ليس من السهل الحديث عن فضيلة القراءة في مجتمع يقدسها ككلمة، ولا يمارسها كفعل!
هذا التناقض يسحب نفسه على أشياءَ كثيرة في قلب المجتمع اليمني، ويزداد الأمر حدة عند التطرق لثقافة الطفل، وكل ما يتعلق بها من محتوى أدبي أو فني.
في ظل غيابٍ تام لمعارض الكتاب منذ الحرب الأخيرة، ومحدودية فعاليات القراءة، وتضاؤل حصصها في المدراس الخاصة، وشبه انعدامها في المدارس الحكومية، فضلاً عن عدم توفر إحصاءات منشورة عن الكتب الموجهة للطفل- تصبح الكتابة عن قيمة القراءة في المجتمع اليمني ضربًا من العبث.
في العام 2021 تقدمتُ للمشاركة كمتحدثة في فعالية «تيدكس صنعاء»، واخترت أن يكون موضوع حديثي عن الاهتمام بالقراءة والكتابة للطفل.
وتحت عنوان «لا أحدَ يكتبُ لهم!» عرضت أفكاري للجمهور، يحدوني أملٌ جميل بتحريك راكد، وتقديم موضوع مختلف عما يُقدَّم عادةً في منصات ريادة الأعمال.
حرصت على تقديم فكرة القراءة، ليس من واقع قيمتها وأهميتها كأسلوب لتنمية الإدراك والتفكير الناقد فحسب، بل بصفتها لغة حب مكتملة الأركان.
قدمت لسنوات حصص قراءة طوعية للأطفال، وتضاعف نشاطي في العام 2015؛ بسبب توقف المدارس عن العمل نتيجة القصف.
ابتكرت شخصية اسميتها «الجدة محزوية»، من خلالها كنت أقدم الحكايات للأطفال من فئات عمرية مختلفة.
كانت الجدة ترتدي رداءً تقليدًا، ونظارات سميكة الغلاف، وتضع الزهور والريحان بجوار خدها، شأنها شأن جداتنا في ماضي الأيام.
كانت تلك الساعات التي أقضيها مع الأطفال ذات أهمية وقيمة بالنسبة لي؛ لأن طاقة الحب الصادرة منهم كانت تغمرني، وكانت هذه التجربة سببًا في أن أُكوِّن فكرة جديدة عن القراءة ترتبط بلغات الحب عندهم.
من وحي هذه الخبرة والتجربة انطلقت في تقديم موضوعي في الفعالية، وكانت الفرصة مواتية، لا سيما وأن عدد الحاضرين لا يقل عن 400 شخص، كما أن الفيديو المسجل من المفترض أن يصل إلى عدد كبير من المشاهدين.
لقد بذل طاقم الإعداد جهدًا رائعًا للتحضير للفعالية بحبٍ وصبر ٍبالغين، لتطل بصورتها النهائية بهيةً ومشرقةً، لكن -للأسف- منعت الفيديوهات من النشر، وكأنها خطيئة! وتلاشى الأمل الكبير في توصيل رسالة تتعلق بأقدس مفردة (القراءة).
لم تكن رهبة الحديث أمام جمهور عريض هي ما يقلقني، ما كان يقلقني حقًا هو مدى قبول واستيعاب الجمهور لما أقدمه دون أن يساورهم الملل، أو يخامرهم الضجر.
خطر لي ذلك اليوم فكرةَ أن أوظِّف شخصية «الجدة محزوية» كنموذج للحكي، بعد أن أقوم بتحويل الموضوع إلى قصة ذات حبكة بسيطة ومشوقة.
عندما دلفت إلى المسرح سرى شيء من الدفء لأطرافي التي كادت تتجمد، وانسابت الكلمات بسلاسة ويسر غير متوقعين.
تناولت فكرة العلاقة بين القراءة، ولغات الحب الخمس عند الأطفال، مستفيدةً من كتاب «لغات الحب الخمس»، لمؤلفه غاري شابمان.
خلاصة هذا الكتاب أنه ينبغي أن نقدم خمس لغات حب لأطفالنا؛ لنملأ خزَّان المحبة لديهم، وعلينا أثناء ذلك أن نكتشف ماهي أهم لغة تخاطب الطفل وتحفزه؟ ثم نعطيها حجم أكبر من لغات الحب الأخرى.
لغات الحب التي تناولها شابمان في كتابه خمس لغات للسعادة، وهي: كلمات الإطراء والمديح، تقديم الهدايا، قضاء وقت قيم معهم، التلامس الجسدي، التعاون وتقديم الخدمات.
كل واحدة من هذه اللغات هي رسالة حب تملأ خزان الحب لدى الطفل، وتنمي ثقته بذاته، وشعوره بالأمان.
قد يتبادر إلى أذهانكم هذا السؤال: ما علاقة لغات المحبة الخمس بالقراءة؟
لقد تبين لي -خلال تلك الفترة التي تركَّز فيها عملي على قراءة القصص للأطفال في المكتبة والبيت- أن هناك علاقةً وثيقة جدًا بينهما. ولتقريب الصورة، دعوني أطلب منكم تخيل هذا المشهد معي:
قام أحد الآباء بشراء قصة جميلة ملونة لابنته، وقدمها كهدية لها، وقبل أن تخلد صغيرته للنوم، شَرعَ يقرأ لها القصة، وهو يربت على شعرها بين الحين والآخر، ويرد على أسئلتها. قد يتوقف لِبُرهة؛ ليشرح لها كلمة استغلق معناها عليها. يثني على ذكائها، ويكيل لها كلمات الإعجاب والمديح، حتى نهاية القصة، ويتغلب النوم على طفلته.
في رأيكم كم لغة حب قدم لها والدها في هذا المشهد؟ إنها خمس لغات حب قدمهما هذا الأب لابنته؛ فقد:
· اشترى لها كتابًا (لغة الهدايا).
· قرأ لها قصةً (لغة الوقت القيم).
· قام بإزجاء الثناء لها (لغة المديح).
· ربت على رأسها بمحبة (لغة التلامس الجسدي).
· وشرح لها ما غمض وصعب عليها من معاني لم تهتد لها. (لغة تقديم الخدمات).
لقد قال لها بشكل عملي، وعبر لها بأنه يحبها بكل لغات الحب. ليس هذا فحسب، بل إنه عزز لديها مهارات الإدارك، والفهم، والتركيز البصري، والسمعي.
القراءة طاقة عظيمة، وفضيلة خلاقة، وتستحق أن تكون الكلمة المقدسة الأولى في أوطاننا، أفلا يستحق أطفالنا بعد هذا أن نختار لهم كتبًا جيدة، ونقدمها لهم بكل لغات الحب؟!