طائر اللامكان يغرد في "دارمشتات" بالصور
( 29 يوليو 1906-31 أكتوبر 2005)
**
" ... حينئذٍ سأصبح طائراً مهاجراً، موطناً في اللامكان، شخصاً غير مستقر وعابراً على الأرض" ميلي باو
**
في 5 مايو 2024، كنتُ في احتفالية تكريمية للفنانة الفوتوغرافية ميللي باو ورحلاتها الاثنوجرافية للعديد من دول العالم، واستعراض كتبها، بمعرض أرشيف مدينة دارمشتات.
كنتُ قد شاهدت اعلاناتها في نواحي "دارمشتات"، ما جعلني افتش واقرأ عنها عبر الإنترنت والكتيبات الصغيرة التي كتبت عن معرضها، وحياتها.
في 7 سبتمبر 2024، زرت معرضها الفوتوغرافي الهام (,MILLI BAU 5000km إلى باريس، 5مايو-27 أكتوبر2024)- وهو كتاب بالمناسبة حررته جوليكا نوروزي، كان العرض في المنتدى الفني لجامعة دارمشتات التقنية، بالتعاون مع متحف الثقافة العالمية بفرانكفورت، وليس بآخر البحث عن بيتها وشارعها في ايبرشتات، فقد كنت اعتقد أن بيتها تحول إلى متحف.
عين الكاميرا، وفولكس فاجن: الأنثربولوجيا البصرية
وأنا أجوب المعرض لذلك الطائر المسافر العابر للحدود، عبر البحر والصحراء، والجو، وأحدق بالصور الملونة وصور الأبيض والأسود، بمشاهد شتى من الحياة اليومية لسكان العديد من البلدان، صور ناطقة: ضحكات الناس، حزنهم، تأملهم، الأطفال، النساء وهن يكدحن، الحرب والفقر، الحيوانات، الغابات، الطبيعة المتنوعة، الأزياء الشعبية، المقهى وتجمعات الناس، الأسواق، الوان الإضاءة، الظلام، الصحراء، ..الخ.
فاترينا تحمل وثائق سفرها الى بلدان مختلفة، يقال انه بلغ 100 وثيقة جواز سفر، زاوية أخرى تعرض مقتنياتها: ملبسين وكرسي، وصور ولوحة لها بدت وكأنها على جدران بيتها، مقابلات تليفزيونية وصحفية..الخ، تتنقل بين صورها والبوماتها، كتبها، ومقتطفات من سيرتها.
لا تشبع من ذلك التنوع والبهاء في حضرة حياة المغامرة الألمانية ميللي باو، تنتعش ذاكرتك، بالحكايات الشعبية" كان يا ما كان في بلد، حدث كذا، وكذا، وبالفوتوغراف والتسجيل والقلم، لإمرأة شجاعة ومغامرة، خطت معنى لحياتها الفارقة لتحقيق شغفها بالسفر والتأمل والصورة والكتابة، مخلفة إرثاً ثقافياً إنسانياً ل 40 رحلة قامت بها حول العالم، وياله من إرث تاريخي لأرشيف متجول، يرجع بذاكرتك للأماكن التي التقطتها عدستها ومازالت موجودة، بعضها تدمر بفعل الحروب، كتمثال بوذا في أفغانستان الذي دمرته "القاعدة".
الفضول والألم معاً:
يصف البرتو مانغويل، الفضول " تجربة الاكتشاف هي واحدة من التجارب المشتركة لمعظم قراءاتنا، وعاجلًا أم آجلًا، سيتيح لنا كتاب منقطع النظير استكشاف أنفسنا والعالم من حولنا".
مفتتح ذلك الفضول سيرة اللامنتهى: البحث عن" لماذا"، جسدته "ميللي باو" برحلاتها الإستكشافية، تقول عن هذا الشغف- الفضول، والذي كان كامناً في طفولتها،: " اعتقد انني كنت في الرابعة من عمري عندما خرجت بعصا والدي لأرى أين تشرق الشمس، وقاومت عندما اعادوني"، انبجس هذا الفضول الكامن عندما انضمت في 1948، الى البعثة الاستكشافية" الأمازون"/أمريكا الجنوبية كمترجمة ومراسلة في القسم الثقافي، وكانت المرأة الوحيدة في البعثة وفي رحلة استمرت ثلاث سنوات.
تذكر البدايات بحسب العديد من الكتابات والترجمات-الصعبة بالنسبة لي- ان حياتها تعثرت بألم صادم، موت ابنها الوحيد في سنته الأولى، ثم تلاه موت زوجها 1953، مما جعلاها تقرر مغادرة الوطن، وتلبي نداء شغفها المغامر: السفر والتصوير، فباعت ارثها، وحولت سيارة الفولكس فاجن إلى بيت متنقل، لتنطلق في الأول من يناير 1956، لتسافر بلدان"طريق الحرير"، زادها: معدات التصوير من كاميرا وأجهزة تسجيل ودفاتر لكتابة اليوميات، والحرية الأساس الأول المتين، لتكسر "ميللي"، التابوهات الأنثوية ببأس وشجاعة فالحرية بالنسبة لشخصها: الوجود، واستكشاف معانيه بالثقافي والجغرافي وأفق الإنساني المختلف والمؤتلف معاً، ولذا لم تحس بالوحدة بالرغم انها جابت العالم وحيدة، وهي في عمر الخمسين، تلك الحرية ولذة الإستكشاف، هما رائحة الحياة من جديد وجديد، كان أول كيلو متر في الحرية والفضول، ل" طريق الحرير"، المعروف، امرأة بلا فستان حرير، وبلا تاج أنثوي مرصع بأيقونات الأنوثة التقليدية في ذلك الزمان، وبالسفر تتلاشى الأيقونية الأنثوية الجامدة. وقلما تتصف بها نساء العالم في ذلك الزمان.
طريق الحرير الوعر الذي خاضته وحدها، لإستكشاف ذاتها، والذات الإنسانية، من أوطان شتى، أفريقيا وأسيا: لبنان، باكستان، الهند، الصين، اليابان، مصر، إيران، تركيا، أفغانستان، تركيا، النيبال، الأردن، والعراق، ..الخ من البلدان.
من ضمن سيرتها الذاتية، انها سافرت إلى إيران 1967، ومكثت سبع سنوات برعاية شاه إيران، والفت كتاباً، وكان هذا محط جدال إذ كيف تعيش مع ديكتاتور، لكن هذا لم يمنع تقدير الدولة الألمانية لعملها الإستثنائي.
وفي عام 1975، غادرت ميللي باو تلك الأوطان وطوت ملف رحلاتها وعادت الى مسقط رأسها "دارمشتات" لتحقيق حلمها ببناء أرشيف يحوي كل رحلاتها، وفي بيتها، ضم ارشيفها الأسيوي قرابة 6000 شريحة، 4000 وثيقة، خلال 40 رحلة.
الحنين والمنزل:
في رد على سؤال، وجه اليها-تألمت كثيراً للسؤال والجواب معاً- كان السؤال: الا تشعرين بالحنين الى وطنك؟
كان ردها اليماً: لا، لم يعد لدي أي شخص في المنزل!
وفي مذكراتها: " لم يكن من السهل التخلي عن منزل جميل وسط حديقة كبيرة وروح حنونة وجيران محبين، لكن عليك أن تقبل ماهو غير قابل للتغيير"، وقفت أمام هذا النص متأملة، " أن تقبل ماهو غير قابل للتغيير"، ما احوجنا نحن نساء العالم، لمثل ما فعلته باو: أول كيلو متر تغيير، وحرية، وأن نقبل ماهو غير قابل للتغيير.
طعم الحرية:
تقول في احد المقابلات،" لقد تذوقت الحرية...وأصبحت مدمنة على هذه الرائحة"، صدقت ميللي باو، وإلا ما الذي يجبرها أن تجوب العالم لوحدها؟وما الذي جعلها لا تستسلم لأرقام العمر التقليدي، ففي سن السبعين وما بعد الثمانين، فتشد الرحال الى سيبيريا وعمرها 88 سنة، تتنقل في العديد من الأماكن الثقافية حيث تفتح لها جامعات العالم ومتاحفها، تتحدث عن رحلاتها ويومياتها، وتعرض صورها، وتلقي محاضراتها، وو..الخ، ولا تستكين إلا عندما فارقت الحياة في عمر 99.
"السفر لا يشعرني بالوحدة"، " إنها حياتي وأعيشها بالطريقة التي أحب"، هكذا تلخص الفنانة مسيرتها الضوئية:
السفر: حرية
الصورة: حرية
الكاميرا حرية،
الفلكسوفاجن أيضا رمز الحرية،
آلة الكتابة: حرية
وبالنسبة لنا نحن النساء: ميللي باو أيضاً حرية
باو:
حصلت على جائزة وسام الإستحقاق البرونزي 1996 من دارمشتات.
اطلق اسمها على أحد شوارع "ايبرشتات" " باو شتراسة- milli bau straße".
خُلد ارثها في متحف الثقافات العالمية في فرانكفورت، وفي أرشيف مدينة "دار مشتات" أيضاً.