في القرون السابقة، كانت التربة الصالحة للزراعة أوشكت على الانتهاء بسبب نقص الأمونيا (النشادر/ النيتروجين) في التربة، بالرغم من أن النيتروجين متواجد بنسبة 78% بالهواء الجوي!
وقد استهلكت البشرية جميع الحلول من نبش جثامين الموتى، وجمع روث الطيور، وحتى استكشاف الأراضي الجديدة، إلا أن المساحات الصالحة للزراعة مازالت تتقلص.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، حذر العلماء من أن عدد سكان العالم سيتفوق قريبًا على إنتاجه الغذائي.
حصلت البشرية على مفتاح النجاة في عام 1909، إذ اكتشف العالم الألماني فريتز هابر، طريقة لتحويل النيتروجين والهيدروجين الجوي إلى أمونيا.
العالم الألماني فريتز هابر بريشة الذكاء الاصطناعي (Bot Playground)
وفي عام 1911، تم بناء أول مصنع للأمونيا في لودفيغسهافن، والذي أنتج أكثر من 30 طنًا من النيتروجين الثابت يوميًا بحلول عام 1913.
ومن المفارقات العجيبة أنه لم يستخدمها في إطعام الجوعى.. بل في صناعة القنابل والمتفجرات!
كان هابر مديرًا لدائرة الكيمياء في الجيش الألماني خلال الحرب العالمية الأولى، وأطلق عليه الأب الروحي للحرب الكيميائية.
وحين قطع البريطانيون عن ألمانيا الوصول إلى النيترات -وهي صيغة من النتيروجين شديد الانفجار عند الضغط والحرارة؛ وتستخدم في صناعة البارود والمتفجرات- كرس هابر علمه وإمكانياته لتعزيز القوات الألمانية؛ وصنع كل احتياجات أسلحتهم من الهواء الجوي،
ولعل الحرب كانت انتهت في بضعة أشهر لولا الجهود التي بذلها هابر، والتي قدمت لألمانيا 4 أعوام كاملة من الاستمرار، وهي أعوام كلفت العالم ملايين الأرواح.
لم يقم هابر بتحضير وإمداد الجيش بالمكونات فحسب، بل وقف على رأس الجنود في معركة إيبر الثانية، وشارك في تنظيم أول هجوم بسلاح غاز الكلور السام في التاريخ ضد قوات الحلفاء الفرنسية في بلجيكا.
وبعد انتهاء الحرب، فر هابر إلى روسيا حيث وصله إعلان حصوله على جائزة نوبل في الكيمياء لدوره في تخليق الأمونيا.
كان من حسن الحظ، أو لربما من سوء الحظ، أنه قد أثبت طريقة "هابر بوش لتصنيع الأمونيا" قبل الحرب العالمية بوقت قصير.
هذه الطريقة التي جنبت العالم أسوأ مجاعة محتملة في التاريخ، وأنقذت البشرية من الانقراض.
واليوم، هذه الطريقة نفسها مسؤولة عن إطعام أكثر من ثلثي العالم!
ولعله من الفكاهة السوداء أنه رغم أن الأسمدة الكيماوية هي ضرورة لا مفر منها في الزراعة، إلا أنها أيضًا من الأكثر خطورة والأشد فتكًا؛ فالأسمدة النيتروجينية -على سبيل المثال- سريعة الذوبان في التربة، وسهلة التسرب إلى المياه الجوفية والسطحية، مما يضمن وصول تلوثها إلى جميع أنحاء البيئة المحيطة.
تعتبر الأمونيا أهم المخلفات الأيضية التي يقوم الكبد بتحويلها إلى اليوريا الذائبة بالماء للتخلص منها عبر البول، بينما النيترات يتم اختزالها عند الهضم إلى مركبات مسرطنة.
وهكذا فإن تراكم الكميات الكبيرة من المخلفات النيتروجينية في جسم الإنسان تتسبب في تليف الكبد، والفشل الكلوي، والعصبي، واعتلال الدماغ والسرطانات وحتى الوفاة.
تلك الشعرة الرقيقة ما بين هابر المجرم، وهابر الرجل الذي يعجن الخبز من الهواء، تعود من مطلع القرن العشرين، وتضعنا أمام المظلة القديمة مجددًا؛ مع وجود آلاف الأنواع والأطنان من الأسمدة الكيماوية الرديئة والمحرمة دوليًا، تغرق أراضي اليمن، هل نأكل ونموت مرضى أم نعيش جوعى؟
كيف سيواجه اليمنيون هذه الأزمة؟!