعبد الله بالطريقة التي يراها، دون أن يحاول فرض طريقته على غيره. فالدين لله والوطن للجميع. وننظر إلى إيران كدولة لها مصالحها وحساباتها، التي لا تتطابق بالضرورة مع مصالحنا وحساباتنا، بل قد تلتقي أحيانًا، وتتعارض أحيانًا أخرى، كما هو حال كل الدول. وفي الحالتين هي دولة جارة. والجوار (قَدَر) لا نستطيع أن نفر منه.
فلا نستطيع أن ننقل جغرافية الوطن العربي إلى منطقة أخرى ليس فيها إيران، ولا تستطيع إيران أن تنتقل إلى منطقة أخرى لا يجاورها فيها شعب عربي. لذا فمن مصلحتنا ومصلحتها أن نعمل معًا على تصحيح علاقاتنا وإعادة بنائها، لا على أساس الكره والعداء أو الحب والولاء، بل على أسس حسن الجوار والنديَّة في التعامل والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين والتعاون في كل ما فيه مصلحة لنا ولها.
فإذا ما فهمنا الأمر على هذا النحو، وتمكنا من بناء علاقاتنا بإيران على هذه الأسس، فسوف نجد أنفسنا ننظر إلى الأحداث والمواقف ذات الصلة بإيران بموضوعية، ونزنها بميزان العقل الهادئ، لا بميزان الحب والكراهية.
وهنا قد يسأل سائل، من الفريق الكاره لإيران: إذا فهمنا نحن الأمر على هذا النحو، فمن سيُفهِّم إيران؟ وهذا سؤال يجعلنا نستحضر حكاية يعرفها اليمنيون، وهي حكاية الطبيب النفسي والمريض المصاب بعقدة الدجاجة وحبَّة القمح. تلك العقدة التي لا علاج لها إلا بأن نفهم نحن، قبل أن تفهم إيران وغيرها، بأننا لسنا حبَّة قمح يسهل ابتلاعها، ثم نعمل بموجب هذا الفهم، فنحترم أنفسنا ونعالج مشكلاتنا الداخلية ونوحد صفوفنا ونصوِّب سياساتنا ونبني قدراتنا الدفاعية ونحافظ على استقلالنا وسلامة أراضينا ونضع مشروعنا النهضوي الخاص بنا ونتمسك به ونحسن الدفاع عنه، ونتخلى عن تبعيتنا لأية قوة إقليمية أو عالمية، ونجعل ولاءنا أولًا وأخيرًا لله ولوطننا ولشعبنا، ونقيس علاقاتنا بالدول كلها، في الإقليم وفي العالم، بمقياس مصلحة شعبنا، لا بمقياس آخر. ومتى ما عملنا ذلك، سيفهم الآخرون جميعهم، كما فهمنا نحن، بأننا لسنا حبَّة قمح سهلة الابتلاع، وبالتالي لن يطمع أحد في ابتلاعنا.