الحراك في المحافظات الجنوبية.. محاولة للفهم
* عبدالرشيد عبدالحافظ
إن المراقب لتطورات الحراك في المحافظات الجنوبية، لا بد أن تلفت نظره بعض المظاهر التي رافقت فعاليات هذا الحراك في أطواره الأخيرة، مثل: تنامي المشاعر المعادية للوحدة، والدعوة إلى الانفصال أو فك الارتباط، وبروز المشاعر المناوئة لأبناء المحافظات الشمالية، وفي مقابل ذلك ظهور دعوات عاطفية للتسامح الداخلي بين أبناء المحافظات الجنوبية، والدعوة إلى تناسي كل الصراعات التي قامت في التاريخ القريب والبعيد في إطار المحافظات الجنوبية،... الخ!
إن هذه المظاهر وغيرها أضحت علامة من علامات الحراك، ولا سبيل إلى إنكارها أو التغاضي عنها. ولكن السؤال هو: هل تعبِّر هذه المظاهر عن حقائق موضوعية قائمة؟ أي هل هذه المظاهر هي نتاج طبيعي لحالة موضوعية قائمة؟ وهل تمثل الشعور الجمعي الحقيقي الواعي لأبناء المحافظات الجنوبية؟ ثم ما هو مآل حالة الاحتقان القائمة؟ وما هي النتائج المتوقعة لفعاليات هذا الحراك؟ والسؤال المهم قبل كل ذلك: ما هي الأسباب التي أنتجت حالة الحراك القائمة في المحافظات الجنوبية؟ هذا ما تحاول هذه المقالة الإجابة عليه!
لاشك أننا جميعا نتذكر تلك المشاعر الدافقة من السعادة التي غمرت أفئدتنا صبيحة يوم الثلاثاء الأغر 22 مايو 1990، وملأت نفوسنا عزة وكبرياء حتى شعرنا أن قاماتنا تطاول الجبال من حولنا، وأن رؤوسنا تكاد تبلغ عنان السماء. ولم يكن الكون كله يتسع لفرحتنا في تلك اللحظة التاريخية المهيبة عندما علا علم الجمهورية اليمنية خفاقاً على تلك الرابية الجميلة من مدينة عدن. ولا زلنا نتذكر تلك القشعريرة التي سرت في أجسادنا في تلك اللحظة التاريخية الفارقة، إحساساً بالمجد والفخار. ولم تكن تلك المشاعر إلا إحساساً طبيعياً عبَّر بصدق عفوي عن نصر كبير تحقق لهذا الشعب بعد أن كان حلما جميلاً تهفو إليه الجوانح. ولم تكن تلك المشاعر مجرد لحظة فرح عابرة، بل كانت مشاعر سعادة حقيقية تختزل الرد الوافي على كل معاناة هذا الشعب، وكل نضالاته وتضحياته التي قدّمها في سبيل إنجاز هذا الهدف العظيم، وكانت تحمل معها في نفس الوقت تطلعاته بمستقبل مشرق طالما حلمنا به وتاقت أنفسنا لبلوغه. وتعني قبل كل ذلك رد الاعتبار لتاريخنا الوطني.
وبكل ثقة ويقين نستطيع القول إن هذه المشاعر كانت هي مشاعر كل اليمنيين في جنوب الوطن وشماله وشرقه وغربه في داخل اليمن وخارجه.
ولكن سرعان ما تبيَّن لنا أن أحلامنا الوردية التي باتت جفوننا تحرسها مساء 22 مايو 1990، ما تزال بعيدة عن التحقق. فما كادت تمضي 3 سنوات على ذلك الحدث العظيم حتى وجدنا أنفسنا على موعد مع أزمة خطيرة في البلاد بين شريكي التوقيع على الوحدة، تنذر بكارثة، وهو ما تحقق فعلا باندلاع الحرب الكارثية فجر الأربعاء 4/5/1994. ولم نخرج من بين رماد تلك الحرب اللعينة ظهيرة الخميس 7/7/1994، إلا ببصيص ضعيفٍ للأمل عنوانه: أنه رغم كل شيء فإن كيان الجمهورية اليمنية مازال باقياً على أية حال!
ولكن لم يتنبه أحد إلى حقيقة المشاعر التي كانت تئن تحت وطأتها جماهير شعبنا في المحافظات الجنوبية في تلك الليلة البائسة، ليلة 7/7/1994. علينا أن نتذكر الآن جيداً أن الشعور بمرارة الهزيمة لم يكن من نصيب قيادات الحزب الذي انهزم في هذه الحرب فقط، بل كان هذا الشعور عامّاً لدى أغلب أبناء المحافظات الجنوبية، في داخل الوطن وخارجه! لقد كانت هذه المشاعر واضحة أحيانا ومكبوتة غالباً، ولكن للأسف لم يعرها أحد أي اهتمام! وتعمّقت هذه المشاعر بعد ذلك بفعل الممارسات الهمجية المتمثلة بأعمال الفيد الجاهلية من سلب ونهب وإهانة للمشاعر، التي أعقبت انتهاء الأعمال الحربية. وظلت تلك المرارة جرحاً غائراً في النفوس، لم تحاول السلطة أن تعالجها، لكنها –كعادتها- مارست الطقوس التي تجيدها من فساد وإفساد، تمثلت في نهب الأراضي والعقارات والمؤسسات العامة وتوزيعها على فئة قليلة من متنفذي النظام وزبانيته، وفي تسريح عشرات الآلاف من الموظفين العسكريين والمدنيين، وتعميم نهج الفساد على كل محافظات الجمهورية، وفي تعيين ثلة من الفاسدين في إدارة المرافق الحكومية، إلى غير ذلك من الممارسات التي كانت تنفخ في جمر المشاعر المكبوتة المتقدة تحت الرماد، إلى أن بدأت حركة الاحتجاجات السلمية من قِبَل المبعدين قسراً عن وظائفهم من العسكريين والمدنيين، والتي ما لبثت أن تحولت بسرعة ملفتة إلى احتجاجات عامة وحالة غليان شاملة على النحو الذي نعيشه اليوم. وبدا واضحاً أن احتجاجات المبعدين عن وظائفهم لم تكن سوى الشرارة التي أشعلت فتيل المشاعر المتأججة في الصدور والمكبوتة منذ ليلة 7/7/1994!
إن علينا الآن أن نتفهم الحقائق التالية:
1 - إن هذه المظاهر الصارخة التي تطغى على الخطاب الإعلامي للحراك يمكن فهمها على أنها رد فعل سيكولوجي طبيعي للممارسات الهمجية للسلطة تجاه أبناء المحافظات الجنوبية. بمعنى أن ما يبدو على هذه المظاهر من الشطط إنما هو رد الفعل الموازي لممارسات السلطة، وفق القانون الأزلي بأن لكل فعل رد فعل.
2 - إن السبب الرئيسي المولِّد لحالة الغليان القائمة ولمشاعر الغضب الجامح هو إحساس نفسي ضاغط تولَّد في 7/7/1994 وتراكمت أسبابه بعد ذلك على مدى 15 سنة من الشعور بالمهانة والإذلال، وهذا الإحساس يضغط بقوة في اتجاه دفع هذه المهانة والخلاص من مشاعر الانهزام على أي نحو كان وبأية وسيلة كانت.
3 - إن حالة الغليان المتفاقمة يوماً بعد يوم، في المحافظات الجنوبية، قد وصلت إلى مستوى الشعور النفسي الجماعي الذي يقود إلى تفجير الثورات والتحولات، ولا سبيل إلى قمعها، ولن يكون بإمكان أحد ذلك، حتى وإن خمدت إلى حين، ومن لديه شك في هذه الحقيقة فعليه مراجعة نظرية الثورة لدى أرسطو في كتاب السياسة!
4 - إن هذه المشاعر المتأججة وحالة الغليان القائمة في المحافظات الجنوبية، لابد أن تجد لها سبيلاً للتنفيس من خلال فعل قوي قادر على إطفاء المشاعر الملتهبة، وإزالة الشعور بالمهانة والانهزام منذ 7/7/1994 وحتى الآن، وبما يحقق رداً وافياً لاعتبار هؤلاء الناس، ويزيل من أعماقهم مشاعر الهزيمة والمهانة.
5 - إن عملية التنفيس هذه إما أن تتم من خلال فعلٍ مُوجَّه مسيطر عليه، وإما أن تأتي انفجاراً طائشاً بصورة تلقائية عشوائية يصيب أول ما يصيب القائمين به والمحيطين بهم أيضاً.
6 - إن التحدي الكبير الذي يواجه القوى الوطنية الآن، هو مدى قدرتها على الاستفادة من غليان هذا المرجل، وفتح المجال أمامه لتنفسٍ آمن يحيل فورانه إلى طاقة إيجابية تدفع عجلة التغيير والتقدم والنهوض الوطني، بدلا من أن ينفجر طائشاً مدمراً لنفسه ولمن حوله!
ونعود لنتساءل عن حقيقة هذه المشاعر المستثارة لدى المواطنين في المحافظات الجنوبية، والتي تفصح عن نفسها بهذا الخطاب الزاعق، والتصورات الغريبة للخروج من هذا الوضع، نحو: الانفصال، وفك الارتباط، وإدارة الظهر للأشقاء في المحافظات الشمالية، والتنكر للتاريخ اليمني المشترك... إلخ -هل هذا الخطاب- يمثل العقل الواعي الحقيقي لأبناء المحافظات الجنوبية؟ أجزم بالإجابة القاطعة ب: لا! ربما أكون قد صدمت بهذه الإجابة الكثير من الناس، وأكاد أسمع صيحاتهم الاستنكارية! ولكن دعونا نتساءل: هل حقا فشل مشروع الوحدة، أم أن حقيقة الأمر أن هذا المشروع لم يُختبر بعد؟ وقبل ذلك هل يمكن أن يفشل مشروع الوحدة أصلاً؟ ثم هل هناك أي أساس تاريخي أو واقعي أو حتى مصلحي للحديث عن كيان جنوبي يدير ظهره لكل التاريخ المشترك لليمن منذ تكوينه وحتى الآن؟ وقبل ذلك هل هذا الأمر ممكن؟ هل ستتحول الدولة الجديدة إلى جنة عدْن في اليوم التالي للانفصال؟ ألا تكشف طبيعة تكوينات الحراك، وطبيعة أدائه عن المشروع الذي يمكن أن يقوم؟ هل هناك أدنى ضمان ألا تتحول الدولة الجديدة إلى ساحة مفتوحة للحروب الداخلية التي لا نهاية لها؟ وأبادر إلى الإجابة على هذه الأسئلة بالقول: إني على يقين أن العقل الواعي الحقيقي لأبناء المحافظات الجنوبية لا يمكن أن تكون إجابته بالإيجاب على تلك الأسئلة، وإلا فلا معنى للحديث عن وجود المنطق والتفكير العلمي وفهم حقائق الأمور... الخ!
إن المطلوب الآن ليس مجاراة العامة أو التسابق لإرضاء مشاعرهم، أو محاولة الاستفادة الآنية المصلحية، فالأمر جد خطير، ولا بد من المسارعة إلى فهم هذه المظاهر على حقيقتها، دون التقليل من شأنها أو تحميلها أكثر مما تحتمل حقيقتها، ثم التعامل معها على هذا الأساس بكل مسؤولية.
إن هذا التحليل لطبيعة ما يحدث في المحافظات الجنوبية يمكن أن يجيب على الأسئلة المثارة في صدر هذه المقالة. فتحديد جذر المشكلة على النحو الذي انتهينا إليه هو الذي يمكن أن يفسِّر لنا المظاهر التي رافقت الحراك في طوره الأخير، مثل المشاعر المناوئة لأبناء المحافظات الشمالية، فذلك ببساطة هو رد فعل لما قام من تصوّر في العقل الباطن عن انهزام الجنوب في مقابل الشمال في صيف 1994، بغض النظر عن حقيقة الواقع الفعلي (الكثير من أبناء المحافظات الشمالية شعروا أيضا بالهزيمة، من خلال هزيمة الأمل في المشروع الوطني).
وهذا التحليل يمكن أن يفسِّر أسباب الشعور المتنامي ضد دولة الوحدة والدعوة إلى الانفصال. فمن المتيقن أن أبناء المحافظات الجنوبية كانوا أكثر الناس حماساً للوحدة، ثم إن دولة الوحدة الحقيقية ذاتها لم يتم اختبارها لنتبيَّن نجاحها من فشلها، فالمؤكد أن الذي فشل هو السلطة الحاكمة فقط. فالدافع لهذه المشاعر المناهضة للوحدة ليس إلا المشاعر المكبوتة المتلهفة إلى رد الاعتبار من المهانة المتصورة لهزيمة 7/7/1994 وممارسات السلطة الهمجية بعدها، والتي تمت تحت ستار المحافظة على الوحدة وفي ظل دولة الوحدة.
وهذا التحليل هو وحده الذي يستطيع أن يفسِّر لنا لماذا كان هذا الحراك على النحو القائم محصوراً في المحافظات الجنوبية فقط، مع أن إخوتهم في المحافظات الشمالية يعيشون نفس المعاناة التي تعيشها المحافظات الجنوبية، إن لم تكن معاناتهم أشد وأقسى في بعض هذه المحافظات الشمالية.
ثم إن هذا الفهم هو الذي يمكن أن يفسِّر تلك المشاعر الحميمية الداعية للتسامح الداخلي بين أبناء المحافظات الجنوبية، وهي مشاعر عاطفية تتجاوز حقائق الواقع والصراعات الموجودة. وهذه الصراعات ستنفجر لا محالة في اللحظة ذاتها التي يتم التخلص فيها من الضغط النفسي المتولد عن مشاعر الهزيمة في 7/7/1994، فذلك هو الجامع الوحيد الآن.
إن أبناء المحافظات الجنوبية ليسوا في حقيقة الأمر ضد الوحدة، وهم في قرارة أنفسهم يدركون هذه الحقيقة، بإدراكهم أن وحدة اليمن هي حقيقة موضوعية من حقائق التاريخ التي لا مجال لتجاوزها. فليست المشكلة إذن في الوحدة، وليس الحل –بالطبع- في إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 22 مايو 1990. بل ينبغي البحث عن الدواء بعد تشخيص الحالة بكل صدق وتجرد وعقلانية. وإذا ما صدق تحليلنا لمسببات هذا الاحتقان القائم، فإن الحل سيكون في الفعل الذي يكون به الخلاص من هذا الضغط النفسي المتولد عن مشاعر الهزيمة ليلة 7/7/1994 الكئيبة وما تلاها من ممارسات.
إن رد الاعتبار والتخلص من تلك المشاعر لن يكون بالانقلاب على الوحدة، بل برد الاعتبار لها وتخليصها من العابثين بها، ولا بالتنكر للتاريخ اليمني المشترك، بل بالانتصار لهذا التاريخ، وإعادة الاعتبار له أيضاً، ولا بالانتقام من أشقائهم أبناء المحافظات الشمالية الذين لا حول لهم ولا قوة في أسباب تلك المشاعر المحتقنة لدى أشقائهم من أبناء المحافظات الجنوبية، فهم يشاركونهم في الحقيقة كل آلامهم ومعاناتهم، والذين لاشك هُزموا أيضا يوم 7/7/1994 حتى وإن لم يشعروا بتلك الهزيمة. وإنما الحل في الالتحام بهم لإعادة بناء هذا الوطن من خلال إيجاد دولة مؤسسية حديثة، نشعر في ظلها جميعاً بالأمان والمواطنة المتساوية، وبكرامتنا وعزتنا. ولنبحث معاً عن الصيغة المناسبة لشكل الدولة اللامركزية التي نرتضيها لنا جميعاً، وعن طبيعة النظام السياسي الذي نريده، بما لا يسمح بإمكانية وجود مثل هذا الحكم الفردي المركزي المتخلف المستبد، وبما يضمن تحقيق مصالحنا، وينسجم مع حقائق التاريخ.
*مدرس جامعي في جامعة صنعاء
الحراك في المحافظات الجنوبية.. محاولة للفهم
2010-05-05