قبل أيام كنت أتبادل الحديث مع صديق، فسألني إن كانت ظاهرة رفع صور الساسة والحكام موجودة في الهند (حيث عملت سفيرًا لأكثر من أربع سنوات) أو أوروبا، وكان ردي أنها مستحيلة في الغرب إلا في موسم الانتخابات فقط، ولكنها مستشرية في الهند حيث لا يكاد الإنسان يمر في أي شارع أو زقاق دون أن تقع عيناه على صورة سياسي أو حاكم، والأمر في نظري مرتبط بالتخلف والثقافة السياسية وبالقوانين الصارمة التي تمنع استفزاز الناس وتشويه الأماكن العامة.
قلت لصديقي إنني خلال زياراتي إلى كوبا لاحظت أنها تخلو من صور فيديل كاسترو، لكن صور ومجسمات قادة الثورة الكوبية موجودة في أماكن محددة بالميادين العامة، وهي ظاهرة فريدة في بلد يحكمه حزب واحد وفرد واحد، لكنها تظهر وعيًا سياسيًا، وتعبر عن مستوى ثقافي وتعليمي مرتفعين عند المواطن وعند صاحب الصورة، فتكون الإنجازات هي الشاهد الوحيد على الحاكم.
الأسبوع الماضي أقيم مهرجان فني بمناسبة عيد الأضحى في محافظة تعز، ورأت إدارة الثقافة تكريم الفنان اليمني المعروف محمد محسن عطروش، وقام بعض الجمهور برفع صور العميد طارق صالح، عضو مجلس القيادة الرئاسي، باعتباره راعيًا للحفل، ومساهمًا في تمويله.
وفجأة اقتحم المكان مسلحون انتزعوا الصور من أيدي الناس، ومزقوها. وبطبيعة الحال حصلت مشادات وإطلاق للرصاص، مما تسبب في جرح عدد قليل من الموجودين، لكن الحادثة أثارت انقسامًا حادًا بين منتقد لرفع الصور، وبين من يرون رد الفعل مبالغًا فيه.
الأزمة الحقيقية ليست في رفع الصور، مع استهجاني للفكرة بحد ذاتها، لأنها نفاق مفضوح لا يزيد من قدر الشخص، بينما يرى فيها خصومه استفزازًا لهم، وفي نفس الوقت لا يمكن قبول وتبرير أن يكون إطلاق الرصاص هو الجواب تحت أي سقف كان.
الواقع أن العلاقات البينية داخل تعز صارت متوترة، والنفوس مستنفرة، والاستقطاب حادًا، رغم أن القوى النافذة التي تتدثر بغطاء "الشرعية" هي التي تتحكم في كل المـؤسسات داخل المدينة، كما أن الصحيح هو أن القيادات العسكرية والأمنية هي التي تتحكم في تسيير كل المؤسسات، وترفض الامتثال إلى الإدارة المدنية التي يمثلها المحافظ، إلا بما يخدم مصالحها الخاصة والحزبية.
وهنا يجب تناول الحادث للحديث حول ملف تعز بدون قيود ولا محظورات.
تاريخ تعز السياسي يقول إنها منطقة يسكنها كثيرون من سياسيين ومثقفين وتجار وحرفيين، وهي أيضًا أكبر مخزن للبيروقراطية اليمنية، ومنها أيضًا أغلب القيادات الحزبية، ومؤخرًا تصادف دون تدخل ولا رغبة من أبنائها أن تبوأ لأول مرة في التاريخ السياسي اليمني ثلاثة من أبنائها الرئاسات الثلاث (مجلس القيادة الرئاسي، مجلس النواب، ومجلس الوزراء)، ولكن كل هذا لا يعني تحت أي عنوان أن أحدًا منهم أصبح زعيمًا لها أو واهمًا بريادتها، لأن تعز على امتداد تاريخها السياسي والاجتماعي، لم يكن لها زعيم واحد، وإنما شخصيات تاريخية حظيت بمكانتها المحلية والإقليمية عبر نضالها الوطني، ودفعت أثمانًا باهظة بتعرضها وأسرها إلى الإعدام والاغتيال والسجن والتشرد، ولم يتعرض أي منهم في سنوات حكمه وحياته إلى اتهامات بالفساد أو استغلال الوظيفة العامة، ومن عجائب تعز أن شخصياتها الوطنية الكبرى كانت محل تشكيك واتهام حد التخوين من داخل تعز، وعلى وجه الخصوص حزبييها الذين يرفعون داخل مقارهم صورًا لقيادات غير يمنية.
كانت الشكوى المزمنة أن تعز مهمشة من المشاركة في صنع القرار المحلي والوطني، لكن الأصوات ازدادت حدة مع بدايات الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، في 2011، وارتفعت الأصوات في المنطقة معبرة عن غضبها من التهميش، وزاد من حدة هذه الأصوات ما فعله الحوثيون حين اقتحموا المدينة بهمجية وشراسة لم تعتدها المدينة منذ أيام الإمام يحيى، وتسبب ذلك في تعرض المدينة إلى دمار مادي وبشري ونفسي وحصار مستمر بعد استيلائهم على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014.
وجاءت تصرفات مسلحي جماعة أنصار الله الحوثية إيذانًا ببعث إرث طويل من الكراهية والأحقاد، كان الناس يتجاوزونه، ولتنكأ تاريخًا طويلًا من الشعور بالمظالم والإجحاف بحق المحافظة خدميًا وسياسيًا وفي داخل المؤسسة العسكرية.
ورغم أن الحصار مازال محكمًا من جهة واحدة في مدخل المدينة الشمالي، إلا أن الواقع هو أن عملًا جادًا لم يتم التخلص منه، وصارت الأحزاب تتصرف كوصية على المنطقة، ونصبت نفسها صاحبة الحق الوحيد في شؤونها، ورغم أن شريحة كبيرة من أبناء تعز موزعة بين كافة الأحزاب، إلا أن صراعاتها البينية زادت من الانقسامات والشتات الذي يعاني منه مواطنوها، ومنعت التوصل إلى وحدة القرار العسكري.
الكثيرون يلقون باللوم على حزب التجمع اليمني للإصلاح بأنه يقف وراء كل سوء يحدث في تعز، وأنه يسيطر على القرار العسكري والإداري داخلها، وأنه يستحوذ على كل المواقع الرئيسية في المؤسسات الحكومية، وأن أتباعه المسلحين هم الذين يتحكمون بنقاط العبور داخل المحافظة، ويفرضون رسومًا غير قانونية على البضائع والسيارات، وكلها اتهامات فيها الكثير من الصحة، وتتناسب مع حجمه الجماهيري في تعز وغيرها من المحافظات اليمنية، وهو ما يفرض عليه التزامات أخلاقية وسياسية أكبر من غيره، لأن الحقيقة أن أغلب التنظيمات الحزبية في اليمن لم تعد أكثر من موقع إعلامي ومجموعات واتساب تعيش على نفقة السلطة ومساعدتها لحاجة الحاكم إلى واجهات يعرضها على العالم باعتبارها جزءًا من التعددية السياسية الوهمية.
إن ما تحتاجه تعز ليس توحيد صوتها، فالتعددية هي روح تعز، ولا تحتاج إلى لون واحد، فاختلاف ألوانها سمتها، ولا تحتاج إلى عسكرة حياتها تحت أي مبرر، فهي مدنية بطبيعتها، ولا تحتاج إلى زعيم واحد، لأنها أكبر من أي منهم.
وما ينفع تعز هو إطلاق الحريات كاملة، ودون قيود، ووقف الترهيب داخلها، وإصلاح بنيتها التحتية، وتأمين الناس في حياتهم ورزقهم، ووقف عسكرة الحياة داخل المدينة وفي القرى، وحين يتحقق ذلك سينحسر الاحتقان، وسيتمكن المختلفون من الحوار الهادئ الذي يفضي إلى تنفيس الغضب والحنق.
ليست صورة طارق صالح هي سبب ما حدث، لأن علاقته بمعظم القيادات الحزبية معقولة، وقنواتهم مفتوحة، ولقاءاتهم مستمرة، ولكن الحقيقة أنها تراكمات سنوات طويلة يرغب البعض في إبقائها قيد الاشتعال ليصل لهيبها إلى كل أبناء تعز، وتشغلهم عن هموهم اليومية التي أنهكت كل واحد منهم.