يقول الكاتب المصري أنيس منصور، في كتابه "أعجب الرحلات في التاريخ": "فالطبيعي جدًا أن يسافر الإنسان.. أن يرحل.. أن يذهب بعيدًا عن بيته ووطنه.. ليرى ويعرف".
صحيح أن هناك فرقًا كبيرًا بين أن تسافر إلى خلف حدود بلدك، وتتجاوزها لاكتشاف أشياء كثيرة، وبين أن تسافر ضمن حدود بلدك، وتحديدًا التنقل إلى أماكن مسموح لك بوصولها أو تتناسب مع قدراتك، ولكن كلتا الحالتين من وجهة نظري مغامرة تستحق أيضًا تدوينها لتكون في الوقت نفسه ذكرى وتعريفًا بشكل آخر لأماكن ومواقع سياحية تتمتع بها اليمن. واليوم سأدون لكم رحلتنا التي كانت ضمن رحلة فريق المشي والتسلق "الهاش"، الخميس الماضي، 5 سبتمبر 2024.
الكبش والهاش
الكبش وما أدراكم ما الكبش! لقد كان بطل رحلتنا، فقد استغرق التجهيز لشرائه ما يقارب الأسبوع، كانت حالة استنفار بين الأعضاء، وأنا وسط هذا الاستنفار، كان كل همي رأس الكبش، تخيلته بالقصدير ملفوفًا، وأنا ألتهمه وحدي تحت شجرة كبيرة، والماء يجري بجانبي.
كان أعضاء الفريق لا يريدون أن يأتي يوم الخميس إلا وكل شيء على ما يرام، وعمل المعنيون بنشاط في تجميع مبالغ كل حسب قدرته.. مرات أيام ولا حديث لنا إلا عن بطل رحلتنا القادمة: مستر كبش بشحمه ولحمه.
جاء وقت الاستعداد المسائي للرحلة، وكالعادة جهزت حقيبتي الخاصة، وفي عمقها وضعت قربة الماء، والقبعة، وعصا التسلق، وجاكت مضادًا للمطر، وغيرها من الأشياء التي قد أحتاجها.
ومع صوت زقزقة العصافير الواقفة على أغصان شجرة تحتل من حديقة المدرسة التي بجوارنا مكانًا لها منذ سنوات، نهضت، حملت موبايلي بيدي، واخترت أغنية الفنان الراحل أبو بكر سالم "أمي اليمن"، وبينما أنا أجهز نفسي شعرت بغصة في حلقي، وأنا أسمع الأغنية، ولكن سرعان ما تلافيت ذلك، وركزت على استغلال الوقت من أجل الخروج حسب الوقت المحدد لي، والالتقاء ببقية الفريق.
وادي الحليلة
كنت متحمسة جدًا لزيارة مكان جديد، وعلى سيارة الكابتن عبدالرحمن الشرجبي، مع كتيبته المكونة من أبنائه وأبناء أخته، توجهنا إلى فرزة متنة، وهناك انتظرنا لبقية الفريق، وهذه المرة انضم الكثير من المشاركين الجدد، بينهم صديقتي عائشة وابنتها شهد وابنها أوس، لقد كانوا في غاية الحماس لخوض تجربة المشي الطويل والتسلق، جاؤوا مستعدين رغم تأخرهم على الوقت، وأقول لكم سرًا لا أتمنى أن تسمعه صديقتي، وهو أن مواعيدها كمواعيد عرقوب، لكني أعتقد أن فريق الهاش سيجعلها تحاسب نفسها على الوقت، وستكون دقيقة في مواعيدها الأيام القادمة.
بدأنا بالتحرك. كانت الطريق تحمل لنا نسمات الهواء النقية، وكانت السماء زرقاء لا تعوِّقها السُّحب العائمة.. وهناك مررنا بجوار بركة "سعيدة"، وسميت بهذا الاسم بحسب الرواية المنتشرة بين اليمنيين، نسبة إلى "سعيدة"، وهي امرأة من بيت ردم قيل إنها أشارت على قومها بحفر بركة للاحتفاظ بمياه الأمطار، والاستنفاع بها طول العام، ومن هنا جاء المثل اليمني المعروف: "لوما سعيدة لبيت ردم ما بقى ردمي"، وذلك في إشارة إلى أنه لولا مشورة سعيدة لكان أهل بيت ردم غادروا المنطقة بحثًا عن الماء.
بعد العبور من طريق بركة "سعيدة"، وعند الساعة التاسعة إلا سبع دقائق، وصلنا عبر طريق إسفلتية إلى منطقة الحليلة، وهناك ترجلنا جميعًا عن السيارات، وبدأت رحلتنا.. مررنا على أرض مفروشة بالعشب الأخضر، وعلى بعد مسافة قريبة، سمعنا صوت خرير المياه، اقتربنا من الماء الجاري أمامنا، وهناك كانت الشمس ترسل أشعتها الذهبية على الماء، مما جعله يلمع كأن قطعًا من الألماس متناثرة فيه.. في هذا المكان التقطت صورة جماعية لفريق الهاش المشارك، بالإضافة إلى "أحسن فريق" الذي شارك هذه المرة معنا، ومن تلك النقطة انطلقنا على طول الأرض العشبية التي كان يتوسطها مياه الأمطار الجارية في كل جانب.. كانت متعة بصرية رائعة ومغامرة جميلة ونحن نمشي على هذا العشب، ونقفز من على المياه.. نلقي السلام على الرعاة، ونلهو قليلًا بمياه المطر التي تجري بين الأعشاب، وتظهر كأنها خيوط من ذهب.
في تلك الباحة الخضراء، استمتع الفريق بذلك الجمال الرباني الذي يسلب القلوب والعقول، وهناك التقينا بامرأة كبيرة بالسن كانت تمسك بحبل، وتجر خلفها بقرة كبيرة ذات قرون مفزعة، عندما رآها الكابتن علي الدوه تقدم بخطوات إليها، وطلب من المرأة أن تناوله الحبل ليمسك ببقرتها، ويلتقط صورًا، وبينما هو يتقدم نحوها أنا أتراجع للوراء خوفًا من أي تصرف جنوني منها، خصوصًا وأنه أصبح لديَّ فوبيا من الأبقار، ومن على مسافة بعيدة رفعت كاميرا الموبايل لالتقاط الصورة، وإذا بي أرى المواجهة بدأت بينه وبين البقرة، ولولا ستر الله لصنعت هذه المتوحشة من الكابتن علي "كفتة" أو "كبة نية" على قولة إخواننا الشاميين.
أكملنا سيرنا حتى وصلنا إلى مكان ممتلئ بالحجارة والحصى، وهناك استراح الفريق البالغ عددهم 79 مشاركًا، بينهم أطفال كان أصغرهم عمر عبدالكريم الصباحي (5 سنوات)، وفي ذلك المكان ارتشفوا الماء، ثم أخذوا بعض الصور التذكارية.. بعد الانتهاء من وقت الاستراحة المحددة تحركنا جميعًا، وهناك وجدنا أمامنا "جحش" التف البعض حوله، وكانت أمه ترمقنا من بعيد متوجسة، وفجأة جرت بسرعة باتجاهنا وأبعدت الجميع عن صغيرها، ووقفت كأنها تقول هذا صغيري من يجرؤ على الاقتراب منه سأشبعه رفسًا.
بيت آدم
استمررنا في مشينا على طول الطريق بين المياه الجارية والصخور المتداخلة والأرض الخضراء، والسماء الزرقاء تحرسنا من الأعلى، وفجأة لاحظت وسط كل هذا الجمال أن صديقتي عائشة اختفت من جواري، في تلك اللحظات انتابني الخوف، وظننت أن أرضًا مشبعة بالماء ابتلعتها، وبدأت الوساوس تحوم في رأسي، كنت أبحث وأسأل عنها، ولحقتني ابنتها أيضًا تسأل، وبسبب خوفها على والدتها وأخيها هرولت مسرعة، ولم تهتم للأرض المشبعة بالماء ولا للصخور التي قد تسبب الانزلاق، ثم توقفت قليلًا، استمررت أنا في المشي والبحث عنها، أخبرني كابتن عبدالله الشرعبي بأنه رآها وهي على مسافة من مكان وقوفنا، ارتحت في تلك اللحظات، وأخبرت شهد بأن والدتها وأخاها بخير، ثم أكملنا طريقنا بهدوء نستمتع بجمال المكان وصوت خرير المياه، ونلتقط صورًا له، بعد بضع دقائق التقيت بعائشة وأخبرتها بأني لم أكن أتوقع أنها بتلك السرعة، حيث قطعت كل هذه المسافة بوقت قصير، ولكن كانت المفاجأة أنها حينما قطعتها لم تكن تشعر بها، ولكن كان كل الذي كانت تفكر به هو ابنها الذي اكتشفت أنه لم يكن موجودًا بجوارها، وهو ما جعل غريزة الأمومة تدفعها للسير بتلك السرعة دون اهتمام بخطورة المكان في حال عدم التركيز على الخطوات، لأن خطأ بسيطًا يمكن أن يحدث عاهة مستديمة.
ومن تلك النقطة أكملنا بقية رحلتنا الراجلة، وخلفنا شهد وغفران وبقية أعضاء الفريق، حتى وصلنا إلى شلال بيت آدم، وبسعادة الأطفال كان أوس يسبح مع بعض المشاركين، وفي منطقة مقابلة للشلال كانت الخضرة تزينها، جلس بعض الأعضاء، أما أنا فقد وجدت صخرة ذات ارتفاع بسيط، صعدت عليها، وجلست أتأمل المنظر من زاوية مرتفعة، والتقطت بعض الصور للمكان، وهناك وكالعادة ارتشفنا الشاي المحوج الذي يقدمه لنا الكابتن عبدالرحمن الشرجبي، والذي يعتبر من أكثر الأشياء المميزة في الرحلة، وينتظرها المشاركون بفارغ الصبر.. وبأكواب بلاستيكية تقاسمنا الشاي مع تحذيرات الكابتن عبدالرحمن بعدم رمي الأكواب على الأرض، احترامًا لنظافة البيئة، وهذا ما يطبقه أعضاء الفريق في كل الرحلات.
الغداء الموعود
انتهينا من الاستمتاع بذلك المنظر الطبيعي الرهيب، ومن تلك النقطة عدنا مجددًا باتجاه وادي الحليلة الذي كنا قد أتينا منه، والجميل في الأمر أن الطريق، وعلى الرغم من مرورنا منها، تشعرك كأنها أول مرة تمر منها.
استمررنا في مشينا، كنت أشعر بالخوف من الأراضي الرخوة، لأن فوبيا الغرق بالطين تسيطر دائمًا على تفكيري، وتصنع لي حاجزًا مرعبًا.. وكنا نأخذ قسطًا من الراحة أنا وصديقتي عائشة وابنتها شهد وأوس وغفران ومريم، بجوار الصخور المتناثرة في كل مكان تحت ظلال الأشجار، ثم نستأنف المشي، وعند ارتفاع صغير كان جزءًا من الطريق، وقفنا ننتظر شهد وأشعة الشمس تلفحنا، وعند وصولها تفاجأنا بضياع موبايلها، وبدأت حالة استنفار للبحث، ولم نجده، فتطوع محمد الشرجبي وشقيقها الصغير أوس للعودة إلى نفس المكان الذي مررنا منه، ولكن بعد مرور بضع دقائق اكتشفنا وجوده في حقيبة أمها، وحينها نادينا على محمد وأوس، وطلبنا عودتهما.
استأنفنا السير، وعند الوصول إلى النقطة لمحددة، وجدنا نصف الفريق بدأ الغداء، وكان الكابتن سعيد السروري والكابتن عبدالرحمن الشرجبي والكابتن عبدالله الشرعبي، هم من يتولون توزيع الغداء على المشاركين.. كانوا جميعهم في جهة وأنا وعايشة وأوس وشهد وغفران اخترنا مكانًا آخر في جهة مقابلة، وعلى بعد مسافة افترشنا الأرض، وضعنا حقائبنا بجوارنا، ثم جاءنا صحن به فتة وعلى الرغم أنَّي لا أحب الفتة، إلا أن رائحتها كانت في غاية الروعة، ثما لحقها صحن يوجد فيه الرز واللحم الملفوف في قصدير الذي اتضح فيما بعد انه لحم عجل وليس كبش ( لكن لا أخفيكم أني حققت أمنيتي في الأكل بمكان كهذا)، وعلى الرغم من جمال الغداء والمكان إلا انيَّ لازلت أتذكر رأس الكبش وكأنه فارس احلامي.
قرية وقش
بعدها كانت جلسة ما بعد الغداء لهضم الطعام، شربنا قليلًا من الشاي، ثم توجهنا إلى بائع الآيسكريم الذي كان يقف مع عربيته في الجهة المقابلة لنا، بعد الانتهاء من ذلك استعددنا للذهاب إلى قرية "وقش"، وهي إحدى قرى عزلة بني قيس بمديرية بني مطر التابعة لمحافظة صنعاء، وعند العودة بالذاكرة إلى الوراء فهذه القرية كانت محضنًا تعليميًا لفرقة "المطرفية"، الذين تعرضوا للإبادة، ودمرت بيوتهم ومراكزهم العلمية على يد "عبد الله بن حمزة الرسي" الذي كان يرفض تجويزهم الإمامة لغير آل البيت، واعتبروهم غرماء للإمامة.
المهم، دعوني أكمل سردي لرحلة "الهاش" إلى هذه المنطقة.. لقد وصلنا وأخيرًا إلى سد وقش، كان كبيرًا وواسعًا، وفي وسطه يمكنك المرور إلى الجهة الأخرى، حيث شاهدنا سحر الطبيعة هناك.. الأغنام منتشرة وبأعداد كبيرة، والأرض خضراء تروى من مياه الأمطار المتجمعة، في كل مكان، تجد المياه المتدفقة أشبه بشلالات صغيرة يمكن اللعب تحتها أو السير منها والاستمتاع ببرودة مياهها.. في ذلك المكان اجتمع كل شيء جميل، خرير جريان المياه وهي تتدفق بين الصخور، والأخرى التي تمر وسط الحقول من مناطق (ندان، والقبة، وبيت مراط)، وتصب في سد وقش، وكذلك خضرة المكان، وانتشار الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى روعة الجو.
انتهت رحلتنا هنا، وعدنا من حيث جئنا، تركنا خلفنا هذه الجنة، وعدنا إلى منازلنا بعد أن قطعنا مسافة 10 كيلومترات مشيًا على الأقدام.