ربما كان الكولونيل صالح مصلح قاسم غلطة في المكان والزمان.. وهو مهما كان من بين الأرقام الصعبة في قيادة "ج ي د ش".. وقد ترددت كثيرًا في تناوله في أي حديث، أولًا لعدم اقترابي منه بما يكفي، فما أعرفه فيه وعنه قطعًا أقل كثيرًا مما أجهله عنه، وثانيًا لشخصيته المركبة شديدة التعقيد.. هو من تلك الوجوه، دعونا نقل التي تعشقها الكاميرا.. وهو خليط من العسكري الشجاع والمحنك..
ومن البلاي بوي العصري الماجن.. ومن دواهي السياسة النادرين.. وهو فوق كل هذا وذاك ماكر شديد المكر، بارع في اللعب بالبيضة والحجر كما يقال، تجده تقريبًا في كل شيء كرجل مافيا من قادة العمل تحت الأرض.. غلطة في المكان والزمان كما غلطة موته التي حدثت بالخطأ.
تمرس بتدرجه في العمل القيادي، فقد شغل وزارة الداخلية، وهي وزارة هامة كما هو معروف.. ثم وزارة الدفاع من بعدها، وهي الأهم.. حين كان وزيرًا للداخلية في نصف السبعينيات الثاني، رأيته مع مساعديه يلاحقون شبانًا من عيال البلاد، على رصيف طريق أروى المقابل لنادينا -نادي الفنانين- بجانب سينما برافين، يلاحقون الشبان لقص شعورهم التي طالت، وبناطيلهم التي توسعت أثناء ما عُرفت بموضة الشارلستون!
تولى وزارة الدفاع بعد ذلك في يوبيل الجيش الأول، ودخل مرحلة الجد.. ظهر الرجل الكامن فيه بكامل مهاراته.. طور كثيرًا أداء تلك الوزارة، وطور مهام الجيش، وحسن أداءه، وزاد من رفاهيته.. في الغذاء والملبس والمسكن والمشرب.. نسيت أن أذكر أواخر عهده بوزارة الداخلية حين منع القات باستثناء يومين في الأسبوع، حدثت فوضى عارمة في أسواق القات، أخمدها بحكمته بسلام.. ورأيته بنفسه في شوكي كريتر (مركز الشرطة) يشرف.. وحتى يبيع القات للزبائن، ويسلمهم إياه بيده!
آلت ملكية نادي عروس البحر Mermaid Club للجيش، وهو النادي الذي كان يرتاده ضباط سلاح الطيران الملكي في الزمن البريطاني.. ملأه الكولونيل مصلح بأدوات رياضية للجمنيزيوم وما شابه، وملأ الكانتين التابع للعروسة بأنواع البضائع من مشرب ومأكل، ووفر لعساكره كل أسباب الرفاهية.. هي عقلية داهية بلا منازع، تولى عمليات إدخال السيارات بكل أنواعها من منفذ العبر وغير العبر.. وعرفت كوادر "ج ي د ش" لأول مرة السيارات الخصوصية.. ولم يكلف خزانة الدولة قرشًا واحدًا.. بل على العكس، رفدت تجارته تلك ميزانية الدولة بأموال كثيرة.
كان الكولونيل بعقلية تايكونات الرأسمالية أيضًا.. يبيع السلاح.. ويهرب القات والتمباك.. وغير هذا.. كان يدير إمبراطورية مالية صغيرة على قدر صغر موقعها.. وفي السياسة ودهاليزها كان يبسط رعايته الشاملة على رجال السياسة وعساكر الجيش من الوافدين من شمال اليمن الحبيب، ممن شكلوا جبهة معادية لنظام صنعاء.. وفيهم كان هو الأب الروحي مثل الدون كورليون في الرواية الأمريكية الشهيرة.. أما قمة أعمال الكولونيل مصلح العبقرية.. فقد كانت هندسته للإطاحة برئيسين في ضربة واحدة: سالمين في عدن، والغشمي في صنعاء.. دبر شنطة التفجير القاتلة -بمساعدة استخبارات شيوعية طبعًا- والأهم دبر الشخص الذي سوف يحملها وهو يعرف ما فيها ونتائجه الوخيمة (قيل إن الرجل كان من أقارب مصلح، وإنه خفيف العقل)، فكتب وصيته وذهابه إلى جنة حور العين باستشهاده (صورة من كلامه بخط يده في كتاب ألف ساعة حرب للمؤلف الشميري، ملياردير من قيادات حزب الإصلاح).
الكولونيل صالح مصلح قاسم شخصية جذابة بحق قد لا ينتهي بنا الوقت ونحن نتحدث عن حياته ومغامراته في تلك الحياة.. هو إنسان جذاب لا يملك من يعرفه ويقترب منه إلا أن يحبه.. ولقد كان الرئيس علي ناصر محمد يحبه كثيرًا.. وقد رأيت مصلح يعانق ناصر بحرارة بالغة في عيد ميلاده الذي كنت حاضرًا فيه.
وأنت عزيزي أراهنك بأنك إذا اقتربت من مصلح وعرفته.. لن تملك إلا أن تحبه.