"عليك أن تصيح دائما مع الجماهير، إنها الطريقة الوحيدة لأن تكون آمنا".. هذه العبارة صرخت بها إحدى شخصيات رواية العام (1984) للكاتب "جورج أورويل".. وهي تختزل سيكولوجية الإنسان وتطلِّعه الأزلي للشعور بالأمان، مثلما تؤشر لسيكولوجية الفرد ضمن الحشد أو الجماعة.
ترتبط حاجة الإنسان للأمان بأهم الدوافع قاطبة، فهي تتصل بحبه الغريزي للبقاء وكراهة الفناء، وهذا الدافع يحل تالياً على دوافع البشر الغريزية الأخرى، من مآكل وجنس ونوم.. والبشر بلا استثناء تواقون للعيش ضمن نوع ما من الحشود، ففي ذلك ملجأ من الخطر، ومن الوحدة القاتلة، التي تفقده الشعور بالأمان.. غير أن شخصية الفرد لن تبقى هي ذاتها، إذ تنسحق شخصيته المستقلة في أتون الشخصية الكلية للجماعة.. وكثير من السمات الفردية والعقلانية تذوي لصالح التماهي مع شخصية الجماعة، كثمن باهظ يدفعه الفرد مقابل الوصول إلى شيء من الأمان وبعض من الاستقرار المادي والنفسي.
في كتابه "سيكولوجية الجماهير" يلخص المفكر الفرنسي "غوستاف لوبون" سمات الشخص المنخرط في جماعة: تلاشي الشخصية الواعية لصالح بروز شخصية لاواعية، القابلية للاستهواء والتحريض، انتقال عدوى العواطف والأفكار، والميل لتحويل الأفكار المُحرَّض عليها إلى فعل وممارسة مباشرة، وبالنتيجة لا يعود الفرد هو نفسه وإنما يصبح إنسانا آليا تُحركه النخبة السياسية و (القيادة الملهمة).
كتاب "لوبون" الذي يتناول ببراعة مدهشة، فنون وأساليب التعامل مع الجماهير والحشود، أضحى ًإنجيلاً" لطيف واسع من القادة والسياسيين على امتداد الخارطة العالمية، ويكاد يتقدم على الكتاب الشهير للإيطالي مكيافيللي (الأمير) خاصة وهو ينصح هؤلاء "القادة" بأن أي جهود لإقناع الجماهير بالأفكار المنطقية العقلانية، غير مجدية وعبثية..!!
ويؤكد أيضا أن محاولات الإقناع العقلاني المنطقي، وإن كانت ناجحة عند التعامل مع الأفراد المنعزلين، إلا أنها ليست كذلك، عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الجماهير والحشود، التي تستوجب إزاحة الأساليب العقلانية واعتماد آليات عاطفية، تنبني على الشعارات البهيجة والصور الموحية، وأساليب التحريض والتهويل وبث روح الحماسة وربما الكراهية والانتقام لتحشيد وتعبئة الجماهير تجاه قضية ما أو حدث معين.
الحقيقة المؤسفة، أن نفسية وسيكولوجية الفرد، مغايرة تماماً لسيكولوجية الجماعة، التي يغلب عليها سمات الانفعال والعاطفة، بخلاف سلوك الأفراد المستقلين الذي يسوده التفكير المنطقي العقلاني.. بل إن الجماهير تصبح مجنونة، عندما تكون غاضبة أو تعتريها روح الحماسة.. والجماهير التي تصفق بحرارة وتُلهب الأجواء بغضبها الناري وحماستها الدافقة في مباريات كرة القدم أو المهرجانات الغنائية، والجماهير المهتاجة التي تنقض على شخص ما لتقضي عليه حتى دونما حاجة للتأكد من كونه مذنباً، تقدم تجسيداً بليغاً لحالة الهوس والجنون الجماعي.
الجماهير أيضاً سرعان ما تحرق اليوم ما كانت عليه بالأمس وتتنكر له وتُغيُّر أفكارها بذات السرعة التي تُبدِّل ملابسها..
والجماهير الكبيرة التي احتشدت في عديد بلدان عربية، للتعبير عن موقف، أو لتأييد قضية ما، هي ذاتها الجماهير التي خرجت - بعد زمن قصير وبذات الكثافة - لتعلن إدانتها واستنكارها لذات
القضية والموقف التي كانت أعلنت تأييدها له.. وهي بذلك تكاد تكون النموذج الأكثر دلالة على نفسية وسيكولوجية الجماهير.