صنعاء 19C امطار خفيفة

سياسة المنشار لتقطيع أوصال اليمن

من حقائق التاريخ، أنه لا مجال للمقارنة بين مجد تليد للإنسان اليمني وموروث حضاري يعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام، وبين بلدان حديثة أقيمت خلال قرن من الزمن أو أقل بعامل ثروة النفط والغاز.


الجدير بالذكر، أن اكتشاف المستعمر للنفط، والغاز في المنطقة، مطلع القرن العشرين، وقيام شركاته باستخراجهما، وتعميرها لتلك السواحل، والبوادي، مقابل تكلفة باهظة يتم خصمها مباشرة من عوائد تلك الثروات، والتي لم يكن مردودها إلا فخاخًا لأهلها تمثلت بأبراج عالية، وقصور فخمة، وجسور في بوادٍ وقفار، واستهلاك فضفاض لكل ما يستورد من صناعات حديثة باختلاف أنواعها، أرهقت وماتزال موازنات تلك الدول.


في واقع الأمر، إن بيئة هذا الإنسان البسيط، كانت تركت أثرها في أعماق نفسه بعامل قسوة المناخ وشظف العيش، الأمر الذي سبب له مشاعر القلق والهواجس خوفًا من أن يأتي اليوم الذي يفقد فيه هذه المظاهر المستحدثة، ويعود إلى باديته.


قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن".


وبكل تأكيد، إن المشكلة الكبرى كانت حلت في المنطقة عند استحداث تلك البنيان والمظاهر الرفاهية المبالغ فيها، أفقدت ذلك الإنسان توازنه وكأنه ملك الدنيا، بخاصة بعد الطفرة النفطية عام 1973م، أي بعد ارتفاع برميل النفط من 5 إلى 40 دولارًا، وإلى أكثر من 100 دولار، حيث عمدت المؤسسات الصهيونية إلى ترسية هذا الخلل الذي أحدثته عنوة ومكرًا، وكان ومايزال شغلها الشاغل هو استنزاف الغاز، والنفط حتى النضوب، وترحل تاركة وراءها ما خلفته من ترف، ومعمار يكلف صيانتها أكثر من بنائها على مر الأيام.


من البدهي، أن الاستعمار الصهيوني لم ولن يكتفي بإيجاد تلك المظاهر المتعددة الأشكال، والألوان، ومغادرة تلك الديار إلا بعد أن يقوم بصياغتها سياسيًا واجتماعيًا، وتفصيلها على مقاس مصالحه، وتنصيب أشخاص متميزين بشعبيتهم ومكانتهم بين القبائل، شريطة من يكون أكثر ولاء وطاعة له لقاء إبرام عقود معهم تمتد صلاحيتها إلى ما لا نهاية مقابل رعاية، وحماية، وألقاب غير معهودة يسبغها على تلك الأسر، وعلى أساسها يتوارثون الحكم خلفًا عن سلف.


وفي السياق نفسه، فوض المستعمر على إدارة تلك البلدان المستحدثة خبراء، ومستشارين لا يعصى لهم أمر، وهكذا عاشت تلك الأسر وماتزال تحت حماية التاج البريطاني، والعم سام (رامبو).


للأسف الشديد، إن هذا الوضع المفروض على تلك الديار أو البلدان في ما بعد، جعل حكامها لا يعصون للمستعمر أمرًا، رغم محاولات يائسة من البعض للتحرر من هذه الضغوط، أحيانًا تنتهي بصاحبها، إما رفتًا أو قتلًا.


وما من سبيل لأي فكاك من هذا الوضع الخطير إلا بعد أن ينضب النفط والغاز. ولا عجب حين قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية، إن قطرة من النفط تعادلها قطرة من الدم، وإن هذا النفط في المنطقة يعتبر (ملكنا) وسنحارب من أجله.


أما بالنسبة لحماية تلك البلدان الناشئة فهي مضمونة بقواعد عسكرية متواجدة في المنطقة، معززة بأساطيل وبوارج تمخر مياهها في كل اتجاه على مدار الساعة، مهمتها الرئيسة حماية المصالح.


وبناء على ترتيبات جديدة تم إعدادها لصياغة المنطقة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبما يتسق مع التطورات المتسارعة في المجالات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والتقدم التكنولوجي في العالم، بدأ التنافس الاقتصادي على أشده بين المارد الصيني والولايات المتحدة الأميركية، وبخاصة منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي (الـ20)، وبداية تنفيذ المشروع الصهيوني (مشروع الشرق الأوسط الجديد) في العقد الأول من القرن الجديد (الـ21)، حيث وقعت اليمن ضحية لهذا التنافس بحكم موقعها الاستراتيجي، وبهدف عرقلة طريق الحرير الصيني، وإحراز قصب السبق الاقتصادي، والحؤول دون استفادة الصين من استخدام الجزر، والموانئ، والأراضي اليمنية.


وفي السياق ذاته، وبعد مرور بضع سنين تسارعت الأحداث في المنطقة بقيام تحالف عربي من 10 دول بقيادة السعودية التي تولت أيضًا مهام الجانب العسكري، وانضمت إليها الإمارات كطرف أساسي فاعل، منذ 26 مارس 2015م، بغية إعادة السلطة الشرعية، ومواجهة النفوذ الإيراني في اليمن، حسب منظورهما للأحداث.. لكنه، انقضت ثماني سنوات عجاف في حرب مستعرة دمرت البلاد والعباد، والتي لم تكن لتطول أكثر من سنة على أبعد تقدير، حسب المفهوم الاستراتيجي العسكري، نظرًا لما تمتلكانه (السعودية والإمارات) من طيران وأسلحة متقدمة ودعم وإسناد أميركي -بريطاني سخي، إلا أن الحرب حادت عن مسارها، وازدادت الأمور سوءًا وتعقيدًا، قلبت اليمن جراءه عاليها سافلها للأسف، وبالتالي، اتسع الخرق على الراتق، وطالت صواريخ ومسيرات نصار الله" عقر الديار السعودية والإماراتية، الأمر الذي أدى إلى إيقاف حرب التحالف العسكري السعودي -الإماراتي، وبخاصة في جميع المناطق المنضوية تحت حكم "سلطة الأمر الواقع".


ومما زاد الطين بلة، أن "سياسة المنشار"، أخذت تمارس منذ ستة أعوام لتقطيع أوصال اليمن في السواحل والجزر، وفي المناطق التي لا يوجد فيها نصار الله ولا أي "نفوذ إيراني"، والعالم يشاهد بأم عينيه تلك المسرحية الهزلية، غير عابئ بما يحدث من دمار في اليمن.


وبصريح العبارة، إن الأمر معقود على الدول المحبة للسلام في منظمة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، كما يقع العبء الأكبر على الشعب اليمني بجميع فسيفسائه: السياسية، والدبلوماسية، والإعلامية، والثقافية، والعلمية، والاجتماعية، لإنقاذ اليمن قبل أن تحل فيها الحروب المناطقية، وكارثة التقسيم بحماية المليشيات المحلية التابعة للإمارات، في الوقت الذي يتم فيه السيطرة، والتمكين العسكري السعودي -الإماراتي على جنوب اليمن: جزرها، وموانئها، ومدنها وأراضيها، خدمة لمشروع القرن الاستعماري الأميركي -البريطاني الصهيوني، ومن أجل أطماع خاصة بهما في الأراضي اليمنية شمالًا وجنوبًا.


مع العلم، أنه جرت وماتزال المشاورات منذ ثلاث سنوات بين "قيادة التحالف" وسلطة الأمر الواقع في صنعاء، بحضور الوسطاء من سلطنة عمان، والوسيط الأممي هانز غروندبيرغ، دون توصلهم إلى حل دائم، وإنما كانت عبارة عن هدن لا تؤدي الغرض.


وفي يوم 23 ديسمبر 2023م، تم التوقيع على خارطة طريق بين نصار الله" في صنعاء و"المجلس الرئاسي المؤقت" في عدن، على أساس أن يتم تنفيذ الاتفاق بين الجانبين بإشراف ورعاية الوسيط الدولي للأمم المتحدة السيد هانز غروندبيرغ، بغية التوصل إلى حل نهائي يفضي إلى خروج الشعب اليمني من نفق المعاناة بعد ثماني سنوات قاسية من حرب مستعرة نتج عنها دمار هائل في البني الأساسية، ومئات آلاف من القتلى والجرحى.


ولخطورة الوضع، مايزال التواجد الإماراتي في أرخبيل سقطرى وجزيرة ميون، وميناء المخا وميناء عدن، مرورًا بميناء شقرة في أبين حتى بلحاف في شبوة، بحماية المليشيات المحلية التابعة للإمارات، بالإضافة إلى تواجد إسرائيلي في سقطرى، وتواجد أجنبي في بلحاف، إلى جانب تواجد عسكري للتحالف في المكلا والضبة، وتواجد عسكري سعودي في موانئ المهرة، حسب مراقبين. وكذا تواجد عسكري في البحر الأحمر والبحر العربي.


ويحدو شعب اليمن الأمل بأن يؤدي الاتفاق اليمني -اليمني بإشراف ورعاية الأمم المتحدة، إلى انسحاب جميع القوات العسكرية المذكورة دون إبطاء من جميع أنحاء اليمن، وتمكينها من إعادة سيادتها وسلامة أراضيها ووحدتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وفي مقدمتها القرار 2216 الصادر في 14 أبريل 2015م.


يقينًا، إن الشعب اليمني لم يعد بمقدوره الانتظار لسنة أخرى وبلاده شبه محتلة.


قصارى القول، لا يسعني إلا أن أردد، وبكل أسى، قول أبي الطيب المتنبي:


بذا قضت الأيام ما بين أهلها


مصائب قوم عند قوم فوائدُ

تصنيفات

إقرأ أيضاً