صنعاء 19C امطار خفيفة

زيارة السيدة العجوز

دوافع كثيرة دعتني لاختيار هذا العنوان لموضوعي الذي أتابع عبره مجريات الأمور في بلادنا، وما يطرح حتى الآن من خرائط طريق إعلاميًا هنا وهناك.
السيدة العجوز التي أقصد هنا ليست السيدة العجوز التي كتب عنها المؤلف المسرحي السويسري فريدريتش دورنيمات، العام 1956، مسرحيته الشهيرة التي اتخذ لها اسم "زيارة السيدة العجوز" التي عادت لقريتها بعد غياب خمسين عامًا، كاملة الثراء والثروة، عادت بمال تشتري به وبقوته ضمير وفقر أهل قريتها الذين خذلوها مبكرًا حين اغتصبها أحد رجالاتهم... تنجح صفقتها لتشتري بالمال ضمير القرية التي تتخلى عن أحد بنيها.
والمسرحية في تناول النقاد لأبعاد الفكرة، كانت نقدًا لما أحدثته النازية من تدمير، بل تم التعامل معها حين تم تحويلها لأكثر من عمل مسرحي، بأن سطوة وهيمنة رأس المال إنما تمثل استغلال ظروف إفقار الرأسمالية الكيانات الوطنية، وانتهاك سيادتها، وإعادة تشكيلها بما يتناسب وأوضاع قوى الرأسمالية العالمية، وإعادة تشكيل المجتمعات بما يخدم أهدافها وتوسعاتها. ذلك باختصار شديد جوهر مسرحية "زيارة السيدة العجوز".
نأتي لربط العنوان مع موضوع نثيره حول مشاريع التسوية السياسية التي تطرح حتى الآن، مرة بصوت صارخ، ومرة على استحياء عبر وسائل إعلامية، بخاصة المقابلة والحديث المنشور خلال أيام مضت عبر صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، مع اللورد طارق أحمد، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، إذ يقول وبابتهاج كبير إن ثمة توافقًا كاملًا بالرأي بين كل من بريطانيا العظمى والمملكة السعودية، بشأن التسوية السياسية للأزمة اليمنية، عبر خارطة الطريق التي كثر الحديث عنها، وتحظى بالدعم لها من قبلهما، وعلى ذات الخط تتوافق معهما حول ذلك القراءة الأمريكية لتمرير ما تسمى خارطة الطريق التي طال بشأنها الحديث، وإلى جوارها تلاك أحاديث وتحليلات تتشابه وإن تعارضت أو التقت معها كليًا أو جزئيًا، ولكن ضمن مفاهيم دوارة تفيد بأن أوان الحل الكامل والشامل لم يحن بعد.. ولكن قبل الدخول بمزيد من التحليل، أعود للعنوان.. لم السيدة العجوز...؟ هنا نتوقف للقول بأن بريطانيا التي كانت يومًا ما تدعى بريطانيا العظمى، لم تعد كذلك، بل باتت بريطانيا السيدة العجوز التي تريد العودة لمتحف التاريخ بزي المستر تشرشل، أو حتى برفع أهداب السيدة الحديدية مارجريت تاتشر... لكن فات الأوان.. السيدة العجوز تلعب دور التابع لسيده بونتي، أي دور التابع للراعي الأمريكي، وهو ما يتضح بجلاء المؤكد على ذات النهج الأمريكي حسب كلام اللورد طارق أحمد، بينما يتبين لنا من خلال الزيارة التي قام بها مؤخرًا الأخ رئيس الوزراء لبريطانيا العظمى حين كان يظهر للأسف الشديد كل ما نجم عن تلك الزيارة رسميًا مجرد إشارات بريطانية أنها ستزيد العون المالي لمنظمات الأمم المتحدة للغوث الغذائي لمواجهة بوادر المجاعة التي تجتاح بلادنا، ولم يترافق معه أي بيان يفيد بوجود دور تتبناه بريطانيا مشروعًا للتسوية السياسية في بلادنا، ذلك أمر لا يدور بخلدها، كل ما تنظر إليه لا يغادر تلك اللحظة التي حالت هي وحليفتها أمريكا دون دخول قوات الشرعية مبكرًا إلى صنعاء، والأنكى منع دخول الحديدة حفاظًا -كما ادعوا يومها- على نفاذ اتفاق ستوكهولم.
ما قاله اللورد ما كان إلا مغازلة لإيران وأنصار الله... خففوا غلواء ما تقومون به من أفاعيل بالبحر الأحمر تهدد مصالح الغرب والملاحة الدولية، إنها لحظة مسرحية باهتة... إنها نوع من أنواع الهزل المصري بمسرح اللامعقول... سيب وأنا أسيب.. وهلم جرا.
ذلك الاستنتاج توصلنا إليه من قراءة أوراق أخرى تزامنت مع ما صرح به اللورد طارق، بخاصة ذلك التسريب الذي يشير إلى أن الحوثي قد وافق على تسوية شاملة تفضي إلى تشكيل مرحلة انتقالية شرط ترؤسها من قبل الأخ الرئيس علي ناصر، ويبقى السيد الحوثي يمسك بولاية الفقيه.
ذاك تسريب تم تسويقه في الأيام الأخيرة... وهو ما يتعارض بالمطلق مع مضمون المقابلة التي أجراها قبل أيام الأخ عارف الصرمي، مع السيد الرئيس علي ناصر محمد... من هنا يأتي ربطنا للموضوع، أي زيارة السيدة العجوز... كما رأيناها من حديث اللورد طارق أحمد، ومغازلته الحوثي، نراه حديثًا إنما يذكرنا مع ما يجري على أرض الواقع في بلادنا من مجريات ليست أكثر من قرقعة تتشابه مع قرقعة فرقة حسب الله المصرية، وهي تتلاعب بطبول خاوية تصدر أصواتًا مزعجة، ولا تضيف للسلم الموسيقي شيئًا جديدًا، تمامًا كما نشاهد في بلادنا لا جديد يمكن الإمساك عبره بعناصر لها وجود على الأرض توحي بوجود خارطة طريق لتسوية شاملة.. كيف ذلك..؟ مع عدم وجود مشروع توافق وطني جامع شامل يشكل ضمانة يعتمد عليها للمضي قدمًا... كل ما نسمعه ونراه انفلات وتأزم اقتصادي بتعبيرات يصعب التستر عليها مهما تم التلاعب بالعناوين، وعلى مستوى الشرعية كانت المفاجأة مدعاة لمزيد من القلق، لمزيد من التفكير والربط... فهل كانت زيارة السيدة العجوز سواء زيارة رئيس الوزراء أو حديث اللورد طارق، هي التي دفعت الأمور قدمًا، وبشكل حاد.. لكي يطرح التوجه المسمى، حسب ما ورد بعنوان "الأيام"، اليوم 27 مايو الحالي، توجهًا لدى الانتقالي لتعميق الشراكة بين الانتقالي والمجلس الرئاسي، وكان ما كان قائمًا كان هزلًا، وأن مقترح تعيينات للانتقالي في مراكز قيادية في جهاز الدولة المثقل بالهموم والمثقل بالعجز والثقوب، هو الضامن والمغير لما ظل راكدًا ومأزومًا... مما يدعونا للتساؤل مع بقية خلق الله: أعبر هذه الوسيلة يتم تعميق الشراكة بين الكيانين...؟ أعتقد الأمر أبعد من ذلك، بل إنه من غرائب الأمور... البلد بحاجة لتسوية سياسية تقود للخروج من نفق الأزمة الطاحنة سياسية اقتصادية، وعبر مقاربات تحقق تسويات وطنية على أكثر من مستوى على مستوى الوطن كله.
ألم أقل لكم بأن زيارة السيدة العجوز أتت تذر الرماد على العيون، وتطلق بالونات اختبار؟
والأيام حبلى بالكثير من المفاجآت.

تصنيفات

إقرأ أيضاً