تعتبر المياه شريان النماء وعصب الحياة وعماد الحضارات، وتأتي المنطقة العربية في مقدمة الدول الأكثر احتياجًا للمياه.
ويعتمد بعض دول المنطقة على مياه الأنهار التي تنبع من خارج الحدود مثل مصر والعراق وسوريا وموريتانيا، والبعض الآخر يعتمد على مياه الأمطار الموسمية والمياه الجوفية وتحلية المياه وإقامة الخزانات والسدود... الخ.
من الجدير بالذكر، أنه منذ قيام إسرائيل في الأراضي العربية الفلسطينية، عام 1948م، وضع الصهاينة خارطة لإسرائيل على واجهة الكنيست (المجلس التشريعي) -على حد زعمهم- "دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات"، بما يعني عسكرة المياه، وباستهداف كل من مصر، والعراق، وبما يضمن أيضًا مشاريعهم التوسعية لهذا القرن (21) في المنطقة الغنية بثرواتها النفطية والمعدنية وموقعها الاستراتيجي.
أولًا: مشكلة المياه في إسرائيل:
تعاني إسرائيل من مشكلة مياه دائمة منذ نشأتها، فالموارد المائية الذاتية والمتاحة داخل حدودها لا تكفي لتلبية متطلبات التنمية، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، ولذلك سعت للاستيلاء بالقوة على المياه العربية، وبالتالي وضعت المشاريع التي تكفل لها ذلك، حيث بدأت الأطماع الصهيونية بإرسال بعثة كشفية صهيونية في عام 1903م، إلى مصر، لدراسة سيناء التي كانت مقترحة كوطن قومي لليهود.
ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي تضع إسرائيل الدراسات الجيولوجية، وتخطط من أجل معرفة حقيقة الخزان الحجري الهائل، الذي يقع في عمق شبه جزيرة سيناء وصحراء النقب، والذي يبلغ طوله مئات الكيلومترات، وتقدر كمية المياه فيه بحوالي 200 مليون م3 من المياه الصالحة للشرب، وكانت تهدف من ذلك الاستيلاء على هذه المياه، لتحويل صحراء النقب إلى أرض صالحة للزراعة، وجذب المستوطنين اليهود من أنحاء العالم كافة.
وقد قامت بحفر الآبار في صحراء النقب، وفي منطقة الحدود المصرية، للتوصل إلى مياه هذا الخزان، بل أقامت سدًا على هذه الحدود لتجميع مياه الأمطار 10 ملايين م3 عند وادي الجرافي، والحدايد، الواقعين في الأراضي المصرية، واستخدامهما في زراعة صحراء النقب. ويرى مهندسوها أن نقل 1% من مياه النيل (800 مليون م3 سنويًا) إلى النقب يعالج مشكلة إسرائيل المائية لفترة طويلة. ففي اجتماع اللجنة السياسية الذي عقد أثناء مؤتمر السلام بين مصر وإسرائيل، في كامب ديفيد، عام 1978م، ناقش المفاوض الإسرائيلي إمكانية التعاون في إنشاء خط مواسير، قابله رفض مصري لأي تنازلات لنقل المياه لإسرائيل... وكان ذلك هو النهاية لمحادثات المياه.
رأى الرئيس أنور السادات، أن الأحداث في إفريقيا، تشكل مصدر خطر كبير على مصر، وكان قلقًا بصفة خاصة من تطور الأحداث في إثيوبيا التي كان يعتقد أن إسرائيل تستخدمها وسيلة للضغط على القاهرة. وأخبر السادات مجموعة من مساعديه المقربين، من بينهم الدكتور بطرس غالي، وزير الدولة للشؤون الخارجية، قائلًا: "إن المسألة الوحيدة التي يمكن أن تقود مصر للحرب مرة أخرى هي المياه"، وكان تحذيره موجهًا لكل من إسرائيل وإثيوبيا التي تشكل (الأخيرة) رافدًا مهمًا من روافد النيل، وتسيطر على أكثر من 85% من مياه النيل سنويًا.
ففي ديسمبر عام 1979م، عندما كرر السادات تحذيره بنبرة أكثر غلظة للسفير الإثيوبي بالقاهرة، كان معروفًا أن إسرائيل متورطة بشكل مباشر في الموضوع. ولكي تؤكد مصر تحذيرها الشفوي، قامت بإرسال أسطول بحري صغير إلى المياه الجنوبية من البحر الأحمر، وكان السبب في ذلك، أن رجال الأمن وصل إلى علمهم أن المهندسين الإسرائيليين، يساعدون في إعداد خطط إثيوبية لإنشاء سدود على النيل.
من المفارقات الغريبة في الموقف أن إثيوبيا كانت مهتمة أيضًا بما يجري من أحداث في مصر، مثلما كانت مصر قلقة بما يجري من أحداث في الأراضي الإثيوبية. فوكالة الاستخبارات السوفيتية (KGB)، التي كانت لها شبكة استخبارات نشطة عام 1979م داخل مصر، حذرت من تحويل 800 مليون م3 سنويًا من مياه النيل إلى صحراء النقب الإسرائيلية، فإذا نجحت هذه المحاولة فسوف تذهب مياه النيل خارج أراضي حوض النيل، ذلك الشيء الذي لم يحدث إطلاقًا على مدى التاريخ.
ثانيًا: تحديد أهداف إسرائيل من وراء إقحام نفسها في إفريقيا منذ عام 1971م، على النحو الآتي:
1. تأمين ملاحتها في البحر الأحمر عبر المضايق الجنوبية، بخاصة باب المندب.
2. تحقيق الأمن الاقتصادي التجاري بانفتاح تجارتها وعلاقتها الاقتصادية مع إفريقيا، والشرق الأقصى عبر البحر الأحمر وحتى المحيط الهندي.
3. تحقيق الأمن السكاني عن طريق تهجير يهود الفلاشا الإثيوبيين لزيادة كثافتها السكانية.
4. مضايقة مصر والسودان سياسيًا وعسكريًا ومائيًا من خلال دعمها للحركات الانفصالية في جنوب السودان قبل انفصالها، في محاولة منها لإيقاف مشروع "قناة جونجلي"، الذي سيحافظ على مياه النيل من التبخر والهدر.
5. الضغط على مصر لتحويل جزء من مياه النيل والخزان الحجري في سيناء إلى النقب لمعالجة مشكلة إسرائيل المائية بأية طريقة كانت وبالمقابل.
ثالثًا: الخيارات العسكرية في مسألة المياه أمر لا يحتمل:
يرى مراقبون عسكريون أن الذي لا يعرفه أحد، هو درجة الاستفزاز ، التي قد تعتبرها دولة وضعًا لا يمكن احتماله، والتي قد تدفعها إلى اللجوء للحل العسكري. وقد وصل إلى هذه النقطة الاقتصاد في العالم المتحضر: متى تصبح الحرب الوسيلة الأكثر فاعلية لحماية المصالح الضرورية للدولة؟ فمع الأخذ في الاعتبار المبالغ الضخمة التي تنفق في الحرب، والخسائر المحتملة، فيجب أن تكون الإجابة هكذا: إن الحرب نادرًا ما تكون ذات جدوى اقتصادية. وقد أظهر ما يسمى التحالف الدولي ضد العراق، كيف يمكن تخريب المنشآت وخطوط المواسير بواسطة الغارات الجوية، بينما أظهر الهجوم العسكري العراقي على الكويت، مدى سهولة تخريب المنشآت المائية ومحطات التحلية على الأرض.
هناك دروس من الماضي، تظهر متى يصبح التدخل في مورد طبيعي أمرًا لا يحتمل، ويستوجب التدخل. فالنزاع العربي -الإسرائيلي على نهر الأردن، الذي كان أحد أسباب حرب 1967م، يعتبر مثلًا واضحًا، في حين كان دعم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد لـ"حزب العمال الكردستاني"، هو أسلوبه لحث الأتراك على التفاوض معه بشأن عدم تخفيض تدفق مياه نهر الفرات لسوريا.
وهناك ميل للقلق أيضًا، من أن تمتد المشاكل المائية للشرق الأوسط لتشمل دولًا بعيدة مثل إثيوبيا التي ترتبط بالسودان، ومصر، عن طريق النيل، يحتمل أن تتورط أيضًا سواء رغبت أم لم ترغب في دائرة الصراع العربي -الإسرائيلي. وقد وصف الدكتور جمال ملوم، الخبير الاستراتيجي الذي كان يعمل مستشارًا في العديد من المعاهد البحثية، بأن الخلاف بين موريتانيا وجارتها السنغال بشأن الموارد المائية المشتركة، يعتبر إحدى مناطق الصراع الخطيرة التي يحتمل أن تزداد فيها حدة التدخل العسكري. ويتفق البروفيسور مالين فالكنمارك، الذي كان يقوم بتدريس الهيدرولوجيا الدولية في مجلس أبحاث العلوم الطبيعية بالسويد، على أن النزاع الموريتاني -السنغالي، يعد واحدًا من أخطر النزاعات المتعلقة بالمياه على الرغم من عدم تأثيره الكبير على الغرب.
رابعًا: مشروع نقل مياه النيل:
ويقوم ذلك على فرضيات، ويعتمد على أن مصر تمتلك فائضًا ضخمًا من المياه، يقدر حجمه بنصف كمية المياه التي تستهلكها، خلافًا لما جاء في تحليلات عديدة، والتي يتضح من خلالها أن مصر ستكون في موقف عجز مائي، وأن هذه الكمية بمقدورها حل مشكلات سائر البلدان (المجاورة)، يتم في إطارها تنفيذ عدد من المشروعات غير القومية، وفي هذا الإطار أيضًا يتم تبادل الخبرات ورؤوس الأموال بين الدول المشتركة، وبخاصة أن مثل هذه المشروعات تلقى تأييدًا من الدول المانحة، والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
ومن الممكن -حسب خبراء اقتصاد- أن تقل هذه الكمية الفائضة من المياه المشار إليها فرضيًا، بتكلفة اقتصادية معقولة إلى قطاع غزة وصحراء النقب والضفة الغربية والأردن... وفي حال إقامة هذا المشروع، فإن إسرائيل ستصبح شريكًا في مشروع نقل المياه بين بلدان المنطقة، باعتبارها ستكون دولة معبر، بخاصة أنه من المتوقع حصول مصر لفترة طويلة على فائض ضخم من المياه (افتراضًا)... ولعل نقل المياه إلى سيناء، وإقامة مشروع للري بها كما كان مقررًا أن تعمل بإقامته مصر (مشروع ترعة السلام).. فإن هذا المشروع في حال تنفيذه في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، بالإمكان أن تستفيد منه مصر اقتصاديًا.
جوهر القول، إن مصر هبة النيل، وإن نقل المياه خارج الحدود المصرية لا يجدي نفعًا. فالمصريون أحوج إلى مائهم، ولكل قطرة من المياه للتنمية والاستقرار.