قبل نحو عقدين من السنين جاء إلى متحف سيئون الأستاذ القدير فيصل بن شملان، فألقى نظرة سريعة عامة لصالة الآثار القديمة وسأل ليرى نموذجاً معيناً من العملات القديمة التي ضربت في القصر الملكي (شقر) في شبوة عاصمة دولة حضرموت القديمة، لأن صديقه الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه لديه دراسة في التاريخ القديم، وكان يعلم أن مواطنًا من منطقة خريخر قرب الهجرين عثر على كمية من العملات البرونزية القديمة على مقربة من منزله وسلمت إلى المتحف أو كان يتوقع أن تسفر الحفريات الأثرية بمدينة ريبون التي تجريها البعثة العلمية اليمنية السوفييتية عن العثور على نموذج مثالي لتلك العملة التي إذا ما وجدت واضحةً وحصل الأستاذ على صورتها ستحل له بعض المسائل العلمية في بحثه العلمي.
شيء لا يستغرب أن تكون عملة لا تزن أكثر من ثلاثة جرامات من البرونز مجال اهتمام الباحث الكبير د. بافقيه ويشاركه الاهتمام صديقه الوزير بن شملان (الذي صار يوما قاب قوسين من رئاسة الجمهورية اليمنية). أكبرت هذا التعاون، إنه لموقف فيه درس في الأخلاق والبحث العلمي.
كنت أهتم باسم الأستاذ بافقيه من خلال بعض الخطابات التي وجهها إلى سيدي الوالد رحمه الله. لم أعِ تفاصيل مضمون تلك الرسائل، ولكنها تصب في مسيرة جهود المثقفين في تكوين وعي شعبي لمرحلة الاستقلال الوطني. وعرفت أنها من شخص مهم هو الأستاذ محمد عبدالقادر بافقيه. هكذا كنت أعرف الأستاذ بافقيه كشخصية وطنية صاحب كتاب "تاريخ اليمن القديم"، وباحث رائد في علم الكتابات اليمنية القديمة. ولم يتيسر لي أن أره إلا في مكتبه في مبنى الهيئة العامة للآثار والمخطوطات والمتاحف وهو رئيسها، حيث شكلت الوحدة اليمنية وحدة للمؤسستين المتناظرتين في شطري الوطن، في جنوبه المركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، وفي شماله الهيئة العامة للآثار والمتاحف والمخطوطات ودور الكتب.
وكنت موظفًا ممن كلفوا بعد الوحدة اليمنية بمهمة عمل إدارية في ديوان الهيئة بالعاصمة.
عملت في إدارة المتاحف إلى جانب مهمة سكرتير لجنة المقتنيات الأثرية والتراثية والمخطوطات، وهي لجنة يرأسها الأستاذ الدكتور بافقيه، الأمر الذي أتاح التعرف عليه أكثر، فمهمتي عمل التوثيق الأولي للمواد التي ترد إلى اللجنة ووضع البيانات بعد تأكيد صحة، كونها أثرية، وتحديد الفترة الزمنية والتقييم الفني الأولي لها، مما يساعد رئيس وأعضاء اللجنة ويختصر الجهد والوقت.
أتاحت لي مهمتي هذه العمل مع رئيس الهيئة بشكل مباشر، حتى أني في كثير من الحالات أعمل بشكل مؤقت كمدير لمكتبه، ومن قرب عرفت ومضات من حياته ومواقف توضح شخصية تجمع بين الجد إلى حد الصرامة، والبديهة الحاضرة في ابتكار النكتة المرحة والتعليق اللاذع والصبر على الآلام بأنفة وكبرياء. وخلال عمله في هيئة الآثار والمتاحف استطاع أن يبني لها بنية تحتية وامتيازات وتنشيط الأبحاث العلمية من خلال تنظيم البعثات الأجنبية. وفي تلك الفترة انطلقت أبحاث دراسة عصور ما قبل التاريخ التي توسعت في البلاد اليمنية في السهول والهضاب والصحارى والجبال في كل مكان يمكن البحث فيه، مما يؤيد فرضية أن اليمن كانت من أقدم مواطن الإنسان على الأرض.
كان الدكتور بافقيه مسكوناً بتفسير المعلومات التاريخية الواردة في القرآن الكريم والمصادر الدينية والكلاسيكية العربية والأجنبية بشواهد الآثار التي تستكشف تباعًا في البلاد.
استطاع د. بافقيه أن يبني للهيئة بنية تحتية وحضورا كبيراً في كيان وزارة الثقافة، وإلى جانب ذلك حضورا متمكنا وفاعلا في المؤتمرات العلمية في العالم العربي والعالم. وقد فعّل عدة مشاريع من البحث العلمي والدراسات، كدورية "ريدان" التي تعنى بنشر المستجد من دراسات الآثار، وانطلاقة عدة برامج دراسات أهمها دراسة العصور الحجرية. كما أسس الدكتور بافقيه مجلس إدارة للهيئة، إلا أن ذلك المجلس لم ترسخ لائحته وللأسف. بدا لي في بعض المواقف أن هذا الرئيس أشبه بقائد أوركسترا متمكن وواثق من نفسه وقف على المسرح أراد أن يقدم العرض ولكنه لم يدرب فرقته قبل العرض واكتفى بأنه يعلم أن لدى كل منهم كراس النوتة.
وقد كان الدكتور يتحدث عن كتاب على سطح مكتب أفكاره ويعمل على إنجازه خلال أوقات يقتطعها من وقت راحته، ولكن الوظيفة الرسمية وتعقيدات العمل لم تتح له وقتاً كافيًا للراحة من جهة، ومن جهة أخرى فإن حالته الصحية المعقدة التي استعصت على الأطباء فلا يواجهها إلا بالصبر وتجاهل الأعراض.
كان موضوع ذلك الكتاب "التاريخ العربي قبيل الإسلام"، ومادته مبنية على كثير من المعلومات المستجدة مما توصلت إليه الدراسات الأثرية والنصوص المكتوبة بالمسند المكتشفة في الجزيرة العربية والتي لم تتح للباحثين والمؤرخين من قبل، بينما أتيحت لنفر قليل من الباحثين في مجال المسند (اللغة العربية الجنوبية القديمة) أكثرهم من الغربيين وقليل من العرب واليمنيين يكون الدكتور بافقيه حينذاك أفقههم في علوم اللغة العربية الفصحى والتاريخ الإسلامي المبكر وجغرافية الجزيرة العربية.
إن دراسة هذه الفترة بالغة الأهمية من التاريخ العربي والأرضية التي تأسس عليها المجتمع الإسلامي من قبل باحث مقتدر ومتمكن أمر بالغ الأهمية وسيفضي إلى كتاب تحتاجه جدا المكتبة العربية والإسلامية. وأحسب أن مشروعًا بهذا القدر من الأهمية قد وصل إلى مراحل متقدمة منذ تلك الفترة من العام 1993حتى وفاته في العام 2002، رحمه الله، ولو لم يستكمل هذا الكتاب فإن الفصول الميسورة منه تغني عن كثير من الكتب في المكتبة العربية، ولو أن بعضا من الأفكار التي يحتويها الكتاب قد نشرت في مقالات ودراسات متفرقة.
وللدكتور بافقيه رؤية في توظيف المعارف التاريخية في صياغة الواقع ورسم ملامح المستقبل بآلة عصرية يطرح دائما قضايا منها حتمية قيام تعاون بين المشتغلين بالآثار في دول شبه الجزيرة العربية كلها قبل أن تختفي المواقع التي أصبحت مهددة بالتدمير وخاصة في اليمن نتيجة لزحف العمران على الأقل.
ومن ذلك المنطلق فقد أطلق بافقيه دعواته في عدد من المؤتمرات العربية إلى اعتبار الحقائق التاريخية المشتركة للبلاد العربية ثوابت للتنمية والتعاون والشراكة العربية. ومثالا على ذلك: يطلق على أسواق العرب القديمة التي كانت تتنقل في مدن الجزيرة العربية "السوق العربية المشتركة" مع عدم إغفال ضرورة توسع سوق الحديثة كل البلاد العربية لتشمل شمال أفريقيا وشرقها.
رحم الله محمد عبدالقادر بافقيه وجعل تراثه علمًا ينتفع به وأثابه عليه أجرًا جزيلاً إنه واسع الرحمة كريم منان.
*نشر في العدد (187) الموافق 11 مارس 2009