بعد انقطاع لـ13 عامًا، وصلت قريتي المحاذية لمدينة التربة بمحافظة تعز اليمنية (256كم جنوبي صنعاء العاصمة)، بعد مشقة الطريق الوعر في أجزاء منه.. وفي اليوم التالي، ووسط الخضرة المتناثرة على الجبال والوديان التي تلوح "كباقي الوشم في ظاهر اليدِ"، ومع وفرة الهواء، شعرت بكثير من الأريحية والامتلاء، لتستمر مشاعر الغبطة والزهو أيامًا قلائل، حتى وصلني الخبر الصاعقة الذي دفعني للعودة إلى صنعاء مكلومًا حزينًا، تاركًا خلفي أسرتي الصغيرة.
الماء يغلي في صنعاء عند 70 درجة مئوية، بسبب قِصَر عمود الهواء، الناتج عن ارتفاعها الشاهق عن مستوى البحر، ولقلة ما تتوافر عليه من الأكسجين، غالبًا ما يشعر المرء بكتمة وضيق في النفس، وهو ما دفعني للذهاب إلى قريتي بعد انقطاع طويل، في زيارة أردتها طويلة وممتعة، وشاء القدر أن تكون خاطفة وحزينة.. فقد اضطررت للعودة بعد خمسة أيام إلى صنعاء، فور وصول نبأ الوفاة المفاجئة للابن الوحيد لأخي الأكبر، جراء انقلاب سيارته التي يقودها.
الاستحداثات الجديدة في المنطقة وما تشهده من فوضى وانفلات أمني واجتماعي، ضاعفت هي الأخرى من مرارة الرحلة، فالتوسع العشوائي في البناء والعمران في مدينة التربة وما جاورها من قرى، والذي أتى على ما تحوزه من أراضٍ زراعية، والتحولات الاجتماعية المتسارعة، جعلت الناس هناك يعيشون في "المنطقة الرمادية"؛ فلا هم حافظوا على أخلاق القرية وقيم المحبة والتسامح والتعاون، ولا استطاعوا التحول إلى اشتراطات المدنية الصارمة والحازمة.. لتستحيل المدينة والمنطقة إلى كيان أجوف مرعب بلا قلب ولا روح.
الانفلات الأمني والإهمال، هما السائدان في هذه المدينة وما حولها من مناطق بائسة، وظاهرهما الماثل: كثرة النزاعات على الأراضي، وغلبة منطق البقاء للأقوى، وانتشار المظاهر المسلحة وجرائم القتل والسرقة، وغياب أي ملمح للنظافة، وعشوائية الأسواق، فضلًا عن انعدام مظاهر التنظيم في المدينة التي صارت مزدحمة بالسكان، وتحولت شوارعها إلى كومة أتربة ونفايات، كنتاج بائس للتسيب والإهمال لمجلسها المحلي ومدير مديريتها المثير للجدل، والذي يبدو غارقًا في العسل، وكأن مشكلات المواطنين وما تعيشه من إهمال وفوضى وانفلات أمني، لا تعنيه.
هذه المنطقة أنجبت خيرة رجال اليمن في السياسة والاقتصاد والعلم والثقافة، وهي بموروثها الثقافي والاجتماعي ومقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، جديرة بالالتفات إليها من قِبَل السلطة الحاكمة للبلد ورأس الهرم فيها، والذي ينتمي هو ذاته لهذه المنطقة، ما يتعين عليه اختيار أقدر الكفاءات لإدارتها، لا أن ندفن رؤوسنا كالنعامة، ونغض الطرف عما تشهده من فوضى وانفلات وعشوائية.