صنعاء 19C امطار خفيفة

أمين - قصة قصيرة

2022-12-27
سُمع صراخ الجارة حتى نهاية الحارة وهي تصبُّ لعناتها على من تعرف ومن لا ‏تعرف، فقد خرجت إلى "الحوش" كعادتها عصر كل سبت لتنشر الغسيل، ‏واستوقفتها رائحة قوية أزكمت أنفها، وقلبت معدتها في لحظات، بحثت عن ‏مصدر الرائحة الكريهة، ولم تصدّق في بادئ الأمر ما تراه، رأت قطعاً بُنّية ‏مخروطية الشكل تتوزع بشكل عشوائي ما بين باب بيتها وحبال نشر الغسيل.‏

‏ انفعلت ولعنت بأعلى صوتها، حتى احمرّ وجهها وانتفخت عروق رقبتها، ‏وضعت سلة الملابس بحذر شديد على الأرض وأخذت تمشي قفزاً بين القطع ‏البنية وكأنها تمشي في حقل ألغام! جمعت ملء كفيها حفنةً من التراب الجاف، ‏وقامت برشِّه على الأذى وهي تشتم وتسب بأقذع ألفاظ السباب جيرانها الذين لا ‏يعرفون كيف يربُّون أولادهم، لم يعد لديها أولاد صغار، أصغر طفل لها عمره ‏عشر سنوات، وهذه لا بد من أنها فعلة طفل صغير في السن يسرح ويمرح بلا ‏حسيب ولا رقيب، لم تتوقف عن التمتمة والشتم ومن شدة غيضها وحنقها لم تنتبه ‏إلى كومة بنية زلقة لم تغطَّ بالتراب، داست عليها ووقعت على الأرض في مربع ‏القطع الحلزونية الطرية.‏

جرى تحقيق في العمارة من يكون يا ترى الطفل أو الطفلة صاحب الفعلة الغير ‏نظيفة، لكن الجميع أكدوا أن أبناءهم لا يمكن أن يقوموا بفعلة مثل هذه، ودون ‏تخطيط أتفق جميع من في العمارة بأن الفاعل لابد أن يكون طفل من خارج ‏العمارة، ربما دخل للبيت أثناء نسيان الباب مفتوحاً أو موارباً، وقام بفعلته ‏الشنيعة هذه، ودارت حرب حامية الوطيس واتهامات وتراشقات متبادلة عن ‏نسيان باب العمارة مفتوحاً لمن هب ودب.‏

‏ تحول مسير النقاش إلى هذه النقطة وتجاهل النقطة الأولى، جعل الدم يغلي في ‏عروق صاحبة العمارة، فقد ضاعت قضيتها الأصلية، لهذا لم تتوانَ عن التعليق ‏بصوتها الهادر:‏

‏-‏ يعني من فعلها؟ الرجل صفر*!‏

بعد أسبوع على الحادثة كان جميل المستأجر الساكن في الدور الثاني شقة رقم 2 ‏آخر من نام في البيت وأول من استيقظ، منذ فترة ومواعيد نومه متغيرة، يجلس ‏أمام شاشته المحمولة في الليل بعد أن ينام جميع من في البيت ويستيقظ باكراً ‏ليتجهز للذهاب للعمل، خرج من غرفة النوم وعبر الصالة في طريقه إلى المطبخ ‏ليعد لنفسه شيئاً يأكله قبل أن يغادر البيت، لكن رائحة الصالة كانت لا تطاق، تفقد ‏دورة المياه إذ يمكن أن يكون هناك مشكلة في المرحاض، لم تكن الرائحة تأتي ‏من هناك، بل كانت تشتد كلما اقترب من الطاولة التي يرقد عليها المحمول، كان ‏المحمول في مكانه لم يتحرك قيد أنملة، إلا أنه صار يحمل على سطحه الفضي ‏اللامع بقعة بنية مخروطية الشكل، متماسكة وسيئة الرائحة.‏

توجهت أصابع الاتهام نحو أمين ذو الأربع سنوات، فهو الوحيد في البيت الذي ‏يمكن أن تراودهم الشكوك بشأنه، فأخته الصغيرة سناء عمرها ستة أشهر، أما ‏أخته الأكبر منه بست سنوات واسمها سماء فهي غاية في الوداعة والأدب، ولا ‏يمكن أن تقوم بفعلة مثل هذه، أما الأخت الأكبر دولة، فلم تكن محور شك.‏

‏ لم يحير أمين جواباً بل على العكس من ذلك، تحت تهديدهم له ومحاولتهم ‏استنطاقه بالقوة، زادت تأتأته ولم يقل كلمة واضحة، تعثره في نطق الكلمات ‏تعود لشهور الحرب الأولى عندما كان القصف الليلي على أشده، والكهرباء ‏مقطوعة تماماً، وضوء الصواريخ يشق القلوب قبل أن يُسمع صدى انفجاراتها ‏ويطير بالعقول..‏

‏ حينها كان أمين يدخل في نوبة بكاء حادة، ويظل يرتجف لوقت طويل، بعد ذلك ‏أصبح يتأتئ بشدة ولم يعد يتحدث بفصاحة كما كان، بعد مرور عام على الحرب ‏ونزوحهم إلى أماكن أكثر أماناً، تحسنت حالته قليلاً، إلا أن مجيء أخت جديدة ‏جعلته يعود من جديد للتلعثم في الكلام، ورجح الجميع أن سبب ذلك غيرته ‏الشديدة من المولودة الجديدة، ولكن الأمر أصبح أكثر تعقيداً، لأنه لم يعد يتكلم إلا ‏فيما ندر كلماتٍ بسيطة في أوقات متفرقة، قلة الكلام صاحبها الكثير من الحركة ‏والأفعال الغريبة.‏

‏ ما كان يشغل بال أبويه ليس فعلته بحد ذاتها، ما يشغل بالهما هو أن لا يعرف ‏أحد أن أمين هو من قام بتوسيخ مدخل باب صاحبة العمارة، لن ينالهم منها ‏طيب، وربما طردتهم من البيت شر طردة، أتفق الأبوين على موقف واحد ‏متكاتف، وصارا يتهامسان ويخططان وهذا التقارب الودود كان مفقوداً بينهما منذ ‏الحمل الأخير بطفلتهما الأخيرة سناء.‏



لم تمر أيام كثيرة على حادثة المحمول، حتى صنع أمين حادثة أكثر إزعاجاً لكن ‏هذه المرة في دولاب ملابس أمه، تحديداً على درجها الداخلي الذي يخفي في ‏داخله درجاً سرياً تحتفظ فيه بأساورها الذهبية، جن جنون الأم ودون تفكير أخذت ‏تبحث تحت الوسائد عن عصى الرمان التي تحتفظ بأشباه لها في أماكن كثيرة في ‏البيت، فوق الثلاجة، داخل الغسالة، تحت مفرش الطاولة، خلف التلفزيون، في ‏المزهرية الكبيرة، جوار الأريكة، كانت من شدة غيضها من أفعاله تضربه بقسوة ‏تندم عليها لاحقاً، في لحظة غضبها تمسك بعصى الرمان وترفع ذراعها إلى ‏أقصى اتساع لها وتهوى بها على جلد أمين المسكين الذي يسمع صراخه بعد ‏دقائق من لسعة العصى إذ يسوَدُّ وجهه وتهطل دموعه ويبكي من شدة الألم في ‏الدقائق الأولى بصوت مكتوم

دارت في البيت كله تجمع عصيّ الرمان، ثم تذكرت فجأة أنه ليس في البيت، بل ‏في الروضة، وتساءلت متى فعل فعلته الغريبة هذه، ولماذا في هذا المكان ‏بالذات؟ تحاملت على نفسها لتنظيف ما تلطخ ولكنها لم تتمكن من مقاومة ‏شعورها القوي بالغثيان ركضت إلى دورة المياه واستفرغت كل ما بجوفها.‏

دولة الأخت الكبرى لأمين فتاة مراهقة ومتحكمة في بقية إخوتها، لها سلطة ‏توازي سلطة أمها، لكن الفارق أن سلطتها غير معلنة ولا مكشوفة، تمارسها سراً ‏عليهما، ولا يجرؤ أحد أن يشتكي منها، لأن عقابها أشد إيذاء من عقاب أبويها، ‏تجعل سناء تنظف لها غرفتها وتذهب بها في مشاوير لا حصر لها للبقالة لشراء ‏أشياء لها، وحتى أمين ذو الأربع سنوات لا ينجو من استبدادها به، يرتعد أمين ‏خوفاً من دولة، ومع ذلك لم تنجُ من براثن عاصفته اللولبية، فقد وجدت أدوات ‏التجميل الخاصة بها وقد اختلطت مع برازه المتماسك، كان مشهداً قاسياً للغاية ‏فقدت بسببه وعيها وسقطت على الأرض.‏

لم يعد الضرب والصفع والركل ولسعات عصى الرمان وصوتها المخيف عندما ‏تهوي من الأعلى يجدي نفعاً مع أمين، بل صار أكثر تصلباً وعناداً وتفنناً في ‏اختيار أماكن لا تخطر على البال يمارس فيها شغفه الخاص، الخشية من أن ‏يُكشف جعلت أبويه يقرران أن يمنعانه من الذهاب إلى الحضانة، ومن شدة ما ‏ضاقت عليهما، قررا أخذه إلى عيادة الإرشاد الأسري والنفسي لطلب الغوث ‏ومعرفة سبب تصرفاته الغريبة، وعزوفه الكلي عن الكلام.‏

كانت عيادة الإرشاد الأسري دافئة بألوانها البرتقالية والخضراء ومليئة بالألعاب ‏والوسائد الصغيرة الرطبة على شكل نجوم وقلوب وهلالات، حتى رائحة المكان ‏كانت منعشة، أطلت الطبيبة المختصة تسبقها ابتسامة واسعة فشعر الجميع براحة ‏مفاجئة.‏

شرح الأب ما يفعله أمين وكان يضم قبضتيه من التوتر وكأنه في حلبة ملاكمة ‏يسدد لكمات واهية لخصم غير مرئي، أما الأم فكانت تتكلم وتنقل عينيها بين ‏زوجها والنظر في الأرض، كانت تتحدث بسرعة وتشهق وهي تأخذ النفس، ترد ‏على أسئلة الطبيبة المتمهلة وهي تغالب الدموع أن تتساقط على وجهها.‏

لم تتغير ابتسامة الطبيبة بل لمعت عينيها بتحدي خفي، وطلبت أن تجلس مع ‏أمين فقط، حذرها الأب على الفور من أنه قد يقوم بألاعيب كثيرة فهو طفل لا ‏يؤمن جانبه أبداً لكنها أعطت أمين قطعة شوكولاتة صغيرة، وطلبت من الجميع ‏بلطف شديد مغادرة الغرفة فقد بدأت أول جلسة.‏

أجلست الطبيبة أمين على كرسي صغير مناسب للأطفال وجلست إلى جواره على ‏ركبتيها، رتبت له الصلصال والألوان والأوراق ولاحظت أنه لم يفتح قطعة ‏الشوكولاتة المغلفة بغلاف أحمر زاهي، فأحضرت له قطعة أخرى مغلفة بلون ‏أزرق، رص أمين قطع الشوكولاتة بجوار بعضها والأقلام والصلصال كلها في ‏نسق واحد، ونزل من على كرسيه الصغير ومشى نحوها، توقف قليلاً متطلعاً في ‏وجهها بصمت، مدت إليه يديها، فتعلق برقبتها، ضمته إلى صدرها، تنسم عطرها ‏الخفيف الذي يشبه الحليب والعسل وسرعان ما غرق في النوم.‏

في البيت لم يستجب أمين عندما حاول الجميع معرفة ما حدث مع الطبيبة، ولم ‏يبح بما يجول في نفسه سوى لأخته سماء، وشوشها بكلمتين نطقهما بالكاد:‏

‏-‏ ددددكككتورة ح ح ح حلوة

حل موعد الجلسة التالية أحضرت الطبيبة مزيداً من الصلصال والألوان وقطع ‏الشوكولاتة الملونة، لعب أمين وأكل قطع الشوكولاتة، وعندما انتهت الجلسة كان ‏يبدو منتعشاً، سأل والده الطبيبة: هل تشعرين أن هناك تحسن؟، رسمت ابتسامتها ‏العريضة ملء وجهها وقالت له:‏

‏-‏ ما يزال الوقت مبكراً على معرفة ذلك

وهكذا مرت عشرة أيام توقف فيها أمين عن التغوط في أرجاء البيت، وعاد وجهه ‏يتورد وعينيه تلمع، وبدأ يتحدث مع سماء وسناء فقط، لكن الأب لم يكن راضياً ‏فالطبيبة لم تقل شيئاً بعد عن تشخيصها لحالته، يريد شرحاً واضحاً للمشكلة، ‏برغم أن الطبيبة أوضحت له منذ البداية أنها تحتاج فترة أطول على الأقل شهراً ‏كاملاً لتستطيع أن تقول تشخيصها لحالته

في العشرين يوماً التي تلت، لعبت الطبيبة لعبة رسم الوجوه مع أمين، طلبت منه ‏أن يرسمها وبالمقابل سترسمه، رسم أمين دائرة كبيرة تملأ الصفحة ولونها باللون ‏الأصفر، ضحكت الطبيبة وسألته مندهشة:‏

‏-هذه أنا؟

هز رأسه بالإيجاب وقال ‏

‏-‏ أيوه أنتِ ‏

قبلت الطبيبة خده وأخذت لاصق من درج مكتبها وعلقت رسمه أمين على الجدار

ثم قالت له:‏

‏-‏ أنظر هذا أنت، خذها معك وعلقها في غرفتك

كانت قد رسمت له وجهاً دائرياً مبتسماً

ثم أضافت: ‏

‏ -الآن نرسم أشخاصاً آخرين، ما رأيك أن ترسم بابا؟

فرك أمين خده، وتطلع فيها بعبوس، وأمام تكرار طلبها بصوت لطيف، أخذ قلماً ‏بنياً وبدأ يرسم، غامت عينيه وقد قفزت ذكرى إلى ذهنه، كانت أمه قد وضعت ‏طفلتها الصغيرة سناء، وكان أبوه يتكفل بنشر الغسيل في حوش العمارة كل يوم، ‏لم يكن يسمح له بالخروج معه، كان يبكي كثيراً عند باب الشقة حتى يعود أباه، ‏وفي أحد الأيام نسي أباه أن يغلق باب الشقة جيداً، استطاع أمين الخروج ولحق ‏به إلى فناء الغسيل الذي كان يعج بالملاءات المنشورة، همس بصوت خفيض وقد ‏شعر بالخوف

‏-‏ بابا ‏

خُيّل إليه أنه لمح أباه لكنه لم يكن وحيداً، كان هناك شبح امرأة قريبة للغاية منه، ‏أطبقَت الملاءات على أبيه وشبح المرأة، زاد شعوره بالهلع وفجأة بكى بأعلى ‏صوته

‏-‏ بابا بابا بابا

فجأة أمسكت به يد أبيه فيما نزلت اليد الأخرى على خده بلطمة قوية أخرست ‏بكاءه، لمس خده مرة أخرى وهو يتذكر وجه أبيه المتقد كالجمر وحبات العرق ‏التي تنهمر على جبينه.‏

طلب أمين من الطبيبة أن تعلق صورة أبيه التي رسمها إلى جوار رسمته، وقد ‏فعلت.‏

في يوم آخر وبعد أن لعبا بالصلصال وصنعا نجوماً طلبت الطبيبة من أمين أن ‏يرسم أمه، سحب ثيابه العلوية وأدار ظهره لها لترى آثار لسعات العصا، رغماً ‏عنها فاضت الدموع من عينيها، وهي تضم وجعه إلى قلبها، وتربّت على ظهره ‏الغض المتأذي من لسعات العصي، بعد ذلك أخذ القلم وبدأ يرسم، تذكر عندما ‏أخذ نقودأً من جيب والده حينها نهرته أمه بقسوة وأخذت عصا الرمان وهوت بها ‏على جسده وهي تسب وتشتم، يومها تبول من شدة فزعه على نفسه، لم يعرف ‏لماذا ضربته، لقد فعل ما يراها تفعله كل يوم.‏

في اليوم قبل الأخير طلبت الطبيبة من أمين أن يرسم أخته الصغيرة سنا وأختيه ‏الأكبر منه سماء ودولة، رسم بسرعة والابتسامة لا تفارق وجهه اللطيف زهرتين ‏جميلتين إحداهما حمراء اللون، والثانية وكانت أصغر قليلاً زهرة وردية اللون، ‏وقال لها: هذه سماء وسناء.‏

أما دوله فقد أخذ وقتاً أطول في رسمها، تذكر عندما كانت سماء تلعب في غرفة ‏أختها دولة ولبست قلادتها، وأخذت تتقفز بفرح أمام المرآة، حينها دخلت دولة ‏للغرفة وعندما شاهدت قلادتها على صدر سماء، صرخت في وجهها وشدتها من ‏شعرها وضربتها بعنف، يومها تخبأ تحت السرير وكان يرتجف من الخوف على ‏سماء التي بقيت تبكي لوقت طويل

في اليوم الأخير طلبت الطبيبة من الأب والأم أن يأتيا للعيادة ويحضرا معهما ‏دولة فقط.‏

كانت الأم قلقة والأب متحفز لسماع شرح الطبيبة فيما لم تخفِ دولة نظرات ‏الازدراء. ‏

قالت الطبيبة أنها توصلت بشكل تقريبي إلى سبب تصرفات أمين الفترة الأخيرة، ‏أشارت إلى ثلاث لوحات ورقية معلقة بلاصق شفاف على الجدار، كل اللوحات ‏كانت تحمل نفس الرسمة، شكل هرمي مخروطي بني اللون، واحدة تخص الأب ‏والثانية تخص الأم والثالثة تخص دولة

قالت الطبيبة: ما يقوم به هو أن يوصل إليكم رسالة تحمل كلمة واحدة فقط ‏"أنتم خ ر ا ء"‏.

أقرأ للكاتبة أيضاً: امرأة أخرى!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً