صنعاء 19C امطار خفيفة

الشاعر الكبير الذي لا ينسى

الشاعر الكبير الذي لا ينسى
يحيى البشاري- عبدالرحمن الغابري

في اليمن شعراء ومبدعون كبار لا يحبون الإعلان عن موهبتهم، أو نشر وتداول قصائدهم.

 

أتذكر الشاعر الكبير يحيى البشاري الذي لا يقلُّ أهميةً عن البردوني، وعبدالعزيز المقالح، ولطفي جعفر أمان، ومحمد سعيد جرادة، وحسين البار، وصالح الحامد، وحداد حسن الكاف.

هذا الشاعر ارتقى بقصيدة العمود إلى مستويات الإبداع والتجديد، ولكن ديوانه لم يظهر إلا بعد وفاته؛ وبفضل جهود قريبه الأستاذ عبدالملك البشاري، والدكتور عبدالعزيز المقالح، وتعاون الشاعر إسماعيل الوريث.

أجاد البشاري العمود كإجادته القصيدة العامية، وقبله الشاعر إبراهيم الحضراني الذي يعود الفضل لزميله أحمد الشامي، ولعبدالودود سيف، وعلوان الجيلاني، في جمع بعض من قصائده التي لايزال الكثير منها غائبًا، وكان أوسع ديوان صدر له هو الذي دأب على جمعه وتحقيقه علوان الجيلاني، وإنْ لم يكن مكتملًا.

الشاعر عبدالله قاضي واحد من هؤلاء المبدعين المغرمين بالاعتزال والصائمين عن إبراز موهبتهم الشعرية الرائعة.

يتحدث المتكلمون ومدونو الرسالات وبعض المؤرخين أنَّ النبي هو من أُوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه. ويرى بعض الباحثين أن عدد الأنبياء غير محدود، وأن هناك أنبياء ماتوا وهم لا يعرفون.

إن الرسالة والنبوة قد انقطعتا: فلا نبي بعدي. قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال: رؤيا المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة.

والشاعر راءٍ، ولكن في يقظة اللاوعي، والنبوة بالمعنى المجازي من يُعطى الحكمة أو من له القدرة على استشراف آفاق المستقبل.

الشعراء الأربعة: عبدالله قاضي، وأحمد الزراعي، وكريم الحنكي، وحكيم الفقيه، شعراء كبار وملهمون حد الإبداع والرؤية، ولكنهم يتوارون عن الظهور، ولا يبرزون مواهبهم التي هي من أرقى روائع التجربة الحديثة الأكثر غناء وروعة.

والأربعة أعضاء في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ولهم باع طويل في الحياة العلمية والثقافية والأدبية والعملية أيضًا، وكلهم أساتذة معلمون ومثقفون متعددو المواهب والقدرات.

الدكتور عبدالحكيم الفقيه من هؤلاء المبدعين. فهو أستاذ جليل. حاصل على رسالة الدكتوراه من الهند. متخصص في نقد القصية القصيرة. فهو إلى جانب كونه أستاذًا أكاديميًّا، أفاد كثيرًا من دراسته في الهند؛ فانفتح على الثقافة العالمية، ونهل كثيرًا من تجربة الهند العظيمة: أنموذج غاندي، ونهرو، وطاغور. فهو مفكر وناقد، ليس هذا فحسب؛ بل شاعر بمستوى رفيع. فقصيدته مغايرة ومختلفة ناقدة لا يعتريها الخوف، ولا يرعبها التابوهات.

مقدرته ودعوته للتحرر والإصلاح، وافرة، وسعيه للإيقاظ قوي، وعزيمته حاضرة. وهو عضو في الحزب الاشتراكي. يحتفي كثيرًا بالنشاط الثقافي والأدبي. كثير الحض لطلابه على الإبداع. كُرِّمَ بدرع الثقافة لدوره في نشر الثقافة والإبداع.

أصدر الشاعر المجيد ثلاثة دواوين: «رصد الهواجس»، و«أوراق من غصن الأرق»، و«تجربة الظنون». وهو مبدع غزير الإنتاج رغم انشغالاته الكاثرة، وقد تيسر لي متابعة بعض من قصائده المنشورة في المواقع، وبالأخص ديوانه «أوراق من غصن الأرق».

إبداعات الدكتور عبدالحكيم الفقيه تتطلب قراءةً متمعنة ودراسة. استوقفتني قصيدته «زنابيل الأسى» في ديوانه «أوراق من غصن الأرق».

القصيدة ترسم صورتين لصنعاء؛ الأولى: فتاة ملهمة العاشقين. تمشي الهوينى بدلٍّ ودلال. تطقطق خلاخلها الحميرية. شهوة مشتعلة. نضارتها فاعمة. تنبع من عينيها الغيول، وفمها منجم عطاء وحكمة، ورموشها غصون وفاكهة. فتح لها صنابير قلبه، وصبها في كأسها «المصون»، متوكلًا على طيفها ومبتدئًا الغرام.

الصورة الثانية: زنزانة للحالمين. تراود عشاقها بالدلال؛ في حين تزهق أرواحهم، وتصبح كمينًا حقيقيًّا.

 

وصنعاء ملهمة العاشقين. تسير الهوينى

وخلخالها الحميري يطقطق

تشعل حين تحدق شهوتها في المرايا

هي امرأة وجهها مفعم بالنضارة. عيناها منبعان. صوتها واحة

فمها منجم

والرموش غصون.

ويتعمق أكثر في استبطانه ما وراء الوراء..

 

لها هالة تستعير ملامحها من براري الأساطير

من جمرات البخور

ومن موقد الذكريات إذا هيمن الليل كانت سواده

الصورتان المتباعدتان والمختلفتان تتداخلان في القراءة الظاهرة؛ ففي الليل ترتدي السواد، أو تكونه، ولكنها في النهار في سلطانة تشمر وتستحم بمياه الأشعة، وتتجنن ككل أبنائها.

لو بسط الصبح سلطانه شمرت واستحمت بماء الأشعة مجنونة كالعقول

يقول لها ورق القات: لا تمضغيني صباحًا

تكركر عند جنائز عشاقها

وتنوح إذا ألبستها الدقائق ثوب الزفاف

يمتلك الشاعر حكيم مقدرةً فائقة، ومخيلة خصبة، ومهارة إبداعية تصهر الوقائع الحياتية والمواقف والأحداث لترسمها لوحات ناطقة وصورًا شعرية تحتاج إلى قراءة وإعادة قراءة، بل الغوص في ما وراء الجمل والمفردات. فصنعاء الملهمة عشاقها هي المرأة الصنعانية من لحم ودم؛ وهي في نفس الوقت صنعاء التاريخ الزاكي الممتد إلى صلصال الخلاخل الحميرية، وعيناها نبعان يفيضان خيرًا وسعادةً، ووجهها الوضاء عبر تاريخ مفعم بالمنجزات، وفمها منجم تراث زاهر وجميل.

يرسم المبدع التحولات المتسارعة للجميلة الفاتنة صنعاء. الأحداث المتعاقبة والمتسارعة تتحول إلى كمين. تراوغ عشاقها، وتزهق أرواحهم.

والمفردات دالة؛ فلحظات التجلي والانبساط والجمال رهن بـ"لو بسط الصبح سلطانه". وما الصبح هنا إلا فجر الثورة، وسطوع شموس الحرية، واستحمامها بماء الحياة. ولا يعني الجنون غير التفتح والانطلاق.

ينصحها القات -رمز التخلف والهمود: لا تمضغيني صباحًا. فالقات عدو الصباح، عاشق ظلام الليل.

تمضغه صباحًا، وتكركر عند جنائز عشاقها، وتنوح. لاحظوا (تنوح) إذا ألبستها الدقائق ثوب الزفاف.

فعل الإلباس الراغم، والدقائق الزائلة، وثوب الزفاف الزائف تدل على عمق وصدق المعنى الصوفي: إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.

الصور الشعرية في القصيدة الحديثة تخلق حالةً من الغموض والتعقيد. يقول الناقد كمال خيري بك: "إنَّ تعقيد التعبير الشعري يمكن أن يُدرس على مستويين: مستوى البناء العام للقصيدة باعتبارها عملًا خفيًّا، ومستوى بنية الجملة الشعرية. وفي ما يتعلق بالمستوى الأول لا يمكن تبسيط الجملة الشعرية أو ما دعوناه بـ"تحرير مادة اللغة من صعوباتها"، و"من الزوائد الأسلوبية التقليدية"، إلا أن يسهل عملية البناء المعقد؛ أي أن يساعد على ولادة بناء متميز بالاتساع والتشعب وتعدد الحركات دون أن يكون بالضرورة عصيًّا على الفهم" (حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، ص172).

يرقص أحجارَهُ الخوفُ في عرصات الجماجم

تتحول المدينة صنعاء في الصورة الثانية إلى عرصة جماجم. والعرصة: الأرض الخالية من البناء، ولكنها مليئة بالجماجم، يتسيدها الخوف الذي يُرَقِّص أحجارَه (البشر)، وينتحر العشب في هضبات الهواجس.

إبداع الشاعر مقدرته على إعادة تخليق المدينة، وتحويلها إلى عرصة جماجم، بدل أن كانت في صورتها الأولى فتاة باهرة الجمال والدل، وجعل الخوف حاكمًا يُرقِّص محكوميه البشر (الحجر).

وفي البلاغة المقدمة والحديثة يكون إحياء الموات، وإماتة الحي، وتحويل الحسي إلى معنوي، والمعنوي إلى حسي، أهم أسرار الإبداع.

في ضجيج الشوارع تشتبك الكلمات

تشكل أسئلةً لا تُجَاب

سماع ضجيج الشوارع، ورؤية اشتباك جيوش الكلمات التي تطرح أسئلة لا أجوبةَ لها؛ أليس ذلكم ما تعيشه صنعاء منذ فجر سبتمبر وحتى اليوم؟!

تفتح أبوابها دمعةٌ

وتخبئ أسرارًا أمنيةً ظهرت في زفير الأزقة

والوقت لا يفقه المدركون تعرجه

والجهات تقايض موقعها بالشتات.

الدمعة صنعاء تفتح أبوابها، وتخبئ أسرارًا أمنيةٍ ظهرت في زفير الأزقة. تفتح الدمعة أبواب جحيم الأزقة. "إذا رأتهم من مكانٍ بعيد سمعوا له تغيظًّا وزفيرا" (الفرقان: 12). وهي نبوءةٌ راعبة.

ينتقد الذين لا يفقهون تعرج الوقت، ويهزأ بالجهات التي تقايض موقعها بالشتات. هل يقصد غير السياسة البلداء العاجزين عن إدراك اللحظة؟! وهم يبيعون الوحدة بالتمزق والشتات. الأمر الذي أسلمنا إلى:

وصنعاء زمبيل هذا الأسى المتورم في لحظات الغروب

المآذن تشتم فنانةً كشفت شعرها

والنهار يودع حاراتها

وهي مشغولة بالشجار

وبائعة الخبز تسأل: هل شاهدوا شعرة في ملوجي؟!

وعين المشاة تحدق دامعةً في الوجوه التي تتبسم في الملصقات.

الصور الكثيفة الموروثة من الصورة الفنية في القصيدة القديمة من التشبيه والمجاز بأنواعه إلى الاستعارة بأشكالها، تعكس مقدرة ومهارة المبدع. وصور الفنان حكيم عميقة وموشاة بقدرٍ من الغموض الشفاف الذي لا يحجب الموقف بدلالاته وأبعاده.

يقول أستاذنا الدكتور مصطفى ناصف: "إنَّ الاستعارة ليست غايتها الوضوح البصري أو الحِسِّي الدقيق. من الحق أن ملامح الشعر أحيانًا ذات طابع حسي؛ فالفن -كما يقال- أثر يجعل من المعنى حسيًّا عيانيًّا.

 إنَّ ما يريد أن يجعل الإحساس خفيًّا، وأن يخرج منه فكرًا. والشاعر إذ يعتمد على النواحي البصرية والسمعية أكثر من اعتماده على الحواس الأخرى؛ إنما يريد أن يَعْبُر الحسي إلى الخيالي والفكري" (الصورة الأدبية، ص138).

قصيدة الشبان والشابات اليمنيات الجدد على كثرتهم وكثرتهن، ترتقي إلى أرفع مستويات إبداع الحداثة والتجديد.

أشعار المبدع الرائع -كجيل من المبدعات والمبدعين اليمنيين- بحاجة إلى قراءات نقدية من أساتذتنا الأجلاء ونقادنا.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً