ونحن في بهجة إعدادنا للاحتفال بعيد ميلاد ابنتي علوية، ٦/٨ يونيو، جاء الخبر الفاجعة برحيل الإنسان والصديق/ علوان الشيباني، فتحول حفلنا (عيد الميلاد) إلى حزن طغى على كل أفرد العائلة، حيث كان اسم علوان يتردد دائماً في جميع أركان تضاريس منزلنا الصغير، واسمه الكبير ينتشر في جميع اتجاهات الكلام، من خلال تواصلنا الدائم عبر التلفون، وخاصة حين يكون خارج البلاد، تواصل – لم ينقطع - للاطمئان على أحوال بعضنا البعض وخاصة في.فترة مرضه الأخير.
إنها لحظة الميلاد، حين تتحول إلى رحيل بطعم الحزن/ الموت، وهي الجدلية الحياتية الإنسانية الأبدية والخالدة، (الموت والحياة) فالموت هو الحقيقة العظمى العابرة للأعمار وللزمن، حيث وجدنا أنفسنا بعد دقائق من سماعنا نبأ ذلك الرحيل، نرتدي معطف الحزن، من قمة الرأس، حتى قبة الروح، إنها الفاجعة حين تداهمك على حين غرة في عزيز على قلبك.. هو الحزن الذي أثكل أيامنا بعاصفة ريح عاتية، قلعت أشجار عيد الميلاد من أرواحنا.. من مكانها.. رحيل لم نكن / أكن أتوقعه، كنت أنتظر قدومه حسب الاتفاق، أو الوعد الذي كان مضروباً فيما بيننا، لاستكمال بعض الهواجس الحوارية المؤجلة الخاصة فيما بيننا، فإذا بالرحيل المباغت والصاعق، يجعل الصمت القاتل سيد الكلام.
علوان، كالرحمة بيننا، فصرنا بعد الرحيل نفتقده مثل كل الفقدانات الجميلة والكثيرة، ومثل الحق كان بدفء وجوده، يطيب خواطر من حوله، وبرحيله الفاجع والقاسي فقدنا/فقدت شيئاً عظيماً من روح النبالة،والصداقة التي جمعتنا خلال رحلة حياة عشناها معاً.
الاقتراب من علوان بن سعيد الشيباني، وليس الحياة معه، ومشاركته بعض التفاصيل الانسانية، تعني فهماً جديداً لمعنى الحياة، وسياقاً مختلفاً في فهمك لنفسك وللحياة من حولك.
حين كتبت عنه، بأنه "استثنائي" لم يكن ذلك تعبيراً مجازياً، ولا صياغة بلاغية عاطفية (ذاتية) مجردة من المعنى هو بحق استثنائي يدخل إلى خصوصيات وتفاصيل من حوله دون استئذان، هو الدخول المحبب والجميل.. كان استثنائيا على الصعد كافة.. صاحب أحلام كبيرة آمن بها منذ أن كان طفلاً ومراهقاً في قريته (المدهف)، حتى وصوله إلى عدن مهاجراً بصورة، وطريقة استثنائية، حتى عودته (تهريب/ من الحبشة)، إلى عدن واستمراره في التحصيل التعليمي، حتى رحلته الدراسية إلى القاهرة ومن ثم إلى امريكا بمنحة دراسية خاصة، في كل ذلك التطواف الشغوف بالعلم،وباتجاه التعليم، حلمه الكبير، واكتشافه لعوالم إنسانية جديدة.. في كل ذلك المشوار الإختياري والجميل، نحو التعليم، كان يدرك ماذا يريد، بإصرار عجيب.. حقا، كان استثنائيا، من قمة الفعل السياسي الذي كانه ذات يوم بيننا، حتى سيرورته رجل أعمال بارز، نظيف وناجح.
علوان في سيرته (الحياة كما عشتها)، يسرد ويروي قصة حياته كما عاشها، هو ورفيقة عمرة/ زوجته(كارمن)،.. هي سردية لإنسان مغاير.. استثنائي، بقدر ماهي سيرة للناس وللأمكنة،وللواقع، وللتاريخ.
من معرفتي الحميمية والطويلة بعلوان كنت أعلم مدى استثنائيته في السياق الاجتماعي والحياتي والإنساني، في تاريخ اليمن المعاصر؛ وفي أنه يمثل بحق إضافة سردية جديدة لها تفاصيلها الحياتية النوعية الخاصة به.. سردية مشوقة تحكي من خلال اسمه ودوره تاريخ حياة شعب.. علوان شخصية إنسانية لا تتكرر، ليس لأنه استثنائي فحسب، بل والأهم لأنه انسان عميق الصلة، بالمعنى والجوهر الإنساني في تفاصيله الدقيقة..، إنسان بسيط وكبير..
إنسان يمتلك ذاكرة روائية/ سردية يكتنزها في بنية وعيه، وذاكرته العميقة،(المهتمة بالتفاصيل)، تقرؤها وتسمعها وهو يقدم تفاصيل ما يريد قوله بطريقة حكائية/ روائية محببة، ومن هنا كان اصراري وإلحاحي عليه بضرورة أن يستثمر هذه الموهبة، والطافة الإبداعية، وأن يبدأ في التفكير في كتابة سيرته الذاتية، لأنها سيرة خاصة وعامة، سيرة تجمع بين الذاتي والموضوعي والتاريخي، وما إن أمسك باليراع ليكتب أول سطر في أول صفحة حتى كانت "الحياة كما عشتها"، جاهزة خلال قرابة العام-أو أقل- وبتلك السيرة يبدو كأن علوان استكمل كتابة الفصل الأخير من حياته بيننا ومعنا.
علوان، عاشق عظيم للأمل، وللفرح والجمال.
حين أشعر بالحاجة إليه، وإلى رؤيته أذهب إليه حيث يقيم، للاقتراب منه أكثر وحتى أعرف، كيف صار يفكر وهو في مستقره الأخير، وما هو جديده بعد الرحيل، وهل جد شيء في مفكرة جدول أعماله؟
كان علوان يقول لي: " أنا لا أخشى الموت، ولكنني اخاف حتى الموت، من أن يسبقني ملاك الموت، وأنا في طريقي لإنجاز عمل يمنع أو يخفف من تعب انسان مريض يحتاجني.. الآخر الإنسان كان دائماً في خاطره وفي اعتباره ذلكم هو علوان الإنسان، وهو ما نفتقده اليوم.
علوان ذكرى لا تغيب، وحضور لا يتوقف.
وأنا في زيارته، وبقربه، لم أرَ أو أجد ما ينغص فعل الحياة حيث يسكن اليوم، هدوء تام يغطي وجه المكان/ الضريح، أجد طيفه يكسر صمت المكان، وكأنني أمام حياة ثانية، كلها تذكره بما كان له وفيه من بهاء وجمال، هكذا هم الكبار في الدنيا، وما بعدها، يفوح عطرهم بما يليق بالحياة من سمو وجمال، ذلك أنه جسد في سرديته الحياتية، توق خالد لبناء مكان نظيف وجميل خارج المكان السائد، مكان يضمه ويحتضنه لوحده، بعد الوداع الأخير، ولذلك ذهب إلى مكانه الأثير بضمير مرتاح بعد أن أنجز جميع مهماته، والتزاماته تجاه ما يراه واجباً.
علوان اليوم في المكان الذي اختاره له الله في حضرة الحياة، في حضرة عالم خال من تعب الأيام، ومن وجع مناكفات اصطراعات الحياة، والأهم أنني وجدت ضريحه، وقد غسلته السماء بمائها الطاهر والمقدس، وكأن المطر ينطق بالماء، كلمات محبة وغفران وعرفان.
ولا يسعني في ختام هذه التحية/ والمناجاة في ومع الصديق النبيل علوان، في ذكرى رحيله الأولى سوى ترديد القول، الذي قاله: الإمام علي بن أبي طالب: "أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم".
عاش علوان، كبيراً وكثيراً ومتميزاً.. عاش حضوراً لافتاً، وودعنا على أمل اللقاء، وهو اليوم، أكثر حضوراً في الغياب، بدليل هذا اللقاء، وهذه السيرة الذاتية "الحياة كما عشتها".
والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته.