نادراً ما أبكي، وإن حان وقت الحزن أنزوي بعيدا حتى لا أراني فيسترسل أكثر سلسبيل الدموع. هذه المرة، كان المكان والزمان مناسبين جدا للحظة الضعف. إنها في الحقيقة، ليست ضعف، إنما لحظة أنسنه؛ نتذكر فيها أننا بشر عاديون تحكمنا وتتحكم فينا المشاعر.
كان المكان؛ سينما REX في العاصمة السويسرية بيرن. وكان الزمان؛ مساء الجمعة الـ 15 من أغسطس ٢٠٢٤. وكانت المناسبة: عرض الفيلم اليمني؛ المرهقون.. هذا الذي أرهق الحنين والخيال والذكريات وهي تنبعث وتتجدد وتذهب وتجيء.
تحمست لمشاهدة الفيلم مع أول رسالة وصلتني من كاترين كوخير؛ من مؤسسة "تريجون فيلم"، وهي مؤسسة سويسرية لتوزيع الأفلام تأسست 1988، وتهدف في المقام الأول إلى تعزيز المعرفة بالأفلام بصناعة الأفلام من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، في سياق دعم التعايش بين الثقافات المختلفة. قالت إنهم في صدد تنظيم عرض للفيلم اليمني "المرهقون" في دور السينما السويسرية، وبالتالي فإنها وبعد قراءة معلومات عني على الأنترنت، تعتقد أنني قد أستطيع مساعدتهم في الترويج للفيلم، كونني يمني وصحفي وأعيش أيضاً في سويسرا
أرسلت مجموعة بوسترات لتوزيعها فضلاً عن مشاركة الإعلان عن الحدث في مواقع التواصل. قمت بذلك بكل ود ومحبة كون هذا شأن يخصني أولاً، لأنه بشكل أو بآخر مرتبط باليمن. ثم إنه لأول مرة يحدث أن يعرض فيلم يمني في دزر عرض سويسرية، كما أن الفيلم هو لعمرو جمال، أحد مبدعي جيلنا. أتذكر أنني كنت قد حاورته لصالح إحدى الصحف، قبل أكثر من 12 عام، وتحديداً بعدما سطح نجمه عقب عرض مسرحيات "معاك نازل" و "كرت أحمر".
في الصالة المظلمة حيث عشرات المشاهدين من كبار السن مبثوثين هنا وهناك، تدفقت ذكريات وأشجان سحبتي إلى أيام خلت. تتمحور فكرة الفيلم حول عائلة صغيرة تريد فيها الزوجة وبموافقة الزوج التخلص من الجنين في بطنها، ويواجهون في سبيل الإجهاض سيل من المصاعب والاستهجانات المجتمعية والدينية. ربما قد تكون الفكرة عادية جدا من وجهة نظر البعض، غير أن آخرين يجدونها مثيرة كونها تأتي في سياق نقاشات تحديد النسل وحرية المرأة في التصرف دونما قيود. تلقي هذه الفكرة رواجاً في المجتمعات الغربية حيث لا قضايا كبيرة تؤرق مضجعهم ليل نهار كالحرب والجوع وشلل الأطفال وسوء التغذية.
في كل الأحوال، أعادتني تفاصيل الفيلم إلى حياتي في اليمن قبل هذا التشرد الطويل. ولهذا بكيت عند كل مشهد وجهشت مع كل حوار. وحتى أكون صادقاً، كان يفوتني في الغالب ما يدور من حوار وما تتوالى من مشاهد، ربما لأنني كنت أنتقل لمشاهد وحوارات أخرى تحتدم في الخيال.
ورغم أني لم أعش في مدينة عدن إلا لأيام في زيارات متقطعة، فإن تفاصيل ويوميات العائلة في الفيلم هي يوميات كل العوائل اليمنية في كل المدن والمحافظات.
أعادتني لمة العائلة في مائدة الغداء، إلى لمة بيتنا القروي في إحدى مناطق محافظة إب. تفاصيل المائدة والأكلات البسيطة والمنوعة التي افتقدناها في هذا الضياع. أحد أفراد العائلة وهو مجند جاء ليأكل مع أسرة إسراء عبير محمد وزوجها أحمد "خالد همدان" وحين سائهم مشهد المسدس نحاه الجندي جانباً، وأبدى أسفه حين سمع من صهيره أن هناك طقم عسكري صدم باصه الخاص وهرب. قال له ليتك صورت اللوحة. كنا على الأقل سنعرف أي جهة يتبع. هذا يعكس طمأنينة وثقة العائلة التي يعمل أحد أفرادها لإحدى الجماعات المسلحة في يمن المليشيات والفوضى.
كل تفاصيل الفيلم أسرتني ورمتني بعيداً في زنزانة الذكريات وموَاطن اللوعة. مشاهد لعب الأطفال، حكاياتهم، البلكون و"تشوه" الأخوات وتلويحات الجيران والشارع الضاج، سيجارة سائق الباص وطلب إحدى الراكبات أن يطفئ السيجارة. بعض السلوك بت أفتقده وممارسته هنا بمثابة جرم. كنت ألحظ وسط الظلام اندهاشه المشاهدين السويسريين أمامي وبجانبي. فهنا لا أحد يدخن في المواصلات العامة وحتى في الخاصة وفي المنازل إلا ما ندر.
صراخ الزوج "أحمد" في وجه زوجته "إسراء" ودفعه لها في الشارع وهي حامل ومتعبة، ومن ثم صمتها وبكائها واعتذاره اللاحق لها، وحتى مساعدتها له في محاولة إخفاء دموعه أمام الأطفال. الصديق السمسار والصديق الآخر الوفي الذي كان يقرض الزوج المتعب المال باستمرار. استرجعت هناك الورقة التعريفية التي كتبتها كاترين والتي عنونتها ب"كرامة رغم التعب".
شردت كثيرا وأنا أشاهد التفاصيل المنوعة. شباك الجهة التي تصرف رواتب الموظفين والتي لا تجيء. ملامح الناس المنتظرة وهي تكابد الصبر والمذلة. هموم الاخت المؤمنة التي تحب أختها وبالمقابل تخاف عليها وعلى صحتها وسمعة العائلة عندما تنتشر أحاديث الإجهاض.
الهموم الصغيرة في شخصية الزوجة والأم الطيبة والصبورة والتي مثلت دورها الرائعة عبير محمد. لقد أجادت عبير الدور حتى لكأنها كل أمهات اليمن اللواتي يحملن على أكتافهن هموم الكون ولكنهن يتمكن بجلادتهن وحكمتهن من النجاة في النهاية.
باختصار، كنت بحاجة لهكذا نزهة. كأني سافرت اليمن وعدت. كنت بحاجة لتلك الفوضى البصرية البديعة والتي أنتجت أجمل فوضى في البال.