حيدرأبو بكر العطاس: جدد أمال الناس في التغيير وإصلاح المسار
استقال من الوزارة وأعاد المنزل والسيارة وسكن شقة بالمعلا
رحل عن دنيانا الفانية العزيز فيصل عثمان بن شملان، إلى جوار ربه. رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جنانه.
عرفته منذ خمسينيات القرن الماضى صادقا شجاعا صريحا، يصدح بكلمة الحق حتى لو كانت عليه أو على أقرب الناس إليه. نزيه ورع يهتم بقضايا الغير أكثر من اهتمامه بقضاياه وشؤونه الخاصة. تميز بسلوكه وعطائه منذ كان طالبا في مدرسة غيل باوزير المتوسطة بحضرموت، ثم مدرسا بها، حين تعرفت عليه، وقد وجدته محبوبا من الطلاب والمدرسين على السواء، حيث فرض حبه بصدق تعامله وصفاء نفسه وحبه للآخرين وحب الخير والصلاح للجميع. كان الطلاب والمدرسون عندما تستعصي عليهم مشكلة من مشاكل ذلك الزمان الطيب يلجؤون إليه ليجدوا عنده الحل، فهو، إلى صدقه وبساطته، اشتهر بحزمه وصرامته، مميزا بين الصح والغلط والحق والباطل، لا يرجو من ذلك إلا خير وصلاح الجميع.
والمحطة الثانية كانت لقائى به مع عدد من زملائه طالبا جامعيا في لندن في المرحلة النهائية. وقتها قدمت كطالب جامعي للتدريب في بريطانيا أثناء عطلة الصيف. كنا حينها لا نضيع وقتا في سبيل البحث عن العلم والمعرفة، فوجدته أيضا يحظى بنفس التميز في السلوك والعطاء بين زملائه ويحظى بحبهم جميعا. لا يدخر جهدا في تقديم المساعدة والنصح لنا لإكمال مهمة التدريب العملي بنجاح. كان ذلك في صيف العام 1965، لكن تلك اللحظات الرائعة تهجس في خاطري ما تزال لكأنها وقعت بالأمس! إنها الذكريات مع الكرام لا تنسى ولا تبلى.
والمحطة الثالثة كانت لقائي به في ذروة النضال لإسقاط المناطق قبيل إرغام الاستعمار البريطاني على الرحيل وإنجاز الاستقلال الكامل لأرض الجنوب الأبي المحتل. قدمت كطالب في السنة النهائية قبل التخرج إلى المكلا فوجدته على رأس اللجنة الشعبية لإدارة شؤون حضرموت، فقد وقع الخيار عليه من بين الكثير من الشخصيات والكوادر لتلك الصفات التي يتميز بها. بادرني فور لقائي به طالبا مني مرافقة الأستاذ الجليل الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، رحمه الله، إلى العراق ولبنان ومصر لاستقدام مدرسين للمدارس الثانوية، فقد كان قلقا من أن يحل العام الدراسي قبل وصول المدرسين ليشغلوا الفراغ الذي تركه المدرسون الأجانب الذين رحوا مع المستعمر. أنجزنا المهمة وعاد الدكتور بافقيه إلى المكلا وعدت أنا إلى القاهرة لاستكمال الدراسة. كان ذلك في شهر أغسطس من العام 1967. وفي ال30 من نوفمبر من نفس العام رحل الاستعمار وأعلن الاستقلال الوطنى للجنوب كاملا، وفي أول حكومة لجمهورية اليمن الجنوبية اختير طيبا الذكر المرحومان بإذن الله تعالى المهندس فيصل بن شملان وزيرا للأشغال العامة والمواصلات، والدكتور محمد عبدالقادر بافقيه وزيرا للتربية والتعليم.
أما المحطة الرابعة فقد ثبتت قناعاتي بمثالية وشجاعة وصدقية شخصية المرحوم. كان ذلك في العام 1969 عندما أقر إعادة هيكلية السلطة بفصل منصب رئيس الدولة وتشكيل حكومة جديدة، تم اختيار مهندس الثورة والاستقلال فيصل عبداللطبف الشعبى، رحمه الله رحمة الأبرار، لرئاسة الحكومة الجديدة، وكان رئيس الحكومة المكلف جدد اختيار المهندس فيصل بن شملان لعضوية الحكومة في منصب وزير الأشغال والمواصلات، لكنه اعتذر وكان قد قدم استقالته من الحكومة قبل ذلك بأكثر من شهر، وذهب إلى قريته: السويري، بالقرب من مدينة تريم، وتم اختياري لنفس المنصب، لكنني طلبت إعطائي بعض الوقت لمحاولة إقناع الأخ فيصل بالعدول عن رأيه وقبول إعادة ترشيحه لشغل منصب وزير الأشغال. كنت حينها مهندسا للكهرباء بالمكلا، ولم يمض على تخرجي أكثر من 8 أشهر، وكنا نتهيب هذه المناصب قبل اكتساب الخبرة الكافية. ذهبت إلى الأخ فيصل إلى السويري، وجلست معه يومين في محاولة لإقناعه بالعدول عن رأيه، لكنه اعتذر معللا بصدق سبب اعتذاره إذ قال: لا أستطيع شغل أي منصب سياسي في حكومة يلوح في الأفق أنها سوف تتبنى نهجا أختلف معه، مشيرا بذلك إلى ما طرح في المؤتمر الرابع بزنجبار. قلت له كلنا نختلف مع ذلك، فرد لكنك عضو في التنظيم وأنا لست عضوا، وتملك حق المناقشة داخل التنظيم وأنا لا أملك هذا الحق. وعندما هممت بالحديث قال لا أنوي الانضمام للتنظيم، فأنا أفضل أن أظل مستقلا. احترمت فيه هذا الموقف الصريح والشجاع وتدبست أنا في المنصب؟! وتضاعف احترامي له عندما أعاد المنزل والسيارة اللذين خصصا له كوزير، واكتفى بالسكن في شقة بالمعلا، في الوقت الذي يتطاحن فيه الناس للحصول على المنصب والمنزل والسيارة بحق أو بغير حق.
كثيرة هي المواقف والمحطات التي جمعنا العمل فيها. وكان المرحوم دائما يتميز بمواقفه الصادقة والشجاعة، وبنزاهته النادرة، هو الذي تولى الكثير من المناصب الكبيرة والهامة، فقد عمل مديرا للهيئة العامة للكهرباء في عدن، ثم مديرا عاما لمصافي عدن بعد أن آلت ملكيتها للدولة من الشركة البريطانية بموجب الاتفاق، وقد شهدت هاتان المؤسستان أزهى فترات تطورهما في عهده، لأنه كان صادقا ومخلصا في إدارته لهما، ولم يسع لحظة للاستفادة الشخصية من هذه المناصب، وإنني لمتأكد بأن هذه الهيئات بكت عليه مرتين،؛ الأولى عند تركه العمل في إدارتها، والثانية عند رحيله الأبدي عن دنيانا الفانية.
كان موقفه عدم الاستعجال في إعلان الوحدة، لكنه عمل خلالها بإخلاص في كل موقع شغله، مقدما النصائح والآراء النيرة والمخلصة لكل الأطراف لإصلاح المسار والنهج والقيادة، لكن أحداً لم يسمع منه، فحلت كارثة حرب صيف 1994 لتقضي على الآمال والأحلام، مقصية الشريك في الوحدة، وقد سعت قيادة الحرب المنتصرة إلى تزيين نفسها بشخصيات جنوبية كشخصية المرحوم وغيره، واعدة بإصلاح ما أفسدته الأيام، لكن سرعان ما انكشف المستور لتظهر العورات على حقيقتها، فلم يستطع، كغيره، التعايش مع الكذب والنفاق والفساد، إذ قدم استقالته قبل انقضاء سنة من تبوئه منصب وزير النفط، المنصب الذي يسيل له لعاب الكثير من الرجال.
أتذكر مكالمة هاتفية جرت بيننا عندما زار لندن بعد الحرب. كنت حينها في واشنطن، وكان ذلك قبيل استقالته بحوالي شهرين. قال كلمة أكدتها الأيام والأحداث: لا فائدة ترجى للشعب ولا أمل من هذه القيادة طالما ظلت ترعى الفساد...
ومرت الأيام مؤكدة مقولته تلك، وضاق الحال بالبلاد والعباد، وتحركت المعارضة الشعبية الممثلة بأحزاب اللقاء المشترك تنشد التغيير، فصدق كغيره انطلاقا من إيمانه بالتغيير كشرط للخروج من الأزمات المتلاحقة قبل أن تصير البلاد إلى مصير مجهول، وتقدم الصفوف حين تراجع البعض، وخاض المعركة الانتخابية ببسالة نادرة وصدق رؤى، فاحتضنته الجماهير التي هبت في مشهد رائع يؤكد حاجتها إلى التغيير لا من أجل التغيير، ولكن من أجل إنقاذ البلاد من الأوضاع الماساوية وإصلاح المسار وتدارك المصير المهلك الذي تقود إليه سياسة الفساد والإفساد التي استوطنت مفاصل السلطة وأركانها. فاجأت جماهير الشعب السلطة بهذا الموقف الرائع المنحاز إلى ممثل الشعب، فطار صواب سلطة الفساد المتهالكة التي لم تتورع عن استخدام آخر أدواتها الإرهابية بتفجير الأوضاع في مسرحية هزلية سخر منها الصديق قبل العدو، لكنه هو سلاحها الأخير والأمضى، في نظرها، للاحتفاظ بسلطة الفساد.
لقد سجل الأخ المهندس فيصل بن شملان، في آخر محطات حياته، هذا الموقف الرائع الذي حطم قيود الخوف والخنوع، مجددا آمال الشعب في التغيير وإصلاح المسار، وهو الموقف الذي سيظل محفورا في ذاكرة التاريخ. فنم يا أبا تمام قرير العين، فقد بدأ سلاح الإرهاب، الذي رفعته السلطة في وجهك وفي وجه جماهير الشعب، لاختطاف نتيجة تصويتها، بالانهيار بعد أن بلغ مداه، حيث أرادت تفجيره، هذه المرة، في وجه الحراك الجنوبى السلمي الذي ينشد التغيير وإصلاح المسار، فارتد إلى نحرها، وسيكون هذا الارتداد بعون الله ومشيئته ونضال الشعب السلمي الذي حان الوقت لالتحامه في ساحة الشمال للالتحاق بساحة الجنوب دون تلكؤ أو تأخير، سببا في التعجيل بإسقاط سلطة الفساد وتصفية كل أدوات وأوكار الإرهاب.
رحمة الله وغفرانه عليك يا أبا تمام.
حيدر أبو بكر العطاس
* باريس 3 يناير 2010
حيدرأبو بكر العطاس: جدد أمال الناس في التغيير وإصلاح المسار
2010-01-07