في الإرث المعرفي الإنساني، وفي الاعتقادات الدينية للشهيد، قدسية عظيمة، هناك شهداء يظلون أحياء، وربما تكون حياتهم بعد الاستشهاد أقوى، وأخلد.
عبدالسلام الدميني واحد من هؤلاء الخالدين الأحياء في ضمائر ووجدان أمتهم وشعبهم "واجعل لي لسان ذكر في الآخرين" الآية.
جسد في حياته الكفاحية الإنسان الكامل كاصطلاح الصوفية، ويوم استشهاده كان يوم الميلاد الأزلي، الذي لا يفنى ولا يبلى.
قاتلوه تلاميذ يهوذا الأسخريوطي، وربما أكثر جرمًا وفجورًا.
الدميني ابن الثورة اليمنية سبتمبر وأكتوبر، وشهيدها، خرج من قريته الصغيرة في السياني، بإب، يوم انبلاج فجر السادس والعشرين من سبتمبر، التحق بكتائب الحرس الوطني، التحق بعدها بالشرطة في العام 1963، الدفعة الأولى، وتخرج منها برتبة ملازم أول، التحق بالشرطة العسكرية، وتولى مسؤولية رئيس أركان اللواء العاشر، انخرط كمقاتل في الصفوف الأولى دفاعًا عن الثورة والجمهورية، ونجا من الأسر مرتين، وكان ضمن الضباط المرحّلين إلى الجزائر عقب أحداث أغسطس 1968.
الدميني المنذور للكفاح الوطني، انتمى باكرًا للتيار القومي، واتسم بالذكاء، والشجاعة، والاستقامة، وحب المعرفة، وعشق الحرية.
قاتل الدميني الفادي على جبهتين؛ جبهة الدفاع عن الثورة في الصفوف الأمامية ضد القوى الملكية المدعومة من السعودية والاستعمار البريطاني والأمريكي، وتعرض للأسر من قبل الملكيين مرتين، وقاتل في الجبهة الداخلية ضد فرض الاستسلام والانحراف عن خط الثورة، ومبادئ الجمهورية، انخرط في المظاهرات ضد اللجنة الثلاثية التي فرضتها السعودية والأمريكان، وتعرض للاعتقال بسبب آرائه ومواقفه الوطنية، عام 1973، عقب عودته من موسكو، واصل الفادي عبدالسلام الدميني الدراسة، حصل على الماجستير من موسكو في التاريخ، وحصل على الدكتوراه من أكاديمية لينين عن التطور الاقتصادي والاجتماعي في الجمهورية العربية اليمنية، درس فلسفة العلوم الاقتصادية بجامعة لومونوسوف الحكومية في موسكو.
الراحل عبدالسلام الدميني (صورة متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي)
كان في الحرس الوطني وفي الجيش مثلًا في الانضباط والشجاعة حد الفدائية، يتعرض مرتين للأسر وينجو. كطالب في موسكو، كان مثلًا أعلى وقدوة حسنة في الدماثة والمثابرة والتحصيل، وكان مثالًا للطالب المجد والمجتهد. كقيادي في الجبهة الوطنية الديمقراطية، أواخر سبعينيات القرن الماضي، نشط في مناطق الشمال، وكان على تواصل مستمر مع قيادة الجبهة وكوادرها، والشخصيات العامة، وأبناء المناطق، وكسب الاحترام والحب صدقًا وإخلاصًا، تحدث عنه كثيرًا رفيقاه: يحيى منصور أبو أصبع، وعبدالله بيدر. كان عندما يدخل صنعاء متخفيًا يصل إلى المخبأ السري الذي يسكنه عبدالعزيز محمد سعيد، والدكتور محمد قاسم الثور، وعبدالودود سيف الله، وأنا، يقيم معنا لأيام، ثم يعود إلى أرحب، ومناطق الشمال، كقائد من قيادات الجبهة.
مثل الجبهة الوطنية إلى جانب جار الله عمر ويحيى الشامي، في حوارات السلام مع الرئيس علي عبدالله صالح. كان كثير الاعتزاز بالكرامة، يرفض المساومة على المبادئ، أو القيم العظيمة، التي يؤمن بها، وكانت صلاته بضباط الجيش والأمن واسعة. قلق علي صالح من شجاعته ونشاطه الواسع في القبائل والجيش والأمن، فكان التخطيط للاغتيال.
كان اغتيال الدكتور عبدالسلام الدميني، وأخيه الدكتور عبدالكريم الدميني، الطبيب العسكري، وشقيقه الأكبر عبدالله الدميني، بمثابة إعلان حرب، وكان الاغتيال مؤشرًا خطيرًا لإصرار نظام علي عبدالله على رفض التصالح، ورفض الحوار السياسي والاحتكام إلى الاحتراب والعنف ونهج الاغتيال.
يترافق اغتياله مع الإعداد لإصدار العدد الأول من صحيفة "الأمل"، فكان الاغتيال بمثابة رفض التصالح والحوار، وإرضاء السعودية والمشايخ والإسلام السياسي الأكثر حماسًا للحرب ضد الجنوب، وضد الجبهة الوطنية، والقوى السياسية، وفي نفس الوقت قطع الطريق على إصدار صحيفة "الأمل"، وإجبار طاقمها على العودة لعدن. لا يتفوق على إصرار صالح على الحرب، وعدم الحوار، إلا الإصرار على الحوار وخيار التصالح والسلام، ولكن جناحًا في نظام الجنوب وفي الجبهة، كان هو الآخر مصرًا على الاحتراب، ورفض التحاور والتصالح، والاغتيال يقوي خيار الحرب.
الاغتيالات أبقت جذوة الاحتراب مشتعلة، عبرت عن نفسها في يناير 1986، وفي حرب 1994، وحروب صعدة الست، وانقلاب 21 سبتمبر 2014، ولاتزال متواصلة، فالدم يجر الدم.
مرثية الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني، للشهيد عبدالسلام الدميني، من أهم المراثي، على قلة مراثي البردوني، فقد ربطته معرفة وصداقة بالشهيد، وكانت مرثيته نبوءة صادقة بمقتل القاتل، وتوصيفًا دقيقًا لزمان ومكان القتل وملابساته "توابيت الهزيع الثالث" عنوان القصيدة.