منذ أيام، تشرفت بزيارة الصديق العزيز الدكتور حسين جعفر السقاف، الوهطي الأصل والهولندي الجنسية. عرفته عبر الفضاء الافتراضي منذ خمس سنوات. تبادلنا متابعة المنشورات، وتواصلنا عبر وسائط التواصل الاجتماعي بالحرف والصوت والصورة، ولكننا لم نلتقِ على أرض الواقع إلا في 27 يناير 2024.
سعدت كثيرًا بزيارته، لا سيما وأنه بالنسبة لي أكثر من صديق حقيقي، والأصدقاء الحقيقيون مثل الأحجار الكريمة، نادرون، وتزداد قيمتهم وأهميتهم في بلاد الغربة والاغتراب. ولطالما قد بعثت عن أي أحد يقرب لأستاذي الفيلسوف أبو بكر عبدالرحمن السقاف، منذ زمن طويل، ولم أجده في ما مضى للأسف الشديد، رغم كثرة من أعرفهم من الذين يحملون لقب العائلة السقافية الكريمة، ولكنهم لا يعرفون من الأستاذ إلا اسمه!
المفكر الراحل ابو بكر السقاف
وحده حسين بن جعفر السقاف الذي وجدت لديه من القرب الروحي والفكري للدكتور أبو بكر السقاف، ما يشبع ويروي! كان الوحيد من السقافيين في الفضاء الافتراضي، الذي يبدي اهتمامًا فعليًا في كل ما أكتبه وأنشره عن الراحل العظيم أبو بكر السقاف. رجل ستيني يتقد حيوية ونشاطًا على درجة عالية من الثقافة الرفيعة؛ جمع بين الهندسة والأدب والفلسفة. على مدى 24 ساعة تقريبًا قضيناها مع بعض في مدينة بحرية تشبه الإسكندرية، كانت روح الفيلسوف المعلم تباركنا. حدثني عن تجربته في الحياة والدراسة والنضال المدني. وعرفت أنه أكمل دراسته العليا الدكتوراه في كلية هندسة الصناعات النفطية في جامعة موسكو، وتزوج من زميلته الرائعة الكازاخستانية آلاء. أنجب منها مريم ونعومة، الأولى شاهدها قبل سنوات في البرلمان الهولندي، وها هي اليوم عضوة المجلس المحلي في رابع أكبر مدينة هولندية، والثانية نعومة تحضر الدكتوراه في النقد الثقافة والدراسات الثقافية، وكاتبة قصة قصية باللغة الهولندية. أكمل دراسته للدكتوراه في موسكو، فنشبت حرب 1994م، فقرر الذهاب إلى هولندا مع عائلته عام 1995. وفي هولندا التحق في الجامعة ماجستير هندسة مدنية، وصار بفضل ذلك من كبار المهندسين المدنيين في هولندا، لديه مكتب تصاميم هندسية مع زوجته، ويمارس نشاطه الهندسي في عموم الدول الأوروبية، إذ له في كل مدينة بصمة هندسية، فضلًا عن تمكنه من اللغة الهولندية واللغة الروسية واللغة الإنجليزية كتابة وقراءة. حدثني أنه قرأ الأدب الروسي باللغة الروسية. في المدينة البحرية أراني أحد الأبراج الذي صممها بنفسه. رغم تخصصه في الهندسة، إلا أنه أفضل من حدثني عن الأدب والفلسفي. استمعت إليه وهو يروي عن تجربة حياته في أوروبا. ربما كان أفضل من لخص الفرق في الانشغالات الفلسفية بين الشرق والغرب. قال لي: هنا لا يتفلسفون، بل يعيشون الفلسفة ذاتها. تلك الفكرة لفتت انتباهي، وجعلتني أطلب منه توضيحًا لها. كان مثقفًا يعرف عماذا يتحدث! إذ هنا في الدول الأوروبية المتقدمة لن تجد من يتحدث عن الحرية والقيم الأخلاقية مثل الصدق والكذب والنفاق والحسد والغش وبر الوالدين وحقوق المرأة والأطفال... الخ. هم أصلًا يعيشونها بوصفها مسلمات بديهية ومن طبائع الأمور، فإذا تكلمت عن الفرق بين الصدق والكذب، لن يفهم أحد، لأنهم لا يعرفون الكذب أصلًا. وقس على ذلك، بينما مازال المفكرون العرب يشتغلون على قضايا ومفاهيم تجاوزها الأوروبيون منذ زمن طويل.
تبادلنا أطراف الحديث في كثير من الأموار والهموم الخاصة والعامة، وسألته في الأثناء عن سر تميز مدينة الوهط الحانية بهذا النبوغ المبكر، إذ هي واحة صغيرة تقع في منتصف الطريق بين عدن الساحلية وحوطة لحج العبدلية، على ضفاف وادي تبن. في تلك الواحة الزاخرة بالعلم والتعليم والفن والثقافة التقليدية، ولد وترعرع الفيلسوف أبو بكر السقاف، مع أقرانه من الذين لمعت أسماؤهم، أمثال الروائية أبكار السقاف في مصر، وأحمد محمد زين علوي السقاف، وزير المعارف والنشر في دولة الكويت، ومؤسس مجلة العربي الثقافية، ومن الوهط نبغ الأديب الراحل عمر الجاوي، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، والدكتور محمد جعفر زين السقاف، أول رئيس لجامعة عدن، والدكتور أحمد السقاف، أول وزير دولة في المملكة الأردنية الهاشمية. ومن الوهط أفضل الأطباء اليمن، وأشهرهم في الباطني الدكتور عبدالعزيز علي حسين السقاف، وفي الجهاز الهضمي والكبد الدكتور عمر محمد علوي السقاف، وأشهر دكتور في أمراض الصدر، الدكتور عبدالله بن عبدالله السقاف، وأشهر دكاترة العيون في صنعاء سمير حسن جعفر السقاف الشيبة، والدكتور حميد سالم بكير السقاف في عدن، والدكتور فيصل محسن علي زين بكير السقاف، دكتور عيون مشهور في مستشفى عدن... والقائمة طويلة.
وقد حدثني الباش مهندس حسين السقاف بأن والده كان من مؤسسي جهاز الرقابة والمحاسبة في دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي كانت زمان قبل الوحدة الاندماجية. حينما سألته عن سر تفوق الوهط التي تعني الأرض المنخفضة، كشف لي عن واقعة مهمة جدًا تتصل بعلاقة الوهط بالاستعمار البريطاني في عدن إذ قال لي: إن مدينة الوهط برجالها الأشاوس دفعت ثمن موقفها المعارض للوجود البريطاني في عدن، إذ كانت المدينة الوحيدة التي قاتلت الإنجليز ببسالة من ثلاثينيات القرن الماضي حتى عام 1948، حيث قررت الإدارة البريطانية نفي كل أبناء الوهط الذكور الذين بلغوا سن القتال. عشرات الأسر تم تهجيرها إلى مصر وإثيوبيا والسودان والهند وغيرها. وربما كان هذا التهجير لأبناء الوهط الكرام، منحهم فرصة الاحتكاك بحضارات وثقافات مختلفة، وجعلهم أكثر نضجًا وسعة أفق من غيرهم، إذ نعلم أن مشكلة وعي الذات وفهم الآخرين ليست من البساطة بحيث تنكشف للناس بذاتها ولذاتها دون عناء أو جهد يذكر، بل هي عملية شديدة التعقيد وعسيرة الفهم، إذ قد يعيش الناس عشرات أو مئات السنين في بعض الحالات، دون أن يتمكنوا من اختراق الحجب والأقنعة التي تحول دون وعيهم لذاتهم وللآخرين، فالذات إذا ما تركت لذاتها دون خبرة التفاعل والاحتكاك المباشر بالآخرين، تظل عمياء ساذجة وفطرية غير واعية لذاتها، وغير مدركة لهويتها التي تميزها عن هوياتهم المختلفة، إذ بأضدادها تتمايز الأشياء! والطريق الوحيد لتحقيق كشف المحجوب عن الذات والآخر، لا يتم إلا بالاحتكاك والتفاعل المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين في أثناء الممارسة الحياتية، وتغذيتها الراجعة في سياق تفاعلي مقارن، فرصد الآخرين وتأويلهم هو الوسيلة الممكنة في فهم الذات؛ فالآخر هو دائمًا مرآة الذات ومبعث هويتها.
وهذا ما يفسر قدرة أبو بكر السقاف على تجاوز مرجعيته التقليدية الدينية الهاشمية لصالح الهوية الإنسانية العمومية التي لا ترى أي فروق بيولوجية إثنية بين الناس، وكل الصفات والتسميات والهويات هي مصطنعة لأغراض تنافسية سياسية وأيديولوجية ضيقة.
كان يومًا فلسفيًا وهندسيًا حافلًا بالثقافة المتنوعة، يصعب عرضها في هذه العجالة، وإذا كان لا بد من خاتمة لهذا الإطلالة، فيمكنني أن أختتمها بتلك الوصية الحاذقة التي أوصاني بها صديقي العزيز دكتور حسين جعفر السقاف، بشأن أهمية تعلم اللغة الأجنبية، إذ قال: عليك أن تفهم هذه القاعدة المنهجية في التفريق بين اللغة العربية واللغة الهولندية، ألا وهي أن الجملة العربية فعلية، بينما الجملة الهولندية اسمية تبدأ بالفاعل، ويكون الفعل دائمًا هو الثاني، إذ يستحيل قول جملة بالهولندية بدون فعل وفاعل، بينما في اللغة العربية يمكنك قول أو كتابة جملة طويلة جدًا من الأسماء والصفات، وبدون فاعلين وأفعال، وضرب لي مجموعة من الأمثلة لم أعد أتذكرها الآن. ودمتم بخير وسلام.
ونحن نتكلم عن الدكتور أبو بكر السقاف، على شاطئ بحر الشمال، تأكدت من حقيقة العبارة التي كتبتها حينما رثيته، ومؤداها: لا يموت المرء إلا حينما يكف الناس الأحياء عن تذكره وتأمل سيرته، أما وثمة قلوب وأفئدة ما برحت تتذكره بمحبة واعتزاز، فهذا لعمري هو المواساة عن الموت والغياب.
حينما تجتمع الفلسفة والهندسة
2024-01-30