أجندة مُغيّبة..
* سامي نعمان
حتى اللحظة لم يصدر عن أي من المسؤولين اليمنيين إجابة شافية للضربة الجوية التي قتلت الأمين العام لمحلي محافظة مأرب، نائب المحافظ جابر الشبواني، وهو منتخب قبل أبناء المحافظة، عدا حديث الرئيس عن خطأ وخيانة غير مكتملة التفاصيل.
بدرجة رئيسية يعول المعنيون بالأمر على عامل الوقت لتمييع القضية وامتصاص الغضب وإرهاق المد القبلي الغاضب الذي أحدث ردة فعل متوقعة بكل الحسابات.. كذا برز الغياب الفعلي للدولة بشكل أشبه بالشعور بالذنب، إذ أسفت على مقتل المسؤول المحلي عن طريق الخطأ، وبدلاً من تلبية المطالب المشروعة لأهالي القتيل، وهم هنا أبناء محافظة بأسرها، بالكشف عن خبايا العملية، عززت حظ الدولة بعرف القبيلة، وسلمت آل الشبواني تحكيماً عينياً.. لا بأس في ذلك، وسنبرر هذه المرة للدولة عرف القبيلة بسعيها لتخفيف الاحتقان وحفظ المصالح، وليس من العقلانية حضور الدولة بالقوة في عزاء قوم لم يألفوا حضور الدولة بمعانيها بشكل طبيعي.
الرئيس عزا الأمر إلى خيانة واضحة من وادي عبيدة.. قد يكون هذا صحيحاً، لكن قضية (من خان من؟) تعني مسؤولي التحقيق بالدرجة الأولى.. بالنسبة لأولياء دم الشبواني، قد تعنيهم التفاصيل بعض الشيء، لكن السؤال المحوري سيظل قائماً: من قتل الشبواني؟ ولا شيء سيلهيهم عن معرفة الإجابة.
بيد أن القيمة المعنوية لعزاء الرئيس واستقباله أهالي القتيل، ربما تبعث بالثقة لبرهة بجدية التحقيق، وقبول الانتظار، وحفظ المصالح لبعض الوقت، لكنها قطعاً لن تكون كفيلة بإقناعهم بنتائج أي تحقيقات سطحية، لا ترقى إلى تطلعاتهم في الإجابة المنتظرة للسؤال بكل تفاصيله.
وسواءً كان منفذ العملية طيراناً يمنياً بدائياً بقيادة كائن بشري، أم أمريكياً موجهاً عن بعد، بتنسيق أو بدونه، فإن النتيجة لا تعفي الدولة من مسؤوليتها الكاملة في ذلك.. ومع كل احتمال وارد في العملية، تتحمل السلطة مسؤولية أكبر في وزرها، خصوصاً أن الأمر يتعلق بالسيادة ديدن المسؤولين عند أي حديث عن حوار برعاية دولية، وليس قصف أجنبي لمواطنين أبرياء.
وقبل الحديث عن أي حق لأولياء الدم، على أهميته، فإن العملية كانت استهدافاً واغتيالاً مباشراً للدولة، بحضورها الشكلي في منطقة قبلية يقطنها قوم أولو قوة وبأس، يرونها –أي الدولة- قبيلة متسلطة على المراعي والمغانم لا أكثر.. وطوال عقود من الرقص على رؤوس الثعابين، لم تبذل الدولة جهوداً ذات معنى تغير -أو تقنعهم بتغيير- تلك النظرة وتُعلي بها الولاء لها أكثر من الولاء للقبيلة والمنطقة والأسرة والمذهب، ليس هنا فحسب، بل ينسحب ذلك على كثير من الأطراف وجوار الأطراف، وهذه الرقعة بدأت تتسع أكثر باتجاه المراكز المختلفة، وينطبق عليها تراجع معنى الدولة في المناطق المدنية، فالحضور المُدّعى بمبانٍ صحية وتعليمية وأمنية وحكومية فارغة ومناصب استرضائية، ليس كافياً للحديث عن حضور هذا الغائب.. بل يُثبتُ وجوده بالتنمية البشرية وفرض دولة النظام والقانون وسحب نفوذ وأعراف القبيلة مقابل تسلل قيم الدولة بمعانيها الحقيقية لا الشكلية.. تبقى هذه الأمور أجندة غائبة.. أو مُغيّبة.
وسواء طال الأمر أم قصر بحسابات المستفيدين، فإن الجميع يتجرعون مرارة التبعات، وإن كان أبناء المناطق الذين يغيب معنى الدولة –حتى الشكلي- هم أكثر المتضررين من ذلك.
وعودة إلى حادثة مقتل الشبواني، التي ربما يَعِي المسؤولون أن حلها لن يكون على طريقة معالجة النزعات والمشاعر الانفصالية ببناء أكبر علم في عدن يدخلنا موسوعة غينيس.
قدر وزير الكهرباء عوض السقطري عن الخسائر المالية التي تتكبدها الحكومة جراء إعطاب المحطات، ب100 مليون ريال يومياً، وكان الأجمل في تصريحه أن قال إن حجم المعاناة التي يتكبدها الناس، خصوصاً في المناطق الحارة، لا تقدر بثمن.. كنا ننتظر تصريحاً حكوميا أكثر تألقاً بالحديث عن الأسباب المؤدية لسلوك انتقامي يضر بمصالح البلاد عامة بمن فيهم المتسببون في تلك الأضرار، وعن نية حكومية في النظر فيها ومعالجتها.
إن المشكلة –كغيرها من مشاكل البلاد- تتعلق بالدستور والقانون الذي ينظم طريقة إدارة البلاد، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين ذات المحكومين. طبعاً ليست به لذاته رغم مآخذ على نصوص دستورية وبعض القوانين، بل في طريقة إنفاذهما من قبل الجهات المعنية بذلك، والتي تتسم في الغالب بضعف الآلية، والمزاجية، وعدم الاستقلالية، والانتقائية.
فحتى إن كانت العملية -الخطأ– التي أودت بالشبواني، قد أصابت هدفاً آخر مطلوباً محلياً أو إقليمياً أو دولياً، فإنها تبقى –بمعايير القوانين المحلية والدولية لحقوق الإنسان- عملية قتل خارج القانون تستوجب المساءلة، خصوصاً إذا قتل المطلوب في عملية خلت من اشتباك مسلح، فكيف إذا كان حظ العملية من النجاح يكاد يكون صفرياً إذا أُخِذ في الاعتبار عدم وقوع أخطاء وضحايا من الأبرياء.
ليس مقبولاً من المعنيين بالحفاظ على حياة الناس، أن يرتكبوا جرماً أكبر بإزهاق حياة الأبرياء، في سبيل تسجيل انتصار لحظي غير قانوني بقتل مطلوبين في قائمة الأمن، دون توفر أدنى مسوغات الاعتقال، ناهيك عن القتل.
منذ مطلع العام نُفّذت العديد من الضربات الجوية المبهمة، ضد مواقع يُعتقد باحتوائها على مطلوبين، دون أدنى اعتبار لعدم قانونية الضربات، ودون حساب على أرواح الأبرياء، وشهدنا قبل بضعة أشهر ضربة جوية بشعة استهدفت بضعة مطلوبين في منطقة المعجلة بأبين، لكنها أودت بعشرات النساء والأطفال.. وبهدوء تماهت الجريمة دون أن تكلف الحكومة توضيحاً منطقياً أو اعتذاراً رصيناً للضربة، وكأنه كان كافياً الأسف على الخطأ الذي رافق تلك العمليات مسبباً سقوط العشرات قتلى وجرحى. مع وعود بلا معنى بتعويض أسر الضحايا فقط، وكأن الأمر متعلق بكارثة طبيعية.
تلك اللغة ليست مجدية في مأرب.. فهم يخاطبون الدولة باللغة التي يعتقدون أنها تفهمها في وقت هي أحوج ما تكون لتلافي اتساع مساحة العداء، وتعزيز حظوظ الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي.. لكن يبدو أن هناك من سمح للفيل بدخول محل الخزف، وسيكون من الصعوبة بمكان أن ترمم مخلفاته.
يبدو أن الرئيس أدرك فعليا فداحة الخطأ الذي أضر بالدولة قبل غيرها، وأظهر التزاماً للملمة تبعاته.. لكن ما يدور في مأرب هذه الأيام من مواجهات توحي أن الدرس لم يُستوعب بعد، وأن الأخطاء لا تزال تتكرر براً.. لكن القضية ليست بحاجة إلى قبضة أمنية وعسكرية وحملات تأديب وجولات تحكيم، بقدر ما هي بحاجة إلى الشفافية والقدرة على تحمل المسؤولية واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وتعزيز ثقة الناس بأهمية الدولة وروح القانون والمساواة... الأهم من ذلك تنظيم علاقة الدولة بالمواطن، وطريقة إنفاذ أجهزتها للقوانين بعيداً عن المزاجية والارتجالية وأحادية القرار، التي تتحمل الدولة قدراً كبيراً من تبعاتها على حساب سيادتها واستقرارها وسلمها الاجتماعي.
أجندة مُغيّبة..
2010-06-14