عبدالقادر سعيد الذي لم يُنصف
* حالة نضالية نادرة, تشبه أعنية جميلة تقض مضاجع أصحاب القلوب الخشنة..
* بدأبه الحلمي الباهر صاغ اختلافه تأسيساً لمرحلة النهضة التي كان يتمناها فيما أوجاع تغريبته جاءت فوق الاحتمال
* جار الله عمر كان الأكثر نضجاً وتطوراً منا جميعاً. دماج : امتاز ببداهته العقلانية والعاطفية التي كالبرق. طاهر: انه جزء أصيل من الضمير والوجدان الوطني
* بشجاعة ظل يحذر من الطائفية لأنها لا تخدم أهداف الجمهورية الناشئة, كما ظل واعياً لأبعاد الصراع الطبقي, بل ومعتبراً أن مرحلة التطور في أي شعب رعوي عشائري, شاقة للغاية
فتحي أبو النصر
له صولات وجولات في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة، ويكاد يكون المرجعية الأخلاقية الفائقة لكل رفقائه في العمل السياسي -ستينيات وسبعينيات القرن الفائت.
كانت روحه الفروسية دليلاً إلى ما يجب أن يكون، ويتفق مريدوه على أنه من أفضل النماذج التي أنتجتها هذه الحركة كمشروع وطني في ذهن مناضل عتيد؛ ما جعله واحداً من أهم رجالات الفكر السياسي الذين عرفتهم اليمن، وهو نتاج الانصهار القومي الاشتراكي الأسمى وطنيا.
مواليد مطلع الأربعينيات الذي انتمى مبكرا إلى أولى الخلايا التي شكلت حركة القوميين العرب في اليمن، كما ساهم على نحو بارز بتأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني ككيان سياسي تقدمي في واقع متخلف يجلب الإحباط وأكثر.
يعتبر الحزب الديمقراطي من أهم وأوسع الكيانات الحزبية اليمنية التي خرجت من كنف حركة القوميين العرب في اليمن، وذلك الى جانب الجبهة القومية لتحرير الجنوب المحتل، فيما كانت هذه الحركة وراء إنشائها أيضاً.
كثيرون تأثروا بألق عبدالقادر سعيد الذي جاء إلى عدن -حيث يعمل والده- من إحدى قرى عزلة الأغابرة والأعروق في الشمال، ليعيش هناك فترة الدراسة والتكوين المعرفي، ثم بعد 62 عاد إلى تعز حيث كان من أبرز المهمومين سياسيا وثقافيا واجتماعيا بمصير الثورة والوطن، كما ظل التثقيف الذاتي همه الأول، يحث الآخرين عليه، والمصداقية رأسماله الشخصي في ممارسته للسياسة كإنسان "لا تعرف أحلامه الرائعة أي حدود".
في تلك الفترة، كان الرجل من بين قليل مناضلين بمثابة نقطة الالتقاء الروحي بين الجنوب والشمال، أو يمكن تشبيهه بالمهموم الوحدوي خالص النبل وطنيا، فإضافة إلى أنه حشد للانضمام للحرس الوطني من أجل الدفاع عن سبتمبر، كان من المساهمين الأوائل في انفجار ثورة أكتوبر.
لعل عام 63 كان حافلا للغاية في حياته السريعة، إذ كانت كتاباته الفكرية تهز الوجدان، وتجعله متفردا بكونه واحدا من أهم دعاة التسامح السياسي ورجل التحالفات الوطنية بامتياز. ولأن قضيته كانت كبيرة، ومنطقه الواعي كان حضارياً ومعتدلاً في مواجهة بنى التخلف وتعقيدات الواقع وأزماته، فقد كان بنقاوة نضالية عالية، كما كان ضد السياسة التي بلا معايير سوى الاستحواذ والفتك والحس الشمولي الغاشم.
في المجال الصحفي، تولى مسؤولية سكرتارية صحيفة "الثورة" لفترة، كما أدار صحيفة "سبأ"، وفي المجال النقابي قام بتأسيس الاتحاد العمالي، بعد أن جعل من الحركات العمالية المتفرقة كيانا موحدا. كذلك في نفس الفترة ساهم بتأسيس المؤتمر الشعبي كأول حزب معلن في الشمال، قبل أن تقوم السلطات بحظره تحت مبرر منع الحزبية، ثم مع إعلان قيام الجبهة القومية لتحرير الجنوب، كان عبدالقادر سعيد أحد أرفع قيادييها المؤسسين.
آنذاك كانت مدينة تعز خيط الوصل بين الشمال والجنوب، كما كانت معقلا للحركات الوطنية، وللأفكار الحديثة للتحرر والتمدن والتقدم: وقتها ساهم عبدالقادر سعيد في تأسيس نادي الشباب الثقافي الذي كان مصنعا للجيل الوطني الجديد، لكن حكومة انقلاب 5 نوفمبر أمرت بإغلاقه –على نحو غاشم- بمجرد تعرشها على السلطة.
امتاز الحركيون اليمنيون عموماً –مثل بقية الحركيين القوميين في البلدان العربية الأخرى- بالتثقيف الفكري، والقدرة المشهودة للتوسع والاستقطاب، إضافة إلى دعم وقيادة ومساندة جماهير بلدهم في معارك كفاحاتها التحررية بشكل عضوي لافت. ولقد عُد عبدالقادر سعيد الذي كان يفكر بطريقة "وماذا بعد؟"، واحدا من الذين وقفوا مع عملية التحول الفكري القومي نحو اليسار -لحظة انطواء مرحلة في عمل ونضال حركة القوميين العرب- وفك الارتباط التنظيمي اليمني مع مركز قيادتها في بيروت، خصوصاً مع الوعي الموضوعي الذي طرأ بأهمية المسألة الطبقية في اعتبارات النضال والانتماء لقضية العدالة الاجتماعية، كما لضروة توثيق نضالات الحركيين بالاعتبارات الوطنية بشكل خاص. وبما أن لحظة العالم هي للانعطاف الاشتراكي الحاد، وللبناء الديمقراطي أيضاً، كان تأسيس الحزب الديمقراطي الثوري اليمني من معظم الحركيين العام 68: شيئاً فشيئاً انتشرت فروع هذا الحزب الواعد شمالا وجنوبا حتى كان من الفصائل القليلة لتي لها فروع خارج اليمن أيضا من الطلاب والمغتربين الوطنيين، رغم ظروف العمل السري الرهيبة، وتأثير الدعاية السامة لليسار بذات.
عقب ذاك، كانت ثورة سبتمبر قد مرت بمآسٍ موحشة ومعقدة، إضافة إلى أن السعودية ظلت تمارس هوايتها المفضلة في مواصلة الصيد في المياه اليمنية العكرة عبر قواها التقليدية في اليمن،ولقد احتاج أبو سند (الاسم التنظيمي لعبدالقادر سعيد) معجزة كي يبقى على قيد الحياة قليلاً، فلقد كانت الاعتقالات على أشدها والتصفيات قائمة بجنون، غير أن الأوضاع سرعان ما تفجرت في صنعاء ومن ثم في بقية المدن الرئيسية، وراح ضحيتها العشرات والمئات للأسف، إن لم يكن الآلاف، ما بين قتيل ومعتقل ومفقود ومعذب ومشرد "بتهمة الحزبية".
بشجاعة ظل عبدالقادر سعيد يحذر من الطائفية لأنها لا تخدم أهداف الجمهورية الناشئة، كما ظل واعيا لأبعاد الصراع الطبقي، بل ومعتبرا أن رحلة التطور في أي شعب رعوي عشائري، شاقة للغاية. ومع إيمانه الكبير بالطاقة الوطنية للانسان اليمني المهدور في ظل واقع التجزئة القائم والخطر الكبير على الثورة، كان أحد أهم المؤثرين المدنيين في حركة المقاومة الوطنية التي تشكلت مع احتدام حرب الملكيين والجمهوريين، فيما كان صارماً يشدد على التفاصيل تنظيمياً، وله آمال بدور فائق لليمن في المنطقة، كما تميز بالنفس الطويل والرحابة والقدرة على الاستشراف والامل والتجاوز.
يقول عنه الأستاذ عبدالباري طاهر: إنه جزء أصيل من الضمير والوجدان الوطني. ويجمع كل من عرفوه على أنه رجل المهمات الاستثنائية بامتياز، في حين أن حضوره الفريد بين أوساط العمال والمثقفين والطلاب والتجار والعسكر والوجهاء ساهم كثيرا في انتشار شعبية الحزب الديمقراطي ووفرة المنتمين النوعيين إلى صفوفه.
بحسب شهادة للأستاذ أحمد قاسم دماج أحد أخلص رفقائه في محطات كثيرة: كان عبدالقادر سعيد حيويا وعميقا، ومثقفاً من طراز نادر، كما تمتاز مهارته بالتوازن الهادف والنقد الذاتي والاحتواء، وتلك البديهة العقلانية والعاطفية التي كالبرق.
عاش ابن المصور البسيط سعيد أحمد طاهر أحد مناضلي حركة 48، أشد بأسا وصلابة ونضوجا، فيما شخصيته الوفاقية وروحه التواقة للتنوير، جعلته يتصف بكونه كان مقنعاً على نحو آخاذ لعديد أطراف في الحركة الوطنية، وصاحب حضور متسق في التفكير والممارسة أيضاً، كما تفرد باعتباره عارم الألق في صفوف حزبه، إذ كان بجدارة، وهو القائد الشاب، على رأس زعماء الحزب الديمقراطي الذين جعلوه كياناً نوعياً على أكثر من صعيد، متميزاً باحتوائه لكوادر هامة سياسياً وثقافياً ونقابياً وعسكرياً واجتماعياً، وتحديداً لأكثر عناصر الحركة الوطنية حساً وإيثاراً وشغفاً بمسألة الوحدة الوطنية خلال تلك الفترة.
واضحٌ أن الرجل كان ملهماً لرفاقه تماماً، إذ تعامل معهم بروح خلاقة بلا شوائب تذكر، كما كان مهموماً بالمسألة التنظيمية، ولم يكن تكوينه النفسي إلا زاهداً بالمقابل، ولذلك رفض عدة مناصب رفيعة عُرضت له من صنعاء وعدن، ومقترحاً لها رفاقاً آخرين.
ولقد مثل الانفتاح النابه فضيلة من فضائل عبدالقادر سعيد في العمل الوطني، إذ كان على صلة وثيقة باتحاد الأدباء والكتاب مثلاً، كما كان على صلة محترمة بقيادات في تنظيم الضباط الأحرار، وأيضاً بالإخوان المسلمين، رغم أن هؤلاء رفضوا دعواته الحوارية المتكررة إلى لم الشمل السياسي على أسس وطنية في فترات كثيرة. وأيضاً كانت صلته طيبة بالبعثيين والناصريين، ومن كانوا في اتحاد الشعب الديمقراطي، وحتى قيادات في اتحاد القوى الشعبية كانت تكن له خالص الود نظراً لتفوقه في المبدئية الوطنية ذات البعد الثاقب، ولما تميز به تحليله الشخصي من الحكمة الفريدة.
المؤلم أنه اتهم بالرجعية من قبل عدد من الرفاق، حيث كان فكريا ضد العنف، فهو اليساري بلا تهور، ولذا وقف ضد من كانوا يريدون أن يكون الحزب الديمقراطي حزبا ثوريا صارما في مسألة الكفاح المسلح، كما وقف ضد الاستيلاء على السلطة في صنعاء بالقوة عن طريق الجبهة الوطنية في المناطق الوسطى، ولعل موافقة الغالبية من الرفاق على تأسيس هذه الجبهة هي أقسى اختبار يتعرض له الرجل. تلك الحماسة كما توقع آلت للفشل الذريع، كما خلفت آثارها التاريخية والمعنوية الفادحة، وفي هذا الصدد ثمة شهادة بالغة المعنى للفقيد الكبير جار الله عمر أحد قادة الجبهة حينها -أعلنها قبل وفاته للزميل صادق ناشر بعد أن توصل إلى أهمية وضرورة أن يكون الحوار والنضال السلمي هو العقيدة السياسية المثلى والأنجع- مفادها أن عبدالقادر سعيد "كان هو الأكثر نضجا وتطورا منا جميعاً".
يشهد الجميع لعبدالقادر سعيد بالطبع أنه لم يكن حينها طرفا في صراعات الرفاق في عدن كذلك، إذ كانت روحه تتأثر حزناً لما يجري، فلقد كان تفكيره الدائم منصباً في كيفية إنقاذ الذات اليمنية من التدهور الوطني الحاصل والرقي بها وحدوياً وإنسانيا، بينما كان يهدف في كل ممارساته إلى تكوين موقف سياسي متين لمختلف القوى على الساحة وفقاً لقاعدته الأساس في السياسة والفكر: "تنمية الحس الوطني المبدع والمسؤولـ".
بذلك كان الرجل ذا خصوصية خاصة لمثاليته، وحرارة صدقه مع الذات والآخر، إذ لم يستسغ أبداً الفاشيات الثورية أو الدينية أو العصبوية، كما ظل موضوعياً في رصده للتباينات والفجوات بعين غير مأزومة داومت على ترميم الخرابات برجاحة لا تهدأ. والشاهد أنه ملك التقدير كله، معتدا بذاته كما ينبغي، فيما يكفيه أنه بممارساته السياسية والاجتماعية النظيفة والمستقبلية، أضاف قيمة أخلاقية وحيوية ستبقى خالدة في تاريخ الحركة الوطنية والحزبية في اليمن.
صاغ عبدالقادر سعيد اختلافه هذا بدأبه الحلمي الباهر -تأسيساً لمرحلة النهضة التي كان يتمناها– فيما أوجاع تغريبته جاءت فوق كل الاحتمال، قبل أن يدفع روحه مؤمناً بخياره الوطني المقدس، كافراً بكل الذين دخلوا حظيرة المرضى المتواطئين الذين كانوا يفضلون الانتماء إلى مربعاتهم العصبوية الأولى، للأسف، بدلاً من الانتماء السليم للأفق الوطني المفتوح.
منتصف السبعينيات رحل في مستشفى جبلة بإب، بعد أن قضى لفترة معتقلاً في تعز، وتعرضه للتعذيب الرهيب. ولأنه كان مع تطلعات الشعب، وضد المشاريع الصغيرة، وحتى لا تفقد ثورة سبتمبر مضمونها الاجتماعي الذي ما زال ضائعاً حتى الآن، وصل عبدالقادر سعيد إلى أن يكون في مواجهة حقد الأوغاد كل لحظة، خصوصاً وأن عدوانية الذين أرادوا تجيير الثورة والالتفاف عليها كانت تتفاقم على نحو مخيف ورذيل وبشع.
غير أنه الرجل الذي كان يضيف قيمة ملفتة داخل النسق الوطني العام -الطري بعد الثورتين- بسلوكه الوطني المتجذر والصلب، كما ظل يمثل جيله الشاب الطامح لمعافاة الوطن، مفضلاً الاقتحام والمواجهة لفضح كل التزويرات والمغالطات التي تمت على حساب الأمل المرجو منهما، خصوصاً مع تهميش وإقصاء وإخماد المناضلين الحقيقيين، أصحاب الرؤية والكفاءة والدافع الوطني والموقف السياسي الجاد والنزيه.
ظل عبدالقادر سعيد حتى أيامه الأخيرة مع الصف الذي لم يفرط بالقيم الجمهورية أبدا، تائقاً للحرية وللعدالة وللكرامة، كما للسوية الوطنية الفعالة، على الضد تماماً من كائنات الريال الأخضر، أو المغامرين السياسيين، أو كائنات العصبية المناطقية أو المذهبية.
هذا الراحل الكبير الذي دفن جثمانه بمدينة تعز في جنازة بدت كأنها مظاهرة عن حق المواطنة ومواجهة أشباح الظلام بعدم اليأس، ومعنى أن يكون الوطن للجميع، أقيمت له حينها جنازة رمزية مهيبة في مدينة عدن، شهدت مشاركة شعبية واسعة. كما تدفق الرفاق بالمئات من صنعاء وبقية مدن اليمن، لتقديم واجب العزاء، كاشفين جباههم التي لا تنحني للمخبرين، في تحدٍّ ساطع انتصرت فيه جذوة الشرف وعزيمة الرفض للاستلاب.
بالتأكيد، فإن اسمه العابر في صفحات التاريخ الوطني الحديث، سيبقى مضيئا على الدوام، وبانتظار الإنصاف اللائق، بصفته درساً وطنياً خلاباً وراسخاً بالمغايرة والمراس الصعب وقيم الأصالة والتجدد معاً، كما باعتباره حالة نضالية نادرة، تشبه أغنية جميلة تقض مضاجع أصحاب القلوب الخشنة، فيما يصعب على التاريخ إغفالها أو التعالي عنها، رغم أن منطق اليوم هو لتجليات الوجه الآخر للاستبداد وللاستغلال باسم الثورتين، حيث مشهد النشاز الذي تفوق –وما زال يتفوق- بالانتهازيين والسطحيين وكبار المحترفين من المنتفعين وقتلة الأحلام المشروعة الذين وقف عبدالقادر سعيد ضدهم، أولئك الذين أخلوا بقيم الجمهوريتين، فصاروا أبطالاً لمناخات البؤس الحاضرة ولعدم الوئام الوطني، كما جعلوا شخصية اليمنيين في الحضيض، بل ويكادون تماماً أن يدمروا ما تبقى من الذاكرة الوطنية المشرفة، وبما يمكن أن نزهو به من التاريخ.
عبدالقادر سعيد الذي لم يُنصف
2010-10-26