بمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين لوفاة الزعيم جمال عبدالناصر، يوم 28 سبتمبر 1970م، يسعدني أن أقدم قراءتي حول إنجازاته في شتى المجالات الداخلية، والإقليمية والدولية، تحت شعار "يد تبني وأخرى تحمي"..
ويستحضرني بادئ ذي بدء، الجلسة الأخيرة له في مؤتمر القمة العربية، للم الشمل الفلسطيني -الأردني، وإيقاف نزيف الدم بين الإخوة، إثر معارك ضارية نشبت بين الجانبين في العاصمة الأردنية (عمان)، الأمر الذي زاده إرهاقًا نفسيًا وبدنيًا فوق ما يعانيه من مرض عضال.. وما إن اختتمت الاجتماعات في مساء يوم وفاته، توجه إلى منزله بعد توديع أمير الكويت، آخر المغادرين من الوفود العربية، إلا أن القدر كان له حكمه، وأسلمت روحه إلى بارئها عن عمر ناهز الـ52 عامًا، ومات شهيدًا وهو يؤدي واجبه القومي العربي لآخر لحظة.
وبحزن عميق، هب المعزون من رؤساء العالم ومسؤولي الدول، من كل حدب وصوب، لتوديعه إلى مثواه الأخير، بموكب جنائزي مهيب.
وفي هذا الخطب الجلل، نعت اليمن قائد الأمة العربية والإفريقية الزعيم جمال عبدالناصر، مثمنة خدماته الجليلة تجاه اليمن، فضلًا عن القضايا العربية، وإصلاح ذات البين، وتعزيز العمل العربي المشترك، وتحرير الدول العربية والإفريقية من ربقة الاستعمار، والعبودية.
كما قدمت اليمن، في الوقت نفسه، خالص تعازيها ومواساتها لأسرته الكريمة، ولحكومة وشعب مصر العظيم، والجامعة العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية. مقدرة جهوده العظيمة التي أفنى حياته من أجلها في سبيل قضايا الأمة العربية والإسلامية والإفريقية، وشكل فقدانه خسارة كبيرة للأمة، لكنه ترك فكرًا ومبادئ ملهمة للأجيال.
وفي السياق نفسه، أقتبس نعي الرئيس الكيني جومو نيكياتا، للزعيم عبدالناصر، بقوله: "أنا واحد من أمة كبيرة فجعت في الوالد العظيم حين فقدت رجلها الأول، وقائدها، سنظل نذكر عبدالناصر دائمًا، أن مساندته لحركة التحرر الإفريقية لم تكل أو تتوقف، إن مأساتنا بفقدان الرجل الكبير جمال عبدالناصر كبيرة، لقد مضى القائد البطل في سبيل أمته شهيدًا، لكنه خط الطريق..".
يقينًا، إن "الزعامة" و"العبقرية" هما موهبتان متلازمتان، ومقدرة فذة منحهما الخالق لمن سيؤدون رسالة سامية لمجتمعاتهم وأمتهم. والزعماء والعباقرة قليلون في التاريخ، لا يعرفون إلا بإنجازاتهم الداخلية، والإقليمية، والدولية، وطهارة اليد من الفساد، فضلًا عن قيم عليا يتميزون بها بوأتهم هذا المقام الرفيع "عباقرة" و"زعماء".
وبناء على هذه القيم، بنيت قراءتي لزعيم أمة احتل هذه المكانة التاريخية المشرفة، بكل اقتدار:
لا جرم أن عظمة مصر ومكانتها في التاريخ مستمدة من عظمة إنجازات أبنائها (أهرامات مصر): خوفو، وخفرع، ومنقرع، وتحتمس الثالث، ورمسيس الثاني، وجمال عبدالناصر.
إن مصر هي قاهرة المغول في عين جالوت، وهي الأزهر الشريف، والعلم، والمعرفة، وخط الدفاع الأول عن العالم العربي، العرب أقوياء بمصر، وضعفاء بمصر.
مصر عبدالناصر جعلت للعرب والمسلمين والأفارقة قيمة عالية في جميع الساحات الإقليمية والدولية. وستبقى راسية بثبات الجبال رسوخًا، ومصدر فخر واعتزاز للأمة، وعالية بعلو كعب إنجازاتها الداخلية والخارجية، مهما قسا الزمن، ولا تحتاج إلى شهادة إلا من أبنائها الكرام، ومن محبيها الكثر في العالم.
مصر عبدالناصر منقذة العرب، والأفارقة من الاستعمار، والتخلف، وموقعها يقبع في شغاف قلوب الشعوب العربية، والإفريقية، والإسلامية، والشعوب المحبة للسلام.
على صعيد آخر، إن الزعيم جمال عبدالناصر يعتبر قطبًا رئيسًا من أقطاب "مؤتمر باندونغ" المنعقد في (18-24 أبريل 1955م) في إندونيسيا، إلى جانب الزعيمين جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند، وجوزيف بروز تيتو، رئيس يوغسلافيا، إضافة إلى أحمد سوكارنو، الرئيس الإندونيسي المستضيف للمؤتمر.
وبعد ستة أعوام من مؤتمر باندونغ الذي حضرته 29 دولة آسيوية وإفريقية، تم تأسيس "حركة عدم الانحياز"، على أساس جغرافي أكثر اتساعًا، وقد بلغ مجموع العضوية في حركة عدم الانحياز حاليًا 120 دولة، و17 دولة كمراقب، و10 منظمات دولية، ويشكلون حاليًا أكثر من نصف الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة البالغين 193 عضوًا.
قمين بالذكر، أن الزعيم جمال عبدالناصر، من المؤسسين أيضًا لـ"منظمة الوحدة الإفريقية".
وفي مؤتمر القمة الإفريقية المنعقد في أديس أبابا، يوم 25 مايو 1963م، وبحضور جميع الرؤساء الأفارقة، يتقدمهم الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي، رئيس الدولة المضيفة، وبناء على توصية الرئيس جمال عبدالناصر، أقر المؤتمر أن تكون أديس أبابا مقرًا لـ"منظمة الوحدة الإفريقية".
ومن هذا المنطلق، توطدت العلاقات بين الزعيم، والإمبراطور، انعكست على العلاقات الثنائية والصداقة الشخصية بين الجانبين، نظرًا لما يربط مصر بإثيوبيا من علاقات تاريخية متجذرة في أعماق التاريخ، أساسها المشترك نهر النيل الخالد، شريان الحياة الأبدي.
وبمرور السنين، صدر إعلان رسمي، في 26 مايو 2002م، بتأسيس "الاتحاد الإفريقي"، ليحل محل "منظمة الوحدة الإفريقية" التي توسعت أعمالها، وزاد عدد أعضائها إلى 53 دولة، وقد أصبح عدد الأعضاء حاليًا 55 عضوًا.
مصر عبدالناصر لا يعرف عنها إلا من تعلم، وعاش فيها، وليس من سمع عنها، وخذلها في زمن العسرة.. وستظل حاضنة، ومربية أجيال لا تضل، علمتنا الكثير، ولم يرد لها البعض سوى نكران الجميل.
مصر عبدالناصر هي التحرر من ربقة الاستعمار والتخلف، وتأميم قناة السويس، والإصلاح الزراعي، والانعتاق من نظام السخره، والإقطاع، والتطرف.
مصر عبدالناصر معين فياض من الإنجازات العملاقة المتمثلة بالسد العالي، وبحيرة ناصر، والجامعات المصرية، والمسرح، والثقافة الجماهيرية، وتأسيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامي -المنارة الإسلامية للطلاب المسلمين في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن بناء وتشغيل مصانع حلوان للحديد والصلب، والمنسوجات القطنية، ومصانع سكر نجع حمادي، والصناعات المختلفة بأنواعها في جميع أنحاء مصر، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتصدير الفائض.
جدير بالذكر، أن الحاقدين، والحساد كثر، لكن مصر ستظل الأم الرؤوم للعرب، تزخر حنانًا، وتحتضن أبناء الأمة العربية والإفريقية، الذين ضاقت بهم السبل، وتقطعت بهم الدروب، بسبب الحروب، والملمات، كما أنها اليد المبسوطة التي تغدق عطاياها بسخاء في مجالات كثيرة، تشمل: المنح الدراسية، والتعليم بالمجان، والمطاببة، والمساعدات الخارجية للدول العربية والإسلامية، والإفريقية... الخ.
مصر عبدالناصر هي رمز التحرر من الأيديولوجيات المتطرفة الهدامة، كما تعد بامتياز نموذجًا لتاريخ العرب الحديث، ومنارة المجد التليد.
مصر أولًا، وأخيرًا، ليست بحاجة إلى شهادة مغرض، أو جاحد وناكر جميل، بل ستظل النجم الساطع في سماء العروبة، شامخة بشموخ أهلها، فلا تحتاج إلى من ينعب، أو ينعق باسمها بغل، وحقد، وكراهية.. مصر هي أم الدنيا، لا تنتكس لها راية، وإنما ستظل رايتها خفاقة، تعلو، وتسمو في سماء الخلود.
إن الزعيم عبدالناصر لم يكن رئيسًا لحزب في يوم ما، كما يعتقده البعض، وإنما كان ومايزال "زعيمًا"، صنع فكرًا عظيمًا، ملهمًا، لأمة عربية تهتدي به من المحيط إلى الخليج، ولأمة إفريقية من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهندي، وكذا لدول من خارج هذا المحيط الجغرافي العربي والإفريقي.
وحسن الختام، لا ننسى جميعًا أن نقرأ الفاتحة على روح زعيم الأمة العربية والإفريقية جمال عبدالناصر، في كل ذكرى سنوية لوفاته، وفي كل زيارة لضريحه، وفاء وعرفانًا بالجميل.
يقينًا، توفي الزعيم جمال جسدًا، وظلت روحه ومبادئه ملهمة للأجيال العربية والإفريقية خاصة، ودول عدم الانحياز عامة.
رحم الله الزعيم جمال عبدالناصر، وحفظ الله اليمن والكنانة من عوادي الدهر، ونكبات الزمن.