في الاستبداد تتطفل الفئة أو الجماعة (المُستَبِدة) على المجتمع الخاضع لاستبدادها، وتتمتع بامتيازات مادية ومعنوية كبيرة فتعيش في ترف باذخ!
وقد قيل في خطورة الاستعباد: "إنه يفسد أخلاق الشعوب المستعبدة، فيجعل من متدينيهم منافقين، ومن مثقفيهم جبناء ومتسلقين، ومن حماة أمنهم قتلة وأذلاء ومرتشين، وإن طول استعباد الشعوب يفسد عليها فطرتها، ويميت شعورها حتى تجهل ما لا يجهله أحد، وتزهد في ما لا يزهد فيه مخلوق... ولا يكون هذا في عامّة سوادها فقط، بل يكون حتّى في أفراد متعلمين منها فتنقلب عليهم الحقائق... ويقبلونها ويكابرون، بل يحاربون من يريهم شيئًا من الحقيقة، ويدعونهم إليها".
وليس هناك من يجهل، أو يتجاهل أن حياة غالبية أبناء المجتمع اليمني تعيش منذ ما يقرب من عقد من الزمن، في ظلم كبير، وفقر مدقع تحت وطأة استبداد جماعة الحوثي، ويخشون إن طال أمد الاستبداد فيهم، أن تُفسد أخلاقهم، ويُسهل سوقهم كما تساق الأنعام!
من يتتبع تاريخ الحركة الحوثية منذ نشأتها وحتى اليوم، سيتضح له دون عناء أن الحوثيين لا ينوون بناء دولة، هذا من ناحية، وأنهم من ناحية ثانية من أبرز الجماعات التي تمتاز باحتكار صور الظلم بمختلف أشكاله، وسيتضح له دون عناء من ناحية ثالثة أن الإفراط في القسوة، والعنف، واستخدام السلاح، وجنون الاستبداد، والفساد، من أبرز العلامات المميزة جدًا لطبيعة سياستهم في تعاملهم مع المواطنين، بل إنها أكثر أدواتهم، وأساليبهم اليومية استعمالًا، وبها ومن خلالها يؤكدون ويعلنون للداخل والخارج طبيعة، وملامح مسارهم ومسيرتهم وسياستهم في تعاملهم مع ضحايا انقلابهم، وتحديدًا من لايزال منهم مقيمًا في المحافظات والمناطق الواقعة تحت سيطرتهم!
كلنا نعرف السمات العامة للحوثيين، ونعرف أن من سماتهم في تعاملهم مع الناس -بعيدًا عن الجانب الاقتصادي والمالي- المبالغة في القمع، والإفراط في الاستبداد، وفي استخدام القوة والعنف، والترهيب، والتجويع، والإفقار؛ ليس ذلك فحسب، بل من سماتهم ـأيضًاـ التنصل من الالتزامات، وعدم الوفاء بالعهود، والعقود، مستندين في هذا التنصل إلى معتقد "التُّقية"، وإلى فكرة "البَدَاء"!
بعد أن ذاق اليمنيون مرارة استبداد، وتسلط، وعنف الحوثيين، لما يقرب من عقد من الزمان -ولايزال- فلم يعد عُرف الحوثة وسُلفهم وشرعهم خافيًا على أحد، اللهم إلا على من هم من أبلد من خلق الله، وإلا فالكل قد أصبح يعرف جيدًا الحوثيين بأعرافهم وأسلافهم ببواطنهم وبظواهرهم.
الكل قد عرفهم، وحفظهم عن ظهر قلب. فالكل يعرف مثلًا أن الاستبداد السياسي، والقمع، والاضطهاد، والترهيب، والخطف، وتلفيق التهم للأبرياء دون حياء، كلها صور من صور شرعهم المعوج المعروف للقاصي والداني؛ لذلك فلا غرابة إن وجدناهم لا يجدون حرجًا في الإسراف بإطلاق عبارات التخوين، والارتزاق، والعمالة، والاتهام بالنفاق، والخيانة على الناس كلما توهموا لذلك سبيلًا، بل لا غرابة كذلك إن وجدناهم يقومون دون أدنى حرج باختطاف الناس من الشوارع، أو انتزاعهم من بيوتهم باستخدام القوة والعنف المفرطين، وإخفائهم عن الأنظار، وعن أهلهم لشهور طويلة، بل لسنوات، وما حالة الأستاذ محمد قحطان، وأولاد يعيش، والقاضي عبدالوهاب قطران، وغيرهم إلا مجرد أمثلة لإفراطهم المبالغ فيه في تعاملهم العنيف مع المعارضين، وفي تلفيق التهم للأبرياء، وللنشطاء السياسيين، والتربويين والصحفيين، ونشطاء حقوق الإنسان، وكل من يتوهمون أنهم معارضون لجنون استبدادهم!
ينهض استبداد الحوثيين السياسي على عدد من الأمراض النتنة التي تزكم الأنوف؛ وأبرزها وأكثرها شهرةً ثلاثة؛ هي: السلالية، والمناطقية، والمذهبية؛ إذ تحظى الهاشمية في قوام جنون استبدادهم بالمرتبة الأولى، ولا يعني هذا الكلام أن الهاشمية لدى الحوثيين على درجة واحدة في استحقاق الثروة، والسلطة، أو الأفضلية الدينية؛ ففي عُرفهم أن هاشمية صعدة، وعمران، وحجة، لا يُعلى عليها؛ ولهذا يأتي أغلب هاشميي هذه المناطق في المرتبة الأولى بالمعايير الحوثية الثلاثة:
السلالي، والمذهبي، والجغرافي، وأدنى المراتب الهاشمية بهذه الثلاثة المعايير أغلب هاشمي صنعاء وبعض هاشميي ذمار؛ فأما هاشميو المناطق الشافعية فقليل منهم فقط لهم حظ محدود في السلطة والثروة، وأما أكثرهم فليس لهم في حسبة الحوثيين ذكر في السلطة، ولا في الثروة؛ بل يشككون في هاشميتهم أصلًا!
ومن المهم التأكيد على أنه ليس كل هاشمي حوثيًا، ولا كل زيدي حوثيًا كذلك، كما أنه ليس كل صعدي حوثيًا، ولا كل صنعاني حوثيًا، وكذلك الحال بشأن بقية المحافظات، والمناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين!
لا يوجد في ذهنية الحوثة تحديدًا، ولا في فكرهم، فكرة إقامة دولة تُعنى بخدمة المواطن، وتعالج همومه، ومشاكله؛ بل إن في ممارستهم اليومية مع الوطن والمواطن ما يدل -دون شك- على أن لديهم "فوبيا" خوف مبالغ فيه من وجود كيان سياسي يسمى دولة؛ لذلك نجدهم يسيرون بخطوات متسارعة على خطى تدمير كل ما كان متاحًا من مظاهر الدولة التي كانت تقيم المشاريع التنموية في البلاد، وتقدم للمواطنين قدرًا لا بأس به من الخدمات الاجتماعية مجانًا، وتفي شهريًا برواتب وحقوق موظفيها دون انقطاع، لكنهم دمروا، ولايزالون يدمرون كل ما كان له من وجود في بنية الدولة؛ من خلال سعيهم لإقامة سلطتهم العصبوية على أسس عنصرية، ومذهبية، ومناطقية، ويقتصر دور اليمنيين فيها على مجرد التضحية بأموالهم، وأولادهم، وأنفسهم، لنصرة أعلام الهدى، وتأسيس سلطتهم، والقتال من أجل تربعهم على كراسي الحكم في البلاد؛ بذريعة أن العسكرة هي التي تصلح لليمنيين، وتمثل واجبهم الذي يجيدون تأديته عبر التاريخ الإسلامي كله من زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى اليوم، ويجب أن يستمر دورهم هذا حتى قيام الساعة!
هكذا هم اليمنيون في نظر الحوثة!
وهكذا هو دورهم!
كثيرة هي الأدلة، والدلائل على خوفهم المبالغ فيه من وجود دولة بكيان قوي، منها قيامهم بتعطيل وظائف الوزارات، والمصالح، والمؤسسات الحكومية، وقيامهم بإنشاء هياكل خاصة بهم خارج نطاق الدستور والقانون؛ كالمشرفين، والأمن الوقائي، والحارس القضائي، والمنظومة العدلية، وغيرها.
وهناك هياكل أخرى سلخوها من جسد العديد من هياكل الوزارات؛ لأنها تدر أموالًا كبيرة، وأناطوا إدارتها بأشخاص مقربين منهم، وألحقوها برئاسة الجمهورية؛ كهيئة الزكاة، وهيئة الأوقاف مثلًا، وهما اللتان تم سلخ الأولى منهما من هيكلية وقوام وزارة الأوقاف التي ألغوها، والثانية من هيكلية وقوام وزارة المالية، كما قاموا بإنشاء المجلس الأعلى لإدارة الشؤون الإنسانية، الذي سلخوه من هيكلية وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وأناطوا إدارته بمقرب منهم، وألحقوه كذلك -ولذات الغرض- برئاسة الجمهورية، وستشهد الأيام القادمة المزيد من الهدم، والتدمير لمكونات وآليات ما تبقى من مظاهر الدولة، وإنشاء لجان ومجالس جديدة سياسية، واقتصادية، وأمنية بديلة موالية لهم، وخارج نطاق الدستور والقانون كذلك؛ مهمتها العمل على المزيد من تعزيز تسلطهم ونفوذهم، وترسيخ تأمين جنون استبدادهم، وتكثيف مراقبة أنشطة الناس المختلفة، وسلب أموالهم، وملاحقة واعتقال النشطاء والسياسيين، وكل من يتوهمون أنهم خصوم لهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم!
وعلى خطى حرصهم في تدمير الدولة، قاموا "بإقصاء، واجتثاث أغلب كبار الموظفين، والمسؤولين من غير جماعتهم، وليس ذلك فحسب؛ بل إنهم قاموا بإقصاء معظم صغار الموظفين للسبب نفسه؛ مقابل تعيين طبقة جديدة من الموظفين على أساس سلالي بحسب ألقاب العائلات الهاشمية التي ينتمون إليها.
بل إنهم عادةً ما يحصرون التعيينات في الوظائف المهمة، وبالذات التي لها صلة بالمال في أسر هاشمية معينة!
عقد من الزمن أثبتت فيه الجماعة لكل ذي عقل، وبما لايدع مجالًا للشك، أن سلطة أعلام الهدى تتجاهل على الدوام ما صار عليه الناس من جوع، وفقر؛ بفعل فظاعة فساد منتسبيها، وجرأتهم في نهب مئات المليارات من الأموال العامة، والخاصة، وحرمان الناس من مصادر أرزاقهم، وتمكين عناصرهم من احتكار الأنشطة البارزة في المجالات الاقتصادية، والتجارية، وأعمال البنوك، والصرافة، وكل الأنشطة الاستثمارية في شتى المجالات المختلفة، هذه هي سلطة "أعلام الهدى"!
ليس هناك من يجهل أن الحوثيين يهتمون جدًا بالملشنة، وأن لهم مليشيات مسلحة، وأنهم يغرسون في وعي أفراد هذه المليشيات وعقلياتهم ثقافة كراهية الآخر، ويدربونهم تدريبًا قتاليًا عاليًا على كيفية التعامل العنيف مع من يعارض استبدادهم بوصفه "منافقًا"، ويزودونهم بثقافة تقديس مدلول "علم الهدى"، وكيف أنه يتعين التعامل العنيف جدًا مع من يتناول شخصه بالنقد والتحليل!
يلتقي الحوثيون مع الشرعية الرخوة في أنه لا يوجد لديهما، أو لدى أحد منهما، معنى للوطن والمواطن، وفي أن كليهما يقتاتان من الحروب، وكليهما لا يرغبان في تحقيق السلام، لأن كليهما يقتاتان من الحروب!
والخلاصة أن هستيريا القمع وجنون الاستبداد غير المسبوقة التي يشهدها اليمنيون بفعل طغيان الحوثيين وغرورهم حاليًا، والتي وصلت إلى حد الإفراط في التوحش، تنذر بخطر أكثر شؤمًا على أخلاق اليمنيين، وكرامتهم. وبمنطق العقل، وحكم التاريخ، ونواميس الله، لا يمكن للعقل أبدًا أن يتصور أن صبر الناس سيطول على ظلم الحوثة، وبغيهم، وجنون استعبادهم، وعنفهم، وشيوع فسادهم، ونهبهم للأموال العامة والخاصة، وقيامهم بتكريس ثقافة كراهية الآخر، والمبالغة في ظلم الناس وقهرهم.
فلكل فعل -كما يقال- رد فعل، كما أن الكبت يولد الانفجار، وبالتالي فالنتيجة لاستمرار الظلم، والاستبداد والطغيان، والقهر، والحرمان، وإعدام مصادر أرزاق الناس، وكذا الفساد، وغياب العدالة والمساواة، وغياب الحد الأدنى من الحرية واحترام حقوق الإنسان... كل هذا قد يؤدي بالحوثيين إلى أن يجدوا أنفسهم يومًا ما وقد أصبحوا في موضع لا يحبذه أحد منهم؛ إذ قد يلتقي غضب أقارب قتلى ومعوقي حروبهم، وضحايا قيامهم بقطع الطرقات، مع ضبح الشباب المحبط، واستياء أهالي وأبناء الموظفين الذين حُرموا من مرتباتهم، فضلًا عن الذين اجتثوهم من وظائفهم، ونصبوا أقاربهم بدلًا عنهم، أضف إلى ذلك أوجاع قوافل المعدمين من الناس الذين أوجدتهم سياسة الاستبداد، وعنف الإفقار والتجويع،، وهذه وتلك كلها عوامل كفيلة بأن توقظ في الناس الرغبة الجامحة في المحافظة على أخلاقهم من السقوط بفعل جنون الاستبداد، ورغبة جامحة جدًا في الخلاص والانعتاق من جور الظلم، والتسلط النازل بهم، والتوق إلى الحرية السياسية، والشخصية، والحياة الكريمة في ظل دولة محكومة بالدستور والقانون، تُعنى بشؤون المواطن وخدماته، وتصون حقوقه العامة والخاصة.
ورحم الله الكواكبي صاحب المؤلف الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وصاحب مقولة: "إن الأمة التي لا يشعر بعضها أو أكثرها بالاستبداد، أمة لا تستحق الحرية".
"ومادامت الحياة مستمرة، فإن الإنسان يترقى، ولكي يترقى يحتاج إلى الحرية، والحرية تنتزع، ولا توهب".
وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ السياسي قديمه وحديثه!
كلمة أخيرة:
استمرار الارتهان للخارج، وجنون استبداد الحوثة، وفوضوية، وقروية الشرعية، قنابل موقوتة وكفيلة بنسف الآمال بتحقق دولة مدنية، واستمرار بقاء الجمهورية اليمنية!