في العام 1953 عاد محمد عبدالقادر بافقيه حاملاً شهادة البكالوريوس في الآداب من السودان ليعمل مدرساً ومساعد مدير المدرسة الوسطى في غيل باوزير، ثم أصبح عقب ذلك بفترة زمنية بسيطة لم تتجاوز العام 1954 مديراً للمدرسة ذاتها التي لعبت دوراً نوعياً بارزاً في حضرموت.
ذلك كان نشاط بافقيه الأول: حقل التربية والتعليم. بافقيه، الذي عرف لاحقاً كمؤرخ وعالم نقوش وآثار مهم، أسس علاقته بالتاريخ ضمن اهتمام "وطني" ورؤية تربوية. بدا ذلك واضحاً لدى المدرس الذي نظم رحلة للطلاب في شتاء عام 1953 لزيارة منطقتي المشقاص والشحر، ليعقبها برحلة أخرى وهو مدير في العام 1954 لزيارة معبد ومقابر حريضة والآثار في وادي حضرموت.
عين بافقيه ناظراً للمعارف في السلطنة القعيطية عام 1962. وفي تلك الفترة أسس متحف المكلا. وبعد إنجاز الاستقلال عن بريطانيا عُين كأول وزير للتربية والتعليم في الحكومة، ومسؤولاً عن المتاحف والآثار؛ الأمر كان متساوقاً بالنسبة له. الرجل الذي كان معنياً بالتعليم لم يغفل عن تولي مهام تتعلق بالتاريخ، ذلك شأن جوهري ويتعلق برجل استشعرت ضمنياً وجود تحيزات وطنية في أدائه البحثي والعلمي في الشأن التاريخي، وهي تحيزات، وإن تم الإقرار بها، لم تنل من علميته وموضوعيته البحثية.
لقد أفصح بافقيه عن رؤية تحديثية باكرة في مجتمع محافظ بشدة في نهاية الخمسينيات ومطلع الستينيات في كتابته الصحفية، وأبدى سخرية رفيعة من الجهالة وانخفاض الاهتمام بالتعليم، متناولاً بخفه ذكية تناقضات "الرؤى المحافظة" المعزولة عن تطورات العلم والعالم في تلك الفترة، فيصبح الموقف من السينما وتخطيط مدينة المكلا وعدم تعليم الأطفال. موضوعات لاذعة تناولها بكتابه رائقة في العديد من المقالات التي كتبها في صحيفة "الرائد" ونشرها لاحقاً في كتاب "صاروخ إلى القرن العشرين".
لقد شكل بافقيه نموذجاً لمثقف ذي أدوار متنوعة تأسست رؤيته الوطنية ذات الطابع التحديثي على أولوية التعليم. وساهمت هذه الأولوية في بناء علاقة مميزة بالتاريخ ابتدأت بالرحلات المدرسية للطلاب أثناء التدريس لتخلص محصلتها النهائية ببافقيه المؤرخ وعالم التاريخ والآثار الذي أعادت رؤيته التاريخية ومساهمته العلمية النظر في تاريخ ممالك جنوب الجزيرة العربية برمته.
*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009
بافقيه: المؤرخ باعتباره في الأصل تربوياً
2023-02-23