المنطقة على صفيح ساخن، ولا بد من التأكيد هنا على ما قلناه سابقًا من أن التهور الإسرائيلي في توسيع رقعة الاحتلال في الأرض الفلسطينية من خلال الاستمرار في بناء المستوطنات، وإمعان الحصار على الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة ورام الله وغيرها من المدن الفلسطينية، والقتل اليومي بسبب وبدونه، كان لا بد من إبقاء وهج المقاومة مشتعلًا، وما فعلته حماس يوم سبعة أكتوبر من العام المنصرم، ما هو إلا ردة فعل طبيعية على الأفعال الصهيونية الاستفزازية والكارثية، وبصرف النظر عن نتائج الرد الإسرائيلي الإجرامي على عملية طوفان الأقصى، الذي استهدف السكان الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، واستهدف المساكن والمدن والبنية التحتية، إلا أنه يمكننا فعلًا الحديث عن حجم الورطة التي وقعت فيها حكومة إسرائيل من خلال هذه الحرب الهمجية التي لن تؤدي ولن تقود إطلاقًا للقضاء على المقاومة الفلسطينية، ولن تقود المواطن الغزاوي الفلسطيني لترك أرضه والرحيل منها كما كانت تخطط حكومة نتنياهو.
إذن، ما هي النتيجة؟ النتيجة أن إسرائيل تورطت فعلًا بملف إجرامي كبير سوف يلاحقها مدى الحياة، خصوصًا وأنها لم تعد الآن فوق القانون الدولي، ولم تعد لوبياتها وآلتها الإعلامية قادرة على خداع الناس والشعوب، لا سيما في الغرب.
الشيء الآخر أن الرعونة الإسرائيلية قادت أمريكا وبريطانيا للمنطقة لأول مرة، وبشكل مباشر، للدفاع عنها بالأسلحة الحديثة والجنود والأساطيل، في مواجهة فصائل مقاومة لا تتجاوز أعداد أفرادها بضعة آلاف، وتمتلك سلاحًا متواضعًا وبسيطًا، وهو الأمر الذي كان متوقعًا أن أمريكا ستجد نفسها تغرق في حرب واسعة في المنطقة مع إيران والجماعات العربية التابعة لها في الشام والعراق واليمن، لسبب واحد، وهو أن إيران ترى في ما حدث منذ طوفان الأقصى، هو الفرصة المناسبة لمواجهة شاملة مع أمريكا بهدف إرباكها وإضعافها وتحويلها من أسد مفترس إلى أسد جريح يفكر بحماية نفسه فقط، وغير قادر على حماية حلفائه في المنطقة، وهذا ما تريده إيران بالطبع كي تتفرغ للنزال والجولة الأخيرة من معركتها الطويلة مع الأنظمة في المنطقة والخليج، وفي المقدمة النظام السعودي.
حالة المشاغبة والضربات المتفرقة التي تقوم بها أذرع إيران ضد أمريكا في البحر الأحمر وباب المندب، وفي سوريا والعراق وغيرها، هي تلك مخالب وأنياب الذئاب التي تجرح الأسد الأمريكي في جسده وكبريائه، وبالتالي تجعله ينكفئ للدفاع عن نفسه فقط، متورطًا غير قادر على توسيع المعركة والإلمام بها، لأن ذلك لو حدث سوف يقوده لورطة أكبر، وهي نهاية وجوده في المنطقة لصالح إيران ومشروعها التوسعي، ولصالح قوى دولية أخرى هي روسيا والصين.
المخطط الإسرائيلي التوسعي من النيل إلى الفرات، والذي بسببه حدث ما حدث في فلسطين منذ سبعة عقود، ونيف، وما يحدث بغزة الآن، سوف يتلاشى بسبب الورطة الكبيرة في غزة، ولن يكون لهذا المشروع أي داعم أو سند سياسي أو ديني بعد اليوم، وهذا في الحقيقة يصب في صالح إيران، التي لربما أرادت أمريكا وإسرائيل توظيفها لإسقاط أنظمة عربية كما حدث مع نظام صدام حسين في العراق وغيره، ومن أجل تصفية أو إضعاف العرب السنة في الشام والعراق،
لكن هذا التوظيف لن يستمر لسبب وحيد، هو أن إيران لديها مشروع في المنطقة وطموحات، على عكس الأنظمة العربية التي تعمل ضد بعضها وضد نفسها، وبالتالي لن تسمح لإسرائيل بتحقيق مشروعها على حساب طموحاتها ونفوذها، وهذا هو الذي يحدث تمامًا الآن في المنطقة ضد أمريكا، لا سيما وأن إيران وجدت الفرصة أمامها كبيرة وسانحة، لأن أمريكا هي من جاءت إليها ولم تذهب هي إليها، وحينما تستنزف أمريكا ويجرح الأسد تمامًا، ويصبح غير قادر على الدفاع عن حلفائه، سوف تبدأ إيران معركتها الرئيسية مع النظام السعودي في تقديري، ثم مع إسرائيل التي ستخرج مهزومة من حربها في غزة وهكذا.
لن تكون إيران مجرد قفاز أمريكي إسرائيلي في المنطقة هذه المرة، وإنما ستكون وحشًا شرسًا يعرف كيف يختار المعركة، ويوظف أدواته، ويفترس خصومه، وهذا في تصوري لو حدث الأمر سوف تتغير المنطقة تمامًا، وسوف ونرى لاعبين دوليين جددًا فيها، وسوف يؤدي ذلك إلى تغييرات في مسرح القوى العالمية، وبروز وسقوط هيمنة القطب الواحد.
عمومًا، أمريكا في ورطة، وكذا إسرائيل، وأيضًا أنظمة عربية في المنطقة موالية لهم، وتحتمي بهم، وإن لم تحدث أي تغييرات مهمة وحاسمة وسريعة، فإن المعركة قد تتوسع أكثر، وهذا لا يخدم أمريكا وحلفاءها في المنطقة البتة، وسيكونون الخاسر الأكبر.