اتصل بشوقي، أساله:
عن الحال والأخبار، الشخصية بالطبع
أساله عن الرفيق نعمان، يضحك كثيرًا:
قالوا راح الصين
قلت:
إذن، ستكون الرواية القادمة: "نعمان في الصين"
السفير المقبلي له كتاب: "قبيلي في الصين"، وأنا "لغلغي في صنعاء"، زعل من الاسم بعض من أحترمهم، ذلك حقهم، وأنا والمقبلي من حقنا أن نسمي كتبنا بما يوضح الهدف من الكتاب، أو إيصال رسالة معينة.
قال شوقي بأدبه المعهود:
بنزل يا أستاذ عبدالرحمن تعز، أزور الوالد
قلت: سلم عليه أمانة..
شوقي محمد عبدالحليم كان صاحب صاحبي نعمان
نعمان يأتي من عدن، يتصل بي:
أنا عازمك عندك بكرة..
لا يمكن أعترض..
فمن يعزمني عندي! نعمان قائد سيف زميل الدراسة والمهنة وصديق العمر بامتياز..
لا ياتي وحده، بل يأتي بشوقي، ويفرض شوقي بدماثته نفسه على بيتي، وتتفنن "بنت الحاج" بسفرة تجعل نعمان يفعلها مرات، بل تطور الأمر إلى أنه أصبح يتصل مباشرة على رقم البيت.
أصل، تضحك بنت الحاج في وجهي، أقول محذرًا:
شوفي، رجاء محناش شغالين مع نعمان قائد سيف..
تقول: سدوا...
عشت شارع علي عبدالمغني بكل جوارحي، كانت لي علاقة حميمة بالمكان، والزمن كان زمنًا كبيرًا بالفعل. وصنعاء كانت حنونة جدًا.
هناك "العدني" هناك "محمد عبدالحليم" أبو البطاريات الجافة، وهناك أحد أعلام المكان لزمن طويل "السيد"، يكفي أشوفه عن بعد، فأحس بالطمأنينة، ظل يدير محل محمد عبدالحليم زمنًا طويلًا، والعم محمد حفر التربة بيديه، وذرى وزرع وحصد... أولئك الرجال الذين هبطوا إلى عدن، وزرعوا البحر والصحراء حياة.
لم ينهب محمد عبدالحليم أحدًا، لم يمد يده إلى حق الغير، لم يحمل سلاحًا، ويحقق ثروة بالرصاص، نزلوا بحلمهم، بذلوا من الجهد ما لم يتخيله أحد، حتى الاشتراكي الذي أمم تعب الناس وكفاحهم وعرقهم! وترك كل شيء لأصحاب الفيد، ولم يعد لأصحاب الحق حقهم!
انتقل محمد عبدالحليم إلى تعز، إلى صنعاء، وظل يبيع للناس بضاعة أصلية، لا غش فيها ولا تزوير، وعودوا إلى كتاب العظيم عبدالله البردوني "اليمن الجمهوري"، لتقرأوا ما كتب عن أولئك الذين جاؤوا بالجديد إلى شارع علي عبدالمغني، مع جديد الفعل ثورة 26 سبتمبر الخالدة.
كنت في لحظات الظمأ أذهب إلى عبدالمغني، هناك أيضًا "الفصول الأربعة" الذي أسسه العم عبدالرقيب، وفيه تباع بضاعة "إنجلاند" و"جيرمني" أصلي ما يفسخ!
أمر أشوف السيد وأصعد إلى الطابق الأول، أسلم على شوقي، وأذهب إلى مستودع الشرق الأوسط، أحس أنني ارتويت عندما أمر على محمد العليمي في منتزه التحرير، أشرب كوب الشاي من يد الزريقي، بعده أعود إلى قواعدي سالمًا في مخبز باب اليمن.
جرى الزمن، فغابت الوجوه وتغير المكان، كبرت صنعاء، فصارت متوحشة كما قال المساح، ولم أتخيل يومًا أنني سأسكن بيت بوس التي لم نكن ندري أين تقع يومها!
حلت "CHINA" صنع في الصين، محل "الجبان"، تنافس اليابان إنجلترا وألمانيا، ونرى أمام سينما بلقيس "صينية" بشحمها ولحمها، تفترش الأرض، تبيع للناس بضاعة ليست بجودة الياباني، لكن وجودها كان وجودًا ذكيًا "تطلع على ثقافة الناس ومحتاجاتهم، لنرى في الأسواق حتى أجهزة غريبة عجيبة تلبي حاجة الناس.
ذلك ظهر تقريبًا بنفس الصورة في تعز، في الستينيات، ذات مساء خرجت من بيت حافة إسحاق إلى الباب الكبير، لتلبية حاجة البيت.
على يمين الباب وأنت خارج إلى شارع 26 سبتمبر، محل لبيع محازق الرصاص، كان ثمة بشر نراهم لأول مرة كأنهم هبطوا من السماء، حمر، قصار القامة، اقتربت وغيري منهم بدافع الشجن، كانوا يتكلمون لغة نسمعها لأول مرة، ويقلبون في كل ما يبيعه المحل... تركتهم وذهبت.
بعد أسابيع لاحظت أن نفس المحل ومحال أخرى تبيع محازق، قيل يومها إنها صنع "الجبان"، كان الناس ينفرون من البضاعة التي لاتكون بمستوى ال-"إنجلاند" وال-"جيرمني".. بعد سنوات اجتاحت اليابان كل ما أمامها، وطغت.
جاء وقت وجد شوقي محمد عبدالحليم أن الناس يبحثون عن الرخيص، وليكن ما يكون!
ذهبت إلى الصين، يقول شوقي، وجدت هناك مئات التجار المُحدثِين، يشترون كل بضاعة رديئة رخيصة، والغريب أن الناس يقبلون عليها، وعند الله وعندك كما يقال!
المصنعون يقولون لك:
بأي فلوس في جيبك، سنصنع لك
أنا تعودت -يضيف شوقي- على بيع كل ما هو أصلي ومرتفع الثمن، لكن قيمته فيه كما يُقال.
عاد شوقي، واضطر لإغلاق "محمد عبدالحليم للبطاريات الجافة"، بعد عمر طويل!
بعده، أغلق "الفصول الأربعة"، وعاد العم عبدالرقيب إلى البيت. مؤلم أن يعود مثله قبل الأوان، لكن ما باليد حيلة. قبلهما كان "باتا" المستودع الشرقي لبيت الدالي، المستودع الأشهر، قد أغلق أبوابه.
ذات نهار مررت لأروي بعض الظمأ من علي عبدالمغني، وجدت أبواب محمد عبدالحليم أغلقت، والسيد أشهر عناوينه غادر هو الآخر، ولايزال شوقي يحن لتلك الأيام. غادرت الشارع بإحساس بظمأ لا نهاية له!
قبل أيام ودع محمد عبدالحليم محمد سعد سيف الأغبري، الحياة، بعد أن صنع فصلُا متميزًا من فصولها.
له الرحمة، ولنا الصبر على ما نرى.