تعرف منير عربش على بافقيه في العام 1989. كان ذلك أثناء العمل معاً في بعثة يمنية فرنسية مشتركة عملت على النقوش القتبانية في بيحان. تلك البعثة كانت أول اكتشافاته لليمن التي استمرت أكثر من عشرين عاماً حتى الآن، وكانت أيضاً تدشيناً لعلاقة عمل وصداقة، يصفها بالحميمة، مع د. محمد عبدالقادر بافقيه، الرجل الذي قال إنه "يستمع" فقط حين يكون بمعيته، تقديراً لأهمية ما يقوله.
يستعيد عربش في هذا الحوار بعض تفاصيل علاقته مع بافقيه وأدواره، ويقدم رأياً مهنياً، وهو المؤرخ والباحث البلجيكي من أصل سوري الذي يعمل في المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء، في تجربته ومنجزه العلمي.
> متى تعرفت إلى الدكتور محمد بافقيه؟ وماذا كان انطباعك الأولي عنه؟
– تعرفت على المرحوم الدكتور بافقيه في بداية التسعينيات في عدن وفي وادي بيحان عند المسح الأثري أثناء مشروع النقوش القتبانية، كنت ضمن البعثة الفرنسية، وكان بافقيه صاحب المشروع. كنت أحضر رسالة الدكتوراه حينها وفي بداية اكتشافي لحضارة اليمن، وكان بافقيه صاحب رؤية لتاريخ اليمن ولديه حس وطني بضرورة الحفاظ على هذا التراث ودراسته.
هذا الانطباع ترسخ في السنوات اللاحقة، ارتبطت مع بافقيه بعلاقة صداقة حميمة واحترام متبادل، وعندما كنت ألتقي معه في باريس أو في منزله في عدن كنت أصغي إليه فقط، لأنه الوحيد فعلاً الذي لديه رؤية تاريخية لكيفية قراءة النصوص القديمة، وعنده معرفة موسوعية بالنصوص العربية، وهذا طبعاً شيء جديد بالنسبة للمؤرخين العرب، أنهم يقرؤون النصوص العربية على ضوء التاريخ القديم، على ضوء الاكتشافات النقشية، وهذا طبعاً يعطي آفاقاً جديدة للبحث العلمي وللباحثين العرب.
> بماذا تفرد قياساً بالمؤرخين اليمنيين الآخرين؟
– كان المرحوم بافقيه الوحيد كمؤرخ يمني وعربي لديه رؤية تاريخية لتاريخ ممالك اليمن القديم. هناك علماء يمنيون آخرون، مثل الدكتور يوسف محمد عبدالله والأستاذ مطهر الإرياني والدكتور عبدالله الشيبة وآخرين، تعلموا على أيدي هؤلاء العلماء، فمثلا الدكتور يوسف عبدالله لديه رؤية أدبية ولغوية للحضارة القديمة من خلال قراءة النقوش المسندية القديمة، فهو يقرأ النصوص من خلال اللغة ومن خلال المصادر العربية.
أما الدكتور بافقيه فكان لديه رؤية تاريخية للأحداث وهذا شأن لا يتوفر لدى الجميع. وأعتقد أن الرؤيتين مكملتان لبعضهما، وأكثر العلماء الأجانب المختصين بتاريخ حضارة اليمن ليست لديهم كلهم هذه الرؤية التاريخية، وهذا فارق حقيقي، وطبعاً استفاد الكثير من الباحثين الأجانب وخصوصا الأستاذ الدكتور كريستيان روبان الفرنسي، الذي لديه هو أيضا رؤية تاريخيةً لكن مع قراءات مختلفة للنقوش، ولكن الاثنين لعبا دوراً كبيرا في إعادة النظر بتسلسل تاريخ حضارة الممالك العربية الجنوبية للقرون التي تلت العهد الميلادي.
> إذن فإن امتلاك بافقيه لرؤية تاريخية هو الذي ميزه عن الآخرين؟
– كان لا يحمّل النصوص أكثر مما تحتمل. القراءة التاريخية هي عندما يكون لديّ نقش جديد: في أي وقت نضعه؟ بأي مكان؟ بأي تسلسل؟ ولماذا؟ وما هي الثغرات؟ وما هو المؤكد والافتراضي؟ وما هي الفرضيات المختلفة؟ طبعاً أول كتاب أصدره حول نقوش وآثار العقلة في 1967 أظهر ذلك. كان واضحاً امتلاكه لهذه الرؤية والقراءة التاريخية، وأن لديه الوعي بوجود ثغرات كبيرة في هذه النصوص، والمؤرخ لا يمكن أن يزيد على النصوص أو يضيف معلومات غير موجودة بالنصوص.
وطبعاً للمؤرخ بافقيه دور كبير في إعادة تسلسل تاريخ الممالك العربية الجنوبية من القرن الأول إلى القرن الرابع، بفضل النقوش الكثيرة التي اكتشفها مع العالم الفرنسي روبان في موقع المعسال في محافظة البيضاء، والتي ساعدتهما على اقتراح تسلسل جديد.
العلماء الأوروبيون حتى الثمانينيات كانت لديهم نظرات أخرى، وقراءة أخرى للنصوص، وتسلسل آخر للممالك. وكتابا بافقيه "تاريخ اليمن القديم" و"توحيد اليمن القديم" مرجعان مهمان لجميع العلماء، ولقد تقدم برسالة دكتوراه إلى جامعة السوربون بفرنسا عرض فيها هذا التسلسل الجديد لأحداث القرون الثلاثة الأولى للميلاد. وهذا التسلسل الزمني يعتمد عليه كل الباحثين اليوم بالرغم من وجود بعض الثغرات في النقوش.
> واضح من خلال قراءة أعمال بافقيه اعتناؤه بنقاش وتغيير الكثير من الأفكار الواردة في مؤلفات المستشرقين عن تاريخ اليمن، ما انعكاس ذلك على أدائه واهتماماته العلمية؟
– لنكن صريحين، عندما جاء المستشرقون إلى اليمن في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كانت الفكرة هي قراءة نصوص تاريخ اليمن القديم من خلال التوراة، هناك من الباحثين من يرون ضرورة قراءة تاريخ اليمن ضمن سياق تاريخ الشرق القديم، وهذا لا مانع فيه، ولكن أن تسلِّط القراءة التوراتية على النصوص العربية الجنوبية فهذا يأخذك في متاهات لا نهاية لها. هناك مشكلة حتى الآن هي تاريخ الملوك المذكورة في التوراة، وبالتحديد سليمان الحكيم. عندما أتى الأمريكان في خمسينيات القرن الماضي، كان لديهم فكرة واحدة فقط، وهي إثبات وجود بلقيس، ومن خلاله سيتم بذلك إثبات وجود سليمان. طبعاً اكتشفوا نقوشاً مهمة وآثارا مهمة، ولكنهم لم يحصلوا على دليل صريح على وجود ملكة في ذلك الوقت، أي القرن العاشر قبل الميلاد.
الآن كل الاتجاهات والمدارس الأوروبية سواء الفرنسية أم الألمانية أم الايطالية أم الروسية أم حتى الأمريكية تصب في مصب واحد وهو التمييز بين النصوص الدينية والنصوص التاريخية، وكل الاكتشافات الأخيرة تؤكد أن اليمن كانت مهد حضارة عريقة عراقة حضارات الشرق القديم، وأن القراءات التوراتية ناقصة وأنها اليوم انتهت كقراءة تاريخية لأحداث الشرق القديم.
المؤرخ بافقيه لعب دوراً كبيراً في إعادة قراءة الاكتشافات لنصوص محرم بلقيس التاريخية التي اكتشفتها البعثة الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان له من البداية رؤى واضحة وتاريخية لا تأتي في سياق التعصب لليمن، بل لكونه باحثاً مؤرخا يهتم بكتابة تاريخ اليمن القديم. لقد لفت الأنظار منذ البداية إلى وجود إشكالات في تسلسل تاريخ الممالك العربية الجنوبية، وفي قراءة النصوص، وهو يتقن جيداً قراءة النصوص العربية الجنوبية والنصوص العربية.
واليوم فإن إعادة قراءة النصوص العربية والإسلامية من خلال النقوش العربية الجنوبية تعزز إلى حد كبير ما دونه المؤرخون العرب. طبعاً أضافوا قصصاً وأساطير، ولكن الحوادث الأساسية الرئيسية التي سبقت الإسلام بعدة قرون قد أكدتها النقوش وهذا يدل على أنه كان يوجد مدرستان: مدرسة كتابة، ومدرسة شفوية. الهمداني يذكر شخصيات عاشت قبله ما يقارب ألف عام، وهذا مما يؤكد أن ذاكرة الشعوب كانت حية ومازالت كذلك.
> ما هي باعتقادك مساهمة بافقيه الأبرز؟ هل كانت على مستوى المنهج مثلاً؟
– لقد كان منهجه التاريخي مختلفاً على المستوى اليمني والعربي. هناك مؤرخون عرب كبار، مثل فيليب حتّي وجواد علي وعمر كحالة وحسين مروة وعرفان شهيد وآخرين كثر، لكنهم لم يكونوا يتقنون قراءة النصوص العربية الجنوبية بشكل جيد، ولذلك أقول إن بافقيه لعب دوراً كبيراً في تأسيس مدرسة تاريخية عربية حول النصوص القديمة التي كانت محصورة فقط عند المستشرقين، وهذا مهم جداً. اليوم هناك يمنيون يقرؤون النقوش ولديهم رغبة في التعلم، ولكن للأسف أن المؤرخ بافقيه لم يكن لديه طلاب كثيرون ولم يدرِّس أو يعطِ محاضرات بشكل مستمر في الجامعات، وهذا أمر كان سيخلق فرقاً حقيقياً. تتم الاستفادة الآن من الكتب التي أنجزها والتي تعتبر لنا صرحا علميا كبيرا. وهو في السنوات الأخيرة كان متعباً صحياً، ولكن أتمنى اليوم أن تتم الاستفادة من المنهج الذي تركه في مؤلفاته العلمية من قبل الباحثين اليمنيين والعرب.
> هل يمكن التقاط دوافع أو تحيزات وطنية أو قومية عربية في عمل بافقيه البحثي ومساهمته العلمية؟
– كان بافقيه يؤلف قبل وفاته كتاباً عن نشوء (فكرة) التوحيد، في شبه الجزيرة العربية بشكل عام وفي اليمن بشكل خاص، وكانت لديه قراءات عن تاريخ الأديان في الجزيرة العربية تقول بوجود توحيد عربي قبل الإسلام ومختلف عن التوحيد اليهودي أو النصراني. نستنبط من قراءاته هذه أنه يميل لهذا الرأي، وهو ميل طبيعي لا يعني التعصب لليمن، فهذه قراءة خاصة به حول ديانات الممالك العربية الجنوبية وخصوصاً حول الإله "ذو السماء" أي رب السموات.
عند التوحيديين هذا الإله (ذو السماء) موجود في اليمن منذ القرن السابع قبل الميلاد، ولا أعتقد شخصياً من خلال النقوش التي بين أيدينا أن هناك توحيدا في اليمن في ذلك الوقت. نعرف أن التوحيد أتى لليمن رسمياً وشعبياً في أواسط القرن الرابع للميلاد وهذا ما تؤكده النقوش والمصادر العربية. بالتأكيد هناك نظرة عربية، في شبه الجزيرة العربية، لعالم الآلهة، مختلفة عن نظرة اليهود أو النصارى، وهي مختلفة أيضاً عن نظرة البابليين والأشوريين. إذن، لا يمكن القول بوجود ميول "وطنية" لبافقيه في هذا المجال. وبرأيي أن المؤرخ بافقيه كان لديه هذه الفكرة التي يمكننا قبولها أو رفضها مع إعطاء الدلائل والبراهين…
> أنت قلت إن من المؤسف أن بافقيه لم يدرس طلاباً، هل يمكن القياس على ذلك والقول إنه لم يخلِّف تأثيراً كافياً على الباحثين والباحثات في مجال التاريخ والآثار في اليمن؟
– نعم، للأسف هو لم يدرِّس، ولكن الباحثين اليمنيين يقرؤون كتبه ويستفيدون منها، وتأثيره قائم من هذه الزاوية. هناك علماء يمنيون وأجانب يعملون على تاريخ اليمن والجزيرة العربية ونقرأ كتبهم التي تلعب دوراً كبيراً فعلياً. مثلا العالم الانجليزي ألفريد يبستون كرس كل حياته العلمية لقراءة وفهم النقوش، وبفضله نقرأ النقوش اليوم، وأنا لم ألتق به في حياته سوى مرة واحدة وهو لم يقم بالتدريس إطلاقا، ولكن أعماله مرجع أساسي في البحث العلمي حول لغة وقواعد النقوش المسندية.
> كيف في تقديرك يمكن الاستفادة من تراث بافقيه، سواء على مستوى الجامعات أو المراكز البحثية، أم على أي مستوى آخر؟
– بداية يجب علينا بذل كل ما يلزم للحفاظ على مكتبة المرحوم بافقيه. وهي مكتبة غنية بكل المصادر والمراجع التي تناولت اليمن، وهذا يجب أن يتم عبر التواصل مع عائلة المرحوم، سواء بإنشاء مكتبة باسمه أم غيره، المهم هو أن نبذل كل جهد للحفاظ عليها وأن تكون في متناول الباحثين والطلاب اليمنيين، ويكون مقرها في جامعة عدن أو المكلا أو غيرهما.
المهم على الحكومة اليمنية أن تقوم بأي شيء للحفاظ على مكتبته قبل أن تندثر أو تتبعثر هنا وهناك. العالم البلجيكي جاك ريكمانس بعد وفاته جزء من مكتبته معروضة للبيع، والمكتبة هذه تضم الكثير من الكتب النادرة، وفي بلجيكا ليس هناك من الطلاب الذين يهتمون باليمن، ولكن يفترض أن كل اليمنيين المهتمين بتاريخ اليمن يجب علينا أن نقوم بشيء ونحصل على المكتبة القيمة لليمن.
لذلك يجب التواصل مع عائلة المرحوم وصديقه وصديقي الدكتور أحمد باطايع للقيام بإنشاء مركز ومكتبة لبافقيه مثلاً، وتكون في متناول الباحثين، فهذا مهم جداً. طبعاً كتاباه "تاريخ اليمن القديم"، و"توحيد اليمن القديم" المترجم من الفرنسية والذي نشره المعهد الفرنسي للآثار بالتعاون مع الصندوق الاجتماعي للتنمية، يدرس للطلاب في جامعات صنعاء وعدن وتعز وذمار، خصوصاً بعد ترجمته للعربية ليكون في متناول الباحثين.
وللأسف طلاب الدراسات العليا والدكتوراه لا يتقنون أية لغة أجنبية، وهذه كارثة. كيف يعمل مثلا طالب رسالة دكتوراه حول أي موضوع في العلوم الإنسانية والاجتماعية إذا كان لا يعرف ما الذي كتب في موضوعه بالانجليزية أو بالفرنسية أو بالألمانية، وتعلم اللغة الأجنبية سهل جدا في اليمن إن كان في الجامعة أم في المراكز الثقافية الأجنبية. الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه حظي بشهرة عالمية لأنه كان يكتب بالفرنسية ويتكلم الانكليزية، وكان يحاضر ويعرِّف بتاريخ هذه الحضارة بفضل هذه اللغات.
> هل كان سيختلف تأثير بافقيه لو كان مارس مهامه ونشاطه في بلد آخر، غربي أو عربي؟
– اليمنيون والأوروبيون ينسون أنه قبل ثلاثين سنة لم يكن يوجد شيء في اليمن. لم تكن هناك مؤسسات علمية، وكان العلم محصوراً على عائلات علم مثل عائلات الأكوع والإرياني والسقاف والحبشي والمقحفي، وغيرها، هذا العلم القديم والمحصور لم يحل بدله علم حديث بمناهجه وبشكل كامل وبفروعه المعروفة، والمشكلة قائمة حتى الآن، وهذه ليست فقط في اليمن بل في كل العالم العربي، لم يتم إحلال العلم الحديث بمناهجه وبأدواته العلمية وبانفتاحه على العلوم الأخرى محل المدارس القديمة بمناهجها المعروفة.
كل هذا يجب ألاَّ من يمنع إنشاء جيل جديد مثقف ومتعلم، وهذا الجيل الجديد ينشأ تدريجيا في مجال الدراسات والبحوث التاريخية. هناك أفراد محدودون مؤهلون ولديهم كل الإمكانيات الفكرية للقيام بالبحث العلمي، وهذا أمر يحتاج إلى مؤسسات وأفراد، ففي فرنسا مثلا هناك علماء كبار يعيشون منعزلين ولا نعرفهم إلا من خلال مقالاتهم، هذه مشكلة العلماء الكبار عادة، وأولئك الذين أنشؤوا مدارس هم قلة، لماذا؟ في مجال الدراسات حول الحضارة المصرية مثلا هناك مدارس ومئات العلماء على مستوى العالم مهتمون بهذه الحضارات، ويجب ألاَّ ننسى أن اليمن حتى الآن ليست معروفة في المحافل الدولية والبحث العلمي مازال في بداياته، ومازلنا في بداية الاكتشافات. أما مصر والعراق وسورية واليونان فالحفريات العلمية والاكتشافات الغزيرة بدأت منذ 200 عام.
> عملت أنت وبافقيه في بعثة يمنية وفرنسية مشتركة منذ التسعينيات من القرن الماضي لمسح النقوش القتبانية، في منطقة بيحان، كيف رأيته في الميدان قياساً به كمؤرخ؟
– بافقيه كباحث وعالم ومؤرخ كان يعمل ميدانياً وبحثياً، وظهر ذلك منذ أن أصدر كتابه الأول حول نقوش موقع العقلة بالقرب من موقع شبوة القديم. وكان لكل شيء بالنسبة له دليل أثري من الواقع، أي أننا نقرأ الآن تاريخاً من خلال الواقع الأثري والواقع النقشي. بافقيه يكتب التاريخ من خلال الوقائع الأثرية والنقشية، وكان بافقيه عالماً في التاريخ اليمني القديم، وحين يكتشف في الموقع نقشاً جديداً يعطيك الإطار التاريخي له، ومن أي فترة وغيره. إن تجربة العمل معه متعة حقيقية. للأسف لم يرافقنا دائما بمواسم المسح الأثري والنقشي بسبب انشغاله المستمر ووضعه الصحي.
> واجهت مجلة "ريدان" صعوبات، وهي تكاد تكون الدورية اليمنية الوحيدة حول الآثار ولم تنتظم في إصدارها، ولعبتم في المعهد الفرنسي دوراً في دعمها. حدثني عن "ريدان" وأهميتها، ولماذا الاحتياج لها؟
– "ريدان" كانت فكرة بافقيه والمرحوم عبدالله محيرز والمرحوم محمود الغول الأردني الأصل، هذا من الجانب العربي، وعلماء أوروبيين مثل المرحوم جاك ريكمانس البلجيكي وبيستون البريطاني والألماني موللر والفرنسي روبان. وكانت الفكرة إعطاء تصور عن الآثار اليمنية من خلال نتائج الحفريات العلمية مباشرة إلى الباحثين الأوروبيين والعرب. كلما تحدث حفريات ومسحا أثريا سنويا يتم نشر نتائجه فوراً بمجلة "ريدان".
إنها مجلة مهتمة بمتابعة نتائج البحث العلمي الأثري في اليمن. طبعاً صدرت أعدادها الأربعة الأولى في بلجيكا، وحظيت باستقبال كبير في المحافل العلمية العربية والدولية، في الأعداد الأولى لقيت نجاحاً كبيراً، وكانت طباعتها جيدة، بعد ذلك طبعاً عاد بافقيه إلى عدن وأسس "مؤسسة ريدان" وصارت هناك صعوبات في الطبع. وطبع العدد الخامس في عدن ضمن الفكرة نفسها.
ولم يكن هناك مقالات كثيرة وغنية بالمعلومات الجديدة، وبعدها طبع العدد السادس في فرنسا و"مؤسسة ريدان" كانت قد أغلقت، ولكن أنا كنت في مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي والإسلامي بإكس إن بروفانس- مرسيليا، الذي اشتغل فيه فأبدى استعداده لطباعتها في مرسيليا بالتعاون مع العالم كريستيان روبان صديق المرحوم بافقيه، وأصدر العدد السادس، واضطررنا لطباعة العدد السابع هنا في صنعاء بعد وفاة صاحب مطبعة مرسيليا، وهناك مشاكل كثيرة منها غياب المؤلفين العرب.
لا يصح أن يكون هناك مؤلف واحد. غياب الجانب اليمني كان جانباً سلبياً جداً. العدد الثامن أقوم بتحضيره الآن. منذ سنوات أحضره ولكن المشكلة نفسها قائمة، هو جاهز تقريباً. أنا مستعد بالطبع لكتابة مقالة أو اثنتين، ولكن ليس لكتابة كل شيء، وهو سيصدر من المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء بالتعاون مع المركز الوطني للبحث العلمي بباريس. العدد التاسع قررنا أن نعمل مجلة يمنية، أي بالعربي، وتترجم فيها أهم المقالات من اللغات الأوروبية.
> كان بافقيه ذا استقلالية عالية تجاه الأطر الرسمية، رغم تسلمه مواقع حكومية مهمة، لماذا هذا مهم بالنسبة له كباحث ومؤرخ؟
– في الواقع إن استقلالية الرأي عند المرحوم بافقيه في ذلك الوقت أتت بآثار سلبية عليه وعلى الهيئة العامة للآثار والمتاحف التي كانت تابعة لرئاسة الجمهورية. ولأكون صريحاً معك أيضا فإن أغلب الباحثين وخصوصا المؤرخين مثلي غير قادرين على إدارة مؤسسات، لأنهم بكل صراحة ليس مجالهم إدارة الأعمال، وإدارة المؤسسات علم ومهنة قائمة بذاتها، والمؤرخ بالتأكيد ليس مجاله إدارة الأعمال والمحاسبة وشؤون الموظفين، ويمكنه يوما ما دراسة تاريخ نشوء المؤسسات الحكومية مثلا… وهناك الكثير من المشاكل التي تنشأ.
بافقيه حين استلم الهيئة العامة للآثار، كنا سعيدين بذلك لأنه عالم كبير ومتفهم وحريص على التراث الحضاري اليمني، ولكنه في الوقت نفسه كان سياسياً وذا استقلالية بالرأي ومن خلال لقاءاتي معه وكيف يدير الأمور، وفيما يتعلق بالهيئة كمؤسسة مسؤولة عن الآثار في اليمن ومسؤولة على تأهيل كوادر أيضاً، فالأمر لم يكن سوى عمل إداري روتيني يطغى على فكرة حماية الآثار ودراستها، وهذا أدى إلى نتائج سلبية على بافقيه وعلى المؤسسة، خصوصاً أن هناك الكثير من المشاكل الإدارية والروتينية ذات الخصوصية في اليمن.
لقد كانت تجربة بافقيه في الهيئة تجربة سيئة سببت إحباطاً له وقرحة المعدة… كباحث ومؤرخ لو كنت مكانه كنت سأصاب بأكثر من الإحباط أيضاً، وحتى من غير أن أكون رئيس هيئة هناك إحباط في إدارة آثار حضارة اليمن والأمر ليس بالسهل، فالهيئة تتطلب إمكانيات مادية وسياسية وإدارية لكي تقوم بدورها الموكل إليها وهذا لا يتم بين ليلة وضحاها…
> ماذا تريد أن تضيف عن بافقيه؟
– العالم والمؤرخ محمد عبدالقادر بافقيه رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، توفي، ولكن أعماله باقية سيستفيد منها طلاب العلم والمعرفة، ونحن ندين له بالكثير وأنا بشكل خاص كباحث ومؤرخ وصديق له ولعائلته، لما قدمه للمكتبة اليمنية وللدراسات التاريخية لحضارة ممالك اليمن وللبحث العلمي.
*نشر في العدد (187) الموافق 11مارس 2009