صنعاء 19C امطار خفيفة

حول تدهور سعر الريال

كثرت في الآونة الأخيرة أصوات تشير إلى وبال الحالة التي وصل إليها سعر الريال اليمني في سوق تبادل العملات، بخاصة مع عملتي الدولار الأمريكي والريال السعودي، وإلى حد ما الدرهم الإماراتي، باعتبارها باتت وحدات للقياس.

 
تلك العملات التي يتداولها الكثير كل حسب مستوى دخلةه.
طبعًا الغالبية العظمى من مواطني البلاد من متقاعدين وصغار موظفي الدولة وباقي البشر العايشين إما على الهامش أو على الضفاف، هم عناوين فئة ضحايا تذبذب قيمة الريال هبوطًا هبوطًا، لأنه أصلًا لا يزيد، ومع هبوط قيمته تتزايد أسعار السلع والخدمات بشكل جنوني ومتزايد، مما يعني أن مثل هذه الفئات وضعها المعيشي يصبح في مهب الريح، إذ إن مستويات التضخم تستمر صعودًا يعصف بهم ويظل الدائرون تحت مظلة اقتصاد الظل أو تحت سماء الاقتصاد الموازي أو الاقتصاد الأسود، ومن يديرون شؤونه وهم يلعبون بالبيضة والحجر، ومعهم بالطبع الجهاز المترهل من بيروقراطية السلطة بكافة أشكالها، بخاصة أولئك الذين يتقاضون رواتبهم بالنقد الأجنبي دولارًا أو ريالًا أو غيره، من عمولات ومن موارد غسيل الأموال والتكسب من أعمال الصرافة واختزان موارد النقد الأجنبي خارج محافظ البنك المركزي.
 
إنه وضع مأساوي، السكوت عنه يثير الريبة، ولا يدعو فقط للاستغراب، ولكنه يدعو لوضع جميع من بيدهم مسؤولية ما آلت إليه الأمور لهذا المستوى من التدهور الكلي للاقتصاد الوطني، تحت طائلة المسؤولية أمام محكمة التاريخ والضمير الوطني.
 
ولكن دعونا نلج أولًا رحاب الاقتصاد والنقد من أوسع الأبواب، حيث تشكل العملة كتعبير سيادي -إن سقط تسقط معه الدولة- عن قوة ومتانة الاقتصاد الوطني تعبيرًا عن استقرار الأوضاع السياسية، وما يعنيه ذلك الاستقرار هو تعبير عما يلي:
أولًا: استقرار سياسي وأمني دائم ومستدام.
ثانيًا: دورة اقتصادية مكتملة غير مختنقة هنا أو هناك.
ثالثًا: مؤسسات دولة فاعلة متكاملة تسمح بنفاذ القوانين والأنظمة دونما تضارب وتداخل الصلاحيات.
رابعًا: نظام مصرفي قادر تؤول إليه منفردًا موارد الدولة من النقد الأجنبي، يعمل معها على مواجهة التضخم، ويحول، بل يمنع استشراء ظاهرة الدولرة المصاحبة لوجود أكثر من سعر للعملة الوطنية بالسوق، واستمرار تآكل قيمتها الحقيقية التي تخفت قيمتها مع غول التضخم، ارتفاع الأسعار، الذي يعني الفقد المستمر لقيمته والناس يزدادون بؤسًا وحيرة، ولهم كامل الحق بأن يصرخوا وبصوت عالٍ وهم يرون تتاليًا بشكل يومي تذبذب وهبوط سعر عملتهم، ورواتبهم محلك سر... هنا أتحدث عمن هم فوق وتحت خط الفقر، وهم الغالبية، وما لهم على الأرض وكيل، فلا البنك المركزي له دور ووجود نظير وضعه المنقسم وحيرته أمام تضارب السياسات. كما أن دور الحكومة خافت التأثير، إذ هي رهينة الخلافات التي تعلوها، ناهيك عن كونها من حيث الأداء جزءًا من الإشكال العام، والأدهى أن سنوات الحرب طالت، وأثرياء الحرب زادوا، إنهم أشبه -إن جاز التشبيه- بأم شجاعة وأولادها كما صورتها مسرحية الراحل بريخت، حين تكتشف فجأة أن الحرب واستمرارها تمثل مصدرًا للثراء لها ولأمثالها من رجالات وأثرياء الحرب.
عودًا على بدء، نقول أخذنا الحديث مليًا، ولم نشر للعملة الوطنية أية عملة... ما هي ما تعبيراتها؟ من أين تستمد قوتها؟ ولم أصلًا تتذبذب تلك القيمة؟
 

وما الوضع القانوني لهذه الورقة النقدية؟ هذه الأوراق السحرية التي تخلب الألباب وتذكي التهافت والصراعات، وتحت سمائها تتم بها الصفقات المشبوهة وغير المشبوهة!

الورقة النقدية ريالًا كانت أو دولارًا أو ريالًا سعوديًا أو جنيهًا، أو أيًا من عملات ما أنزل الله بها من سلطان، إنما هي وسيلة كوسيط لتسهيل التبادل وحركة البيع والشراء، وكمخزن للثروة في صورة نقدية. هذه الأوراق لها قوة إبراء قانونية يقبلها المجتمع حفاظًا على ثروته... تلك القوة تعتمدها السلطات الشرعية للدولة، حيث تتمتع الدولة بقوة ومتانة وثقة مطلقة، وهنا لن ندخل في تاريخية النقد ومراحل تطوره بعيد الخروج من الدائرة الضيقة للمقايضات بين سلع يجري تبادلها حسب منافع يقدرها كل داخل للسوق بحثًا عما يلبي طلبه، ولا ينبغي لنا إغفال أن قيمة أية سلعة إنما تتحدد مبدئيًا بقيمة العمل والجهد المبذول في إنتاجها أو صناعتها.

 
ولكن دعونا نلج مكررًا لب مفهوم النقود... إذ النقود أو العملات الوطنية كذلك هي أساس وعنوان لقوة أي مجتمع كما يقول د. عزمي مشهور، مدير تحرير مجلة الديمقراطية المصرية.
كما أن أي خلل يلحق بها، أي بقوة الدولة الاقتصادية، يلقي بظلالها السوداء على كافة قطاعات الاقتصاد الوطني، كما نراه للأسف الشديد في بلادنا، المقسم والمجزأ، لأن أية عملة وطنية إنما تستمد قوتها ومتانتها وقدرتها على التحرك بالأسواق دونما اضطراب وتذبذب مكانة كتلك التي نراها ونتحسر عليها في بلادنا... إنما تستمد ذلك من العوامل والعناصر الآتية:
ما تمتلكه أية دولة من ثروات متنوعة مؤكدة صناعية وزراعية أو خامات متنوعة متعددة بأحجام استثمارية بباطن الأرض جرى ويجري استثمارها بطرق ونظم سليمة.
ما تمتلكه الدولة من مؤسسات قوية وفاعلة غير متضاربة.
انضباط قانوني سليم يسمح بتطبيق القوانين ولوائحها دون عرقلات وتدخلات لسلطات تنتقص من وحدة القرار بعيدًا عن الأساليب الملتوية والبيروقراطية القاتلة.
يضاف إلى ذلك أمر مهم يفسر مدى قوة عملة أية دولة تتلعق من جانب بالموقع الجغرافي وما يمتلكه أي مجتمع من رأسمال اجتماعي ممثلًا بقيمه وثقافته، ولكن يظل هناك أمر يتطلب التأكيد عليه يرتبط بهذا الجانب، وهو أمر يتعلق بالسياسات النقدية التي يتخذها البنك المركزى أساسًا لمعالجة التضخم وآثاره السلبية على مجمل الاقتصاد الوطني، الأمر هنا مرتبط بسياسات التعويم وانعكاساتها سلبًا على أوضاع أغلبية المجتمع من ذوي الدخول الثابتة، بمن فيهم فئة المتقاعدين، إذ كثيرًا ما يلازم سياسات التعويم ومحاولة الوصول إلى توحيد سعر العملة للحيلولة دون سيادة أكثر من سعر الريال، إذ إن استمرار حالة التضخم يؤدي دومًا لتآكل القيمة الفعلية لقيمة الريال بالسوق، تنعكس سلبًا على حياة الغالبية كما نراه ظاهرًا بجلاء في بلادنا المأزوم وضعها المالي السياسي الأمني الاقتصادي حتى الثمالة، واستمرار الانحدار سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، إنما تشكل البورة التي تطيح بشكل متزايد بقيمة ومكانة العملة الوطنية، مما يسحبها من ميدان التداول مع تغول ظاهرة الدولرة والسعودة، بمعنى أن تحل عملة أخرى محل الريال عملتنا الوطنية كوسيلة للتداول وتسوية قيمة ما يشتريه الناس، وإن لغالبيتهم امتلاك نقد أجنبي، وهم على باب الله يتحصلون على رواتب هزيلة إن تحصلوا أصلًا عليها بكل أرجاء البلاد. وما الحل إذن على المدى البعيد والطويل الأمد والمدى القصير؟
الأمر يتطلب العمل وفق رؤية متكاملة سياسيًا واقتصاديًا، مكفولة باستقرار أمني ثابت طويل الأمد. عدا ذلك نحن نحرث بالبحر أو برمال متحركة تذروها الرياح العاتية، وما نحن فيه حاليًا لا يختلف عن ذلك قيد أنملة...!
أود أن أختم مقالتي هذه بالتأكيد على ثلاث قضايا جوهرية:
القضية الأولى ضرورة وحدة القرار السياسي وحدة متكاملة حول كافة القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية من قبل الإخوة في المجلس الرئاسي، إن أردنا مغادرة الحلقة المفرغة التي ندور داخلها طيلة سنوات خلت، ومانزال للأسف الشديد.
ضرورة أن ينعكس ذلك على وحدة أداء المؤسسات دونما تضارب وتعارضات تحت أي مبرر.
 
سيادة صارمة للقوانين مع تعزيز دور القضاء المستقل. وهنا أود التنبيه إلى ما تضمنته كتابات من نالوا جائزة نوبل للاقتصاد لهذا العام، حيث أكدت رسائلهم على أن ضعف سيادة القانون لا تساعد مطلقًا على النمو، كما أكدت أبحاثهم على أهمية وضرورة تعزيز دور المؤسسات، سواء حكومية كانت أو اجتماعية، في دعم عملية التنمية الاقتصادية دونما خلل أو انحرافات.
 
ولا بد لنا نهاية مقالنا هذا أن نؤكد أن استمرار ما نحن عليه إنما يقود للهلاك، وهنا تتطلب الضرورة والمسؤولية الوطنية تجاه الوطن كله ومواطنيه جميعًا دونما استثناء. ضرورة وجود تحرك سياسي جاد يحرك المياه الراكدة، ويعزز ويقوي وحدة أداء كافة مؤسسات الدولة دونما تضارب وتداخلات من هنا وهناك... فرض الجبايات... كان مازال خللًا هيكليًا يفاقم ما لدى البلد من خلل مزمن في كافة هياكله وموازينه السياسية والاقتصادية.
 
نأمل لكافة الجهود التي تبذل هنا وهناك الدخول في معمعان لهيب ما يمر به الوطن من لهيب وحريق لن يستثني أحدًا.
والله والوطن من وراء القصد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً