صنعاء 19C امطار خفيفة

دور يبحث عن يمن

2010-01-05
دور يبحث عن يمن
دور يبحث عن يمن
*علي سيف حسن
> الإهداء:
إلى دعاة الحوار والساعين إليه في كل المواقع ومن مختلف الأطراف، وإلى كل المتطلعين إلى يمن جديد أهدي مقالي الذي سبق نشره في العدد الأول من مجلة "مدارات" الصادرة عن مركز سبأ للدراسات الإستراتيجية، لتعلموا أن التنازلات التي يجب أن نقدمها لبعضنا البعض، والتي قد تبدو جسيمة بل ومريرة، تظل صغيرة، صغيرة، وصغيرة جداً أمام ما سيحققه اليمن من استقرار وتنمية بفضل الوفاق السياسي والتوافق الوطني.
اللهم أزل عن آذاننا وقراً، وأزل اللهم عن قلوبنا الغفلة، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يعتبرون الحسن حسناً لذاته والقبيح قبيحاً لذاته. اللهم آمين.
لست بحاجة إلى تركيز النظر لأرى في أفق اليمن دوراً محلقاً يبحث عن يمن ليحط رحاله فيه. فالمحيط الإقليمي والبعد الدولي بحاجة ماسة ليمن قادر على القيام بدور يتوافق مع الحديث النبوي الشريف الذي أوصى باليمن إذا ما اشتدت المحن. وهم فعلاً اليوم يواجهون تحديات محن شديدة، وقد استخدموا كل ما هو متاح أمامهم لمواجهة هذه التحديات، إلا أنهم مازالوا بحاجة إلى دور لا أحد يستطيع أن يؤديه غير اليمن.
على مدى التاريخ والقادة الإستراتيجيون يعرفون أهمية اليمن وتأثيراتها السلبية والإيجابية عليهم. وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يعتبره غير المؤمنين به أعظم القادة الذين عرفتهم البشرية، قد نبه وأكد على الدور الإستراتيجي الهام لليمن.
كما أن قادة ومؤسسي دول الجوار وبنظراتهم الثاقبة، وكما يردد الرواة، قد أوصوا خلفاءهم بأن خيرهم وشرهم من اليمن، وبالغريزة الفطرية لدى الإنسان، وبالحصافة والبديهة تم تقديم خيار درء المفسدة على خيار جلب المصلحة في علاقاتهم معنا.
وكذلك فعل الأبعدون.
لماذا اقتصر خيار الجميع في علاقتهم معنا على إستراتيجية درء المفسدة، وهي حالة استثنائية ومؤقتة في كل العلاقات بين الشعوب والأمم؟
ولماذا لم ينتقلوا إلى إستراتيجية جلب المصلحة بالرغم من أنها هي العلاقة الطبيعية والمستدامة في العلاقة بين الشعوب والأمم؟
لا أريد أن أحمل الآخرين المسؤولية وتبرئة الذات، كما أنني لا أحب جلد الذات أيضا. سأكتفي بالقول إننا نحن اليمنيين لم نتمكن من التعرف على اليمن كما هو بكل مكوناته واكتفينا بمعرفة ما هو ظاهر وبارز لنا كيمنيين من يمننا. وضاق بنا الأفق إلى حد أننا لم نعد نرى في اليمن سوى كثافة سكانية وموارد شحيحة مستنزفة. تصورنا هذا عن ذاتنا بلغ إلى عقول وتفكير التكنوقراط المهتمين باليمن من الجوار ومن القوى الدولية.
وبالنتيجة ضمرت طموحاتنا وتراجعت من إستراتيجية إدارة التنمية إلى مهارات إدارة الفقر، ومعها تقزمت آفاق علاقاتنا مع الجوار والعالم من آفاق الشراكة إلى قنوات المساعدات، وأصبحنا نتعامل مع العالم والجوار كمانحين لا كشركاء.
يمن كهذا لا يستطيع أن يحقق سوى تحفيز واستنفار المخاوف الغريزية لدى الجوار والعالم، ويعزز لديهم صوابية اختيارهم لإستراتيجية درء المفسدة في علاقتهم معنا. بالمقابل، وكرد فعل غريزي أيضا، فقد تعزز لدينا الارتياب والتوجس منهم، وكحلقة مغلقة تعززت إستراتيجية درء المفسدة وتجنب الخطر المتبادلة بيننا وبينهم.
يمن كهذا ليس هو اليمن الذي يبحث عنه الدور، يمن كهذا غير مؤهل لخلق إستراتيجية علاقات مع الآخرين قائمة على أساس جلب المصلحة. فأي يمن يبحث عنه الدور المحلق في مدارات اليمن وأفقها؟ إنه اليمن الذي يتجاوز حدود الكثافة السكانية والموارد المستنزفة. إنه اليمن بتاريخه العريق، وموقعه الإستراتيجي الهام، وغنى تنوعه: البيئي، الطبيعي، الاجتماعي، الثقافي، السياسي، والإعلامي.
إنه اليمن كما هو فعلاً لا كما نراه نحن اليوم. إنه يمن النخبة السياسية والثقافية والاقتصادية المقتدرة على التخيل والإبداع، وتمتلك الأفق الواسع النظر بامتداد خارطة العالم لترى أن النمو والتنمية لا يعتمدان على الموارد الطبيعة فقط، فكثير من دول العالم الغنية بالمورد الطبيعية تعاني من شقاء التخلف، وكثير من الدول شحيحة الموارد تنعم بالرفاه.
إنه اليمن صاحب الإرادة الوطنية الواثقة والمقتدرة على إعادة صياغة أسس العلاقة مع الآخرين، من إستراتيجية درء المفسدة إلى إستراتيجية جلب المصلحة. فما الذي لدى اليمن كل اليمن ليقدمه للجوار والعالم كمصلحة هم بحاجة إليها ليستطيع في المقابل طلب مصلحة مقابلة تمثل الثمن العادل لما يقدمه؟
لنبدأ بالنظر إلى الطرف الشرقي لليمن والذي يمثل بوابتنا نحو الخليج العربي حيث تتوفر كل الشروط والمتطلبات لنقل وتخرين جزء كبير من نفط الخليج بأمان وبما يجنبه مخاطر المرور في مضيق هرمز.
هذا الدور يمثل حاجة إستراتيجية لمنتجي النفط ومستهلكيه في الخليج والعالم. وهذا الجزء من اليمن يمثل الموقع الإستراتيجي الأنسب.
وبالنسبة لنا فإن مشروعاً كهذا يحقق عوائد تنموية نحن بأمس الحاجة لها، ويستحق أن نقايضه بمصالح لا تقل أهمية لنا كما هي بالنسبة لهم. المانع أو العائق الوحيد أمام جلب المصلحة المتبادلة من خلال هذا المشروع هو هيمنة ثقافة التوجس والارتياب لدى الأطراف المستفيدة من المشروع. وهي هواجس مشروعة ومنطقية في ظل سيادة إستراتيجية درء المفسدة. إلا أنها يمكن أن تضع لها الاحتياطيات والمعالجات إذا ما توفرت الإرادة لاعتماد إستراتيجية جلب المصلحة.
كل ما تحتاجه هذا الأطراف مجتمعة أو بمبادرة أحدها، هو فقط الإصرار على تبني المشروع باعتباره أساساً لمزيد من مشاريع المصالح المتبادلة، وحينها ستوجد الكثير من المتاحات للتعامل مع مبررات التوجس والارتياب. إن أبسط البدائل المتاحة والممكنة والفاعلة لتحقيق ذلك تتمثل بمنح حق إدارة تشغيل وأمن هذه الأنابيب والخزانات إلى شركة مختلطة نساهم نحن في تأسيسها مع بقية الشركاء المستفيدين من المشروع، منتجي النفط الخليجيين والشركات النفطية العالمية.
وإذا ما وصلنا إلى مثلث عدن الكبرى، والذي يمكن تحديده مبدئيا بذلك المثلث الممتد من شقرة إلى المخاء مروراً بمنطقة العند، والذي يمثل واجهة اليمن التاريخية والمستقبلية نحو العالم، والمنفذ الأكثر تناسباً لدول الخليج العربي نحو أفريقيا، سنجد موضعا استراتيجيا مناسباً ومنافساً لاستضافة المخازن التجارية ومجمعات الصناعات التجميعية للشركات الخليجية والعالمية المتطلعة إلى الأسواق الأفريقية.
ونبقى في مداراتنا حول الشواطئ والجزر اليمنية بما تمثله من منتجعات سياحية وصحية يحتاجها السياح من مختلف بلدان العالم وشعوب الأرض، وبما يملكونه من استعداد ومقدرة على دفع الثمن العادل لذلك.
تتجه المدارات نحو العمق اليمني ومرتفعاته، الذي يمثل حصن اليمن وتحصيناته عند الضرورة والحاجة. هنا سنجد التاريخ اليمني العريق متجسداً بالمواقع والآثار التاريخية للعديد من الديانات السماوية والحضارات الإنسانية. هذه المواقع تمثل بالنسبة لليمن، كما هي بالنسبة لبقية شعوب الأرض، ثروة هائلة ومصدرا لمصالح مستدامة. وكل ما تحتاجه هو إعادة تأهيلها والمحافظة عليها وجعلها متاحة وآمنة للراغبين بزيارتها من كل بقاع الأرض كسياحة دينية وثقافية متزايدة.
ومع ارتفاع مداراتنا يبدو اليمن أمامنا كياناً واحداً بكل مكوناته وبموقعه الإستراتيجي الهام الذي قد يبدو بعيداً عن حدود الدول العظمى إلا أنه في الواقع قريب جداً من مصالحها وأمنها. فما الذي يحتاجه العالم من بلد يحتل هذا الموقع الإستراتيجي الهام؟ وما الذي يمكننا أن نقدمه نحن للعالم من خلال علاقة جديدة قائمة على أساس جلب المصالح المتبادلة؟
إن العالم ودول الجوار معاً بأمس الحاجة إلى الأمن والاستقرار في هذه البقعة من الأرض، وهم يعلمون جيداً، وبحكم تقييمهم لدور اليمن على مر التاريخ، ولما تمثله المكونات الطبيعية والسكانية لليمن من مصدر خير أو شر للآخرين. لقد عرفوا يقيناً أن اليمن الحالي مقتدر على أن يكون مصدراً للمخاطر، وعلى هذا الأساس تبنوا إستراتيجية درء المفسدة في علاقتهم الحالية مع اليمن. لكن المنطق والحصافة يؤكدان حاجتهم واستعدادهم للانتقال إلى إستراتيجية جلب المصلحة كونها الخيار الطبيعي والمنطقي القابل للاستدامة لهم ولنا.
فهل نحن قادرون على توفير الأمن والاستقرار لنا ولهم؟ نعم نحن قادرون على ذلك، ولدينا كل المقومات اللازمة لذلك. وكل ما نحتاجه هو إرادة وطنية جمعية واثقة ومقتدرة على التغلب على الهواجس والارتياب، وتجاوز علاقة درء المفسدة إلى علاقة جلب المصلحة مع الأهل ومع الآخرين. إن إرادة كهذه لا يمكن أن تتوفر بدون وفاق سياسي وتوافق وطني جمعي يعزز هذا الاختيار ويبدد مصادر التوجس والارتياب، ويوفر الثقة والاقتدار الوطني للتعامل مع احتمالات الكمائن السياسية.
هذه مجرد ملامح لما يمكن أن يقدمه اليمن للجوار والعالم، ويستطيع أن يتبادل معهم المصالح، وأن يرتقي بعلاقته معهم من مستوى المانحين إلى مستوى الشركاء. ومازال بالإمكان رؤية فرص وممكنات ومتاحات كثيرة، المهم أن تتوفر الإرادة والتوافق الوطني لذلك.
إن يمناً كهذا سيكون قادراً على توفير متطلبات الدور الحائم في مدارات اليمن، وسيكون قادراً أيضا على أن ينتقل بنا نحن اليمنيين من حالة انشغالنا ببعضنا -كما هو حاصل حالياً- إلى حالة انشغالنا عن بعضنا كما يجب أن تكون عليه حالتنا.
إن التعمق في البحث عن الأسباب الحقيقية وراء الكثير من الأزمات والمشاكل التي نعيشها حالياً، بما فيها المشاكل في الجنوب أو في صعدة، ترجع أساسا إلى تمركز كل مصالحنا كأفراد وجماعات حول ما تبقى من موارد مستنزفة، وحول ما يتاح لنا من منح ومساعدات. سيتزايد تكالبنا وتنازعنا بل وتصارعنا حول ما تبقى لنا من موارد على وشك الاستنزاف، وحول ما تيسر لنا من منح ومساعدات من مانحين متوجسين منا، ما لم تحدث المعجزة الاستثنائية لهذا الجيل، ويمتلك إرادة وطنية واثقة ومقتدرة، محمية ومعززة بوفاق وطني، تستطيع تفعيل واستخدام كل المكونات اليمنية، وتوفر المجال والفرص لكل منا، أفراداً وجماعات، لتحقيق الذات، وجني المصالح المشروعة بصورة عادلة تتناسب مع ما بالإمكان أن يقدمه كل من مكونات اليمن البشرية والطبيعية والثقافية والسياسية، في عملية تبادل جلب المصالح مع الآخرين.
                                                              * رئيس منتدى التنمية السياسية

إقرأ أيضاً